“البراغْماتية” (وليدة المكْيافيلية، ومجالها ليس الحقل السياسي فحسب، بل تشمل الأخلاق والأواصر والقيم) تحكمها عقليةُ النُّهْزةٍ، وروحُ الظفر المتعجل، والمقاصد الاستئثارية. إن المكيافيلية شجرة شؤم، أنبتت غابة من المناهج الذرائعية والمعارف المعاكسة للسواء والحسّ السليم. وبدورها “الدوغمائية” تعني الانسياق الأعمى وراء الفكرة الجاهزة، والخطّ المرسوم، والإذعان للأمر الفوقي. وتقوم على تفريغ عقل الفرد من دينامية النظر، وتجريد حقه في التقدير والاختيار؛ فيجد العقل نفسه في موقف المتلقّي التابع المنصاع.

 “إن العقيدة التي تمجد العرق والسلالة والقومية على حساب الجنس والآدمية، عقيدة تفتئت على الله رب العالمين، وتزرع بذور التنابذ بين الأقوام، وتصادر الطريق إلى الله”.

وهناك “بافْلوفيّة” تؤطر الحراك الدوغْمائي. فللمثير استجابة، وللاستجابة باعث، والحركة والسكون يضبطهما النظام المسيِّر، والجموع مستلبة، لا رأي لها إلا ما يرى الزعيم، وإما تقرّره مشيئته وحساباته وأنانيته، وبذلك تنغلق الحياة، حيث لا تجدُّد، ولا إبداع، ولا مسؤولية. وفي ظل الدوغمائية يوجَدُ مصدرٌ أعلى للشحن والتعبئة، يُنزله الدوغمائي منزلة القداسة، ينقاد لتعليماته الاستهلاكية، ينفذها الفرد بحرفية واتباعية.

وإذا كانت الدوغْمائية تعني الخضوع الصارم للأمرية التنظيمية -حزبًا، أو سلطةً، أو معتقدًا فلسفيًّا-، فإن البراغماتية -حين تتحلل من الضابط الأخلاقي- سرعان ما تتخطى نطاق التزامها التحرّري (دعه يعمل، دعه يمر)، لتتحول –أيضاًـ إلى آلية عمياء لاصطناع الفرص، وتصيد النهز، والرهان على المصلحة وحدها، وتحقيقها بكل الوسائل. فمنطق الحياة بالنسبة للبراغْماتية يقوم على فكر التوسع في الهيمنة والتملك، وهو ما أسّس للرأسمالية الغربية، إذ أفضى بها التوحش، إلى حدٍّ باتت معه تخبط إلى الكسب خبط عشواء، فلا يسلم من ضراوتها مجتمع.

 إنسانية الإسلام

إن الدين الذي لا يشرع جناحيه ليضمّ البشرية كلها، وينظر إليها على أساس وحدة الجنس -الآدمية- ووحدة الربّ والمنطلق والمصير، هو دين قوميّ منغلق، انعزالي. فهو يمثّل أكمل صور الدوغمائية، لأن منظومة المبادئ حين ينحصر نطاقها قوميًّا ومجتمعياً، تغدو أيديولوجية؛ وتضخم الاعتبار القومي، مما يُسفر عن التمايز، والتنابذ، وثقافة “العنجهية”. وتخرج روحيتها عن نطاق الإنسانية، إلى ضرب الإنسانية والاستهتار بقداسة الجنس الآدمي المكرَّم.

لقد انهدرت مبادئ الإخاء الإنساني نتيجة تغليب الأيديولوجيات. فسيادتها تتنافى مع المساواة التي تقتضيها الروح الإنسانية، كما يترتّب عليها شتّى الانحرافات التي تقضي على عوامل الترابط التي تنادي بها الشرائع السماوية (الحقّة).

إن العقيدة التي تمجد العرق والسلالة والقومية على حساب الجنس والآدمية، عقيدة تفتئت على الله رب العالمين، وتزرع بذور التنابذ بين الأقوام، وتصادر الطريق إلى الله.

 “لا يُبَرِّئُ الدينَ من مطعن الدوغمائية إلا نزاهة تعاليمه، وتساميه إلى الآفاق التي تجعل من مبادئه قيَما تخصّ الإنسانية قاطبة، وتحض على الأخوّة والتعاون ونبذ المفاسد”.

  طريقتان متعارضتان

طريقتان متعارضتان يسلكهما “الدين السماوي”، و”الدين المؤدلج”، الأول: يضع في الاعتبار الإنسانية والكائنات قاطبة، لأن مصدر الإيمان فيه ربوبية تشمل برحمتها العالمين جميعا. والثاني: يستند إلي الشأن القومي والسلالة العرقية، الأمر الذي يتقزم معه مفهوم الربوبية ذاته، إذ يغدو الربّ ربًّا للعرق وحده دون سواه، رب ينبذ بقية ما خلقت يداه. وبما أن الشرائع متعددة، وشكّلت مجالاً حيويا لتفعيل القيم وقولبة المعايير، فإنه لأمر طبيعيّ أن نجد منها ما هو أصيل، مصون بالحرفية التي أنزل عليها، شأن الإسلام، الدين الحق، الذي حاز شرط المصونية.. ونجد منها ما هو محور، محرف، تعترف حتى بعض نصوصه بما طرأ عليها من تزوير.

——————-

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:29-31.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts