شاء الله تعالى أن توضع أسس هذا العمل القاموسيِّ المعجميٍّ المركَّز، ويُختار له عنوانًا: “الموسوعة الكونية لمفاهيم الأستاذ فتح الله كولن”، مؤسَّس على “الرؤية الكونية” للأستاذ ومشروع “الخدمة”، أو ما عُبّرنا عنه من قبل بـ”البراديم كولن”؛ والمشروع مؤطَّر وموجَّه ضمن مؤسَّسة “الأكاديميا” للبحث العلميِّ، بمبادرة فردية ابتداءً؛ لكن بتعاونٍ وعمل جماعيٍّ، بعد ذلك؛ ولقد مرَّ بمراحل حتى بدت بواكيره الأولى، وتم فيه ما يلي:
بناء مخطَّط وتصوُّر أوَّليٍّ، وعرضُه على “فريق الأكاديميا” للمناقشة.
الشروع في جمع المادة من مصدرين أساسيين، من تأليف الأستاذ قلميًّا، مما ليس من محاضراته الشفوية المنزَّلة على الورق، وهما “ونحن نقيم صرح الروح”، و”ترانيم روح وأشجان قلب”.
إعداد قائمة بالمفاهيم الأساسيَّة، من خلال المصدريْن، بلغ حجمها حوالي “ألفي مفهوم”، منها ثلاثمائة مفهوم مع التعريف المستفيض، والباقي دون الاستفاضة في التعريف.
تبيُّن ضخامة حجم المادَّة، وغزارة الإنتاج الاصطلاحي والمفهومي لدى الأستاذ بالخصوص، وتم الاتفاق على تقليص المشروع في مرحلة أولى، تليه مراحل، بحول الله تعالى.
معالجة مآل المشروع وعلاقته بإشكالية الترجمة، والاختلاف البيِّن بين المترجمين، والحجم الضئيل للمصادر المترجمة إلى العربية، مقارنة بالمؤلَّفات المطبوعة من تأليف الأستاذ، وهي نسبة تقرُب مِن واحد على سبعة.
صياغة نموذجين إلى آخر مرحلة (أي مرحلة التصميم) هما “الأفق” و”الزمن”، للنظر في الصورة النهائية مصغَّرةً، ولفتح باب المناقشة والملاحظة. ثم اقتراح “قالبين”: أحدهما أقرب إلى الموسوعات اليسيرة التداول، والآخر أقرب إلى الموسوعات الكبرى المتخصِّصة؛ واستقرَّ الرأي على الأوَّل.
التوصُّل إلى فكرة أساسية هي: “الزمر المصطلحية”؛ وقد سمّاها “طوني بِنيت” وآخرون “العناقيد”، غير أنَّ الباحث اهتدى إليها مع الأساتذة في “الأكاديميا”، قبل مطالعة عمل “بنيت”، ثم إنَّ ثمة اختلافا بين الدلالتين، فهُما ليستا متطابقتين تمام التطابق.
الاتفاق على إعداد عدد من “الزمر”، يندرج تحتها عددٌ من المصطلحات والمفاهيم؛ حتى نخرج من مشكلة تباين الترجمات، ومثال ذلك: (metafizik)؛ فببينما يترجمها البعض بـ”الميتافيزيقا”، يترجمها آخرون بـ”الماورائية”، وآخرون بـ”الغيب”، ويوجد حتى من ترجمها بـ”الوحي”… فالزمرة الواحدة تجمع كلَّ هذه الترجمات، وتضعها تحت خانة واحدة، ومن ثم يمكننا المقارنة، والمعالجة، والتدقيق…
الشروع في جمع المادة وتصنيفها، والمقارنة بينها، وتحليلها، للمرحلة الأولى.
قراءة في “مفاتيح اصطلاحية جديدة” على ضوء “الموسوعة الكونية”
عند الاطلاع على نماذج معجمية، للمصطلحات والمفاهيم، سواءً الورقية منها أم الرقمية، بغيةَ الاستفادة منها في بناء التصوُّر المنهجيِّ والفني للموسوعة الكونية، تحصَّلتُ على نسخة من عمل علميٍّ، وجدتُ فيه ما ينبغي التوقُّف عنده، والاستفادة منه؛ فرأيت من اللائق عرضَه، ليكون لفريق العمل مرجعا، ثم ليفيد القارئ والباحث تبعًا. مع التأكيد أنَّ العديد مما ورد فيه قد بثَّ فيه فريق البحث، وإنما موافقته وملاءمته تزيدنا تأكيدا ووثوقية، كما أنَّ الكثير من النقاط تختلف بين المشروعين، طبعًا. فالمسألة تكمن في الاستفادة الانتقائية التوليدية، لا في عملية “نسخ-لصق” الفوتوغرافية المتلقية.
الوصف
القاموس المذكور عنوانه: “مفاتيح اصطلاحية جديدة، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع”؛ تأليف “طوني بِنيت، ولورانس غروسبيرغ، وميغان موريس” (.Tony Bennett,Lawصلىوسلمم ence Gصلىوسلمو oss beصلىوسلمد g, Meaghan Moصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلمis)، ترجمه إلى العربية “سعيد الغانمي”، صدر ضمن أعمال “المنظمة العربية للترجمة”، سبتمبر 2010م.
أمَّا أصل الكتاب فهو بالإنجليزية، صدرَ عام 2005م، ضمن إصدارات “أكسفورد”، بعنوان: “New keywoصلىوسلمة ds: a صلى الله عليه وسلمevised vocabulaصلىوسلمإ y of cultuصلىوسلمة e and society”؛ وقد شارك في التأليف وجمعِ المادة العلمية حوالي 61 عالما وباحثا من مختلف التخصُّصات، ومن العديد من جامعات العالم؛ إضافةً إلى المحرِّرين الرئيسيين الثلاثة؛ وأصل القاموس عملٌ جادٌّ أنجزه “رايموند وليامز”(صلىوسلمي aymond Williams)؛ في السبعينيات، نشر عام 1976م، ثم أعيد نشره منقَّحا عام 1983م؛ فهذا المشروع الذي بين أيدينا – أي عمل بنيت وآخرين- هو إتمام له، وتنقيح، وتحديث؛ دون تغيير العنوان؛ ولقد أضافوا فقط صفة “جديدة / New”.
استغرق القاموس في مرحلته الثانية “الجديدة” خمس سنواتٍ كاملة، بمشاركة فعالة لجميع الذين ذُكِرت أسماؤهم في قائمة المؤلِّفين الثلاثة، وفي قائمة المساعدين في جمع المادة والتأليف. ومع ذلك يقرِّر المؤلفون أنه “ربما ما كان في الإمكان إنتاجه على الإطلاق لولا الأنترنت”.
وفي مشروع “الموسوعة الكونية”، يسجَّل حضور الإعلام الآلي بقوَّة كذلك، فلقد وضعت مؤسَّسة “الأكاديميا” بين يدي الباحث جميع كتب الأستاذ فتح الله بصيغتي “woصلىوسلما d”و”pdf”، باللغة العربية؛ ثم إنَّ “موقع الأستاذ”، وموقع مجلة “حراء”، كانا دعما للبحث، وللاطلاع على المادة التي يبحث فيها؛ ويكفي أن نقرِّر كذلك، أنه “لولا هذه المادة الرقمية، لما أمكن بتاتا محاولة الاقتراب من هذا المشروع الضخم”.
علما أنَّ مادة ونتاج الأستاذ فتح الله باللغة التركية نظِّمت في وسائل تقنية إعلامية أكثر تطورا، من ذلك “برنامج معلوماتيٌّ خاصٌّ”، يحوي جميع ما ألِّف ونشر من تراثه، مع البحث السريع والدقيق، وهذا البرنامج عادة ما يُستعمل في “المطالعات الجماعية”، وفي التدقيق في أي مصطلح أو معنى، بسرعة فائقة. مع التأكيد على ضرورة العمل لتوفير مثله باللغة العربية، عند اكتمال الترجمة، بحول الله تعالى.
المصطلحات والمفاهيم
عرَّف المفتاح 142 مصطلحا، وهو ما سمي بـ”اللفظ المفتاح” وهو ترجمة لـ”keywoصلىوسلمّ ds”، وضمن هذه المصطلحات كمٌّ هائل من المفاهيم “concepts”، المتطوِّرة عبر تاريخ العلوم، والمتنقِّلة ما بين التخصُّصات، والمستعمَلة ممارسةً في الدوائر غير الرسمية…
ولقد اخترنا في “الموسوعة الكونية” أن نعتمد طريقة “الزمر المصطلحية” -وهي بمثابة “جذورٍ مفتاحية”- تندرج ضمنها “مصطلحاتٌ من نفس الزمرة”، وهذه المصطلحات “ألفاظ مفتاحية” مترادفة أو شارحة أو لصيقة بعضها ببعض؛ وتحت كلِّ مصطلح نقرأ “المفاهيم”، وهي صيغ موسَّعة، تحمل صورة لغوية ومعنى دلاليا كاملاً، بمجرد قراءته يمنحنا تصورا كونيًّا ملهِمًا ودالاًّ على خلفيته المعرفية؛ كما يفتح أمامنا مساحة للخيال الجاد والعقل المولِّد، فننطلق في بناء تصوراتنا الحضارية الكونية، بحيوية وحرية وتسامح.
مثال ذلك، في هذا الجدول:
الزمرة
المصطلح
المفهوم
بعث
بعث، انبعاث،
نهضة، تجديد،
تغيير، إحياء،
إصلاح…
إحياء منظومات الدين كلها
استجواب التغييرات والتحولات
الإصلاح الجاد في الملكات العقلية والروحية والفكرية
انبعاث على مشارف الألفية الثالثة
البعث الجديد بعد الموت
بعث ما بعد البعث
عقم التجديد
العنوان
استعارة “المفتاح” في مشروع وليامز، والتي استعملت في “العنوان”، وحافَظ عليها “بِنيت وآخرون” في مشروعهم الجديد، هذه الاستعارة قديمة جدًّا؛ أمَّا أوَّل من استعارها للدلالة على المصطلحات فهو “الخوارزمي”، في كتابه “مفاتيح العلوم”، وهو مسردٌ لعدد كبير من المصطلحات في مختلف العلوم. وتابعه “السكاكي” في كتابه “مفتاح العلوم”. ويسجَّل بعنايةٍ أنَّ المرحوم “فريد الأنصاري” أنجز عملا اصطلاحيا هاما، حمل عنوان: “مفاتح النور” يعالج مفاهيم “رسائل النور” لبديع الزمان النورسي؛ وبالتالي استعار دلالة “المفتاح”.
أمَّا في مشروعنا فقد اخترنا للعنوان لفظا آخر هو “الموسوعة”، ولا شكَّ أنَّ بينه وبين “القاموس”، و”المعجم”، و”المسرد”، و”المفتاح” تداخلا كبيرا، وبين بعضها عموم وخصوص، ولقد مرَّ العنوان بمراحل، ونضج مع الوقت، فكان في البداية “معجما”، ثم تطوَّر إلى “قاموس”، وأخيرا، وبعد ظهور نوع المادة، وحجمها، وأهميتها، استقرَّ الرأي على “الموسوعة”، ويكفي أن نذكر أنَّ الموسوعة تعدُّ: “محاولةًلتوثيق، وجمعالمعرفةالإنسانية. وهي تحتوي على مقالات أو مواضيع في مجالاتمتعدِّدة، أو في مجالواحد إذا كانت الموسوعة متخصِّصة”.
والملاحظ أنَّ طبيعة مشروعنا لا تتلاءم مع “الدقَّة المصطلحية”، ومع “الشروط الصارمة” التي تُطلب في المعاجم والقواميس المتخصِّصة؛ بل إنَّ مثل هذه الدقَّة، وهذا الانضباط، لا يلائم المادة التي بين أيدينا، فهي في كثير من الأحيان لا تنحصر في فنٍّ معيَّن، ولا ضمن علمٍ مخصَّص، بل هي متجاوزة كلَّ التجاوز، عابرة للمجالات، وفي هذا يقول الأستاذ فتح الله: “هذه معانٍعميقةٌ، ذات محتويات مهمَّة بالنسبة إلينا، بحيث لا نستطيع سماع هذا من أكبر فيلسوف، أو أيِّ حكيم، يبحث عن حقيقة الأشياء وراء الأستار”. والأستاذ ينبّه في مصادر أخرى، وبخاصة في “التلال الزمردية” أنَّ هذا العمق وهذه السعة مردُّهما إلى “مصدرية الوحي”، و”السنّة”، و”التراث الإسلامي عبر العصور”…
والحقُّ أنَّ “ويليامز” نفسُه، رغم توظيفه لمصطلح “مفاتيح” كان يتوخَّى البعد العموديَّ المتعمِّق، فهو يقصد من عمله المعنون بـ”مفاتيح إصطلاحية” ألاَّ يقتصر على مجرَّد مسردٍ للمصطلحات في معجم؛ كان يريد أن يجعل المصطلح “كيانا ثقافيا وتاريخيا يَصنع ويُصنع، ويكوِّن ويكوَّن، مفتاحا يُغلق المفاهيم، ويفتح الحقول المعرفية على بعضها مشرعة الأبواب”.
ومِن طبيعة الموسوعة أن تكون -كذلك- غيرَ حياديةٍ، وإنما تحمل خصائص انتمائها، وعملُنا هذا من هذا القبيل، ومن هذا النفَس. ولقد ذكر المترجم للمفاتيح، الأستاذ “سعيد الغانمي” أنَّ “نظام التسمية ليس حياديًّا، بل هو يحمل دائما وجهة نظر مولِّدة”، ومن ثم كان للموسوعة خصوصيتها، وتكتسب من هنا حيويتها ونماءها المتواصل. فليست المعاني سكونية بل هي في حركية دائمة دائبة.
والمقرَّر أنَّ المصطلحات ليست خاوية مجرَّدة، باردة محايِدة، ولا هي مرتبطةٌ فقط بالمعاني العمومية أو القاموسية أو اللغوية، لكنها بالضرورة ترتبط “بطرق رؤية العالم” أي “الرؤيةالكونية”، مع تحيُّزها الذي لا يمكن الانفكاكُ عنه؛ ولهذا كان قاموس “وليامز” إنجليزيا، لا لغةً ومعنًى فقط، لكنه إنجليزي في رؤيته الكونية كذلك؛ وجاء القاموس الجديد “لطوني بنيت” وآخرين عالميًّا -في حدِّ قولهم- غير أنهم انتهوا إلى قاموس “غربيٍّ أنجلوفوني” في لغته، ودلالاته، ورؤيته الكونية. ولم يتمكَّنوا من تحقيق هدفهم الكوني، لأسباب تاريخية ومعرفية ونفسية، حلَّلها وشخَّصها “أوزفلد شبنجلر” في كتابه “أفول الغرب” أو “تدهور الحضارة الغربية”.
وثمة مبرِّر آخر لاختيار “الموسوعة” عنوانا ومنهجا، وهو التأثُّر الصريح بموسوعة المرحوم عبد الوهاب المسيري، المعنونة بـ”موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”؛ وبخاصَّة كونُها مؤسَّسة على “النماذج الإدراكية والتفسيرية”، وعلى “الرؤيةالكونية”؛ وهو أمرٌ بالغُ الأهمية في مشروعنا هذا؛ إذ نؤكِّد، ونعلن من العنوان، أنَّ “الموسوعة الكونية” مؤسَّسة على “الرؤية الكونية للبراديم كولن: فكر الأستاذ، وحركية الخدمة”، وليست مقتصرة على لغته، وعلى ألفاظه، وعلى قوالبه، التي يعتقد -خطأ- أنها قد تكون “موضوعية، علمية، اصطلاحية، مشتركة”… ولقد ولَّى عهد “الوضعية والوضعانية”، و”الفوتوغرافية المتلقية”، و”اللغة المصمتة”؛ حتى لدى أكثر الدوائر العلمية الغربية تعصُّبا.
ولقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الخصوصية، وعن هذا البعد الكونيِّ للألفاظ، بمصطلح “السلطان”، فقال U: •إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(النَّجْم:23). فالبعد الكونيُّ الإلحاديُّ، واضحٌ في الأسماء والمسمَّيات، التي يصنعها المشركون وآباؤهم، أمَّا البعد الكونيُّ التوحيديُّ، فهو بيِّن في “الرؤية الكونية الإيمانية”، أي في منظومة: “السلطان، واليقين،والهدى”.
الحقل الدلالي
الحقُّ أنَّ المترجم للمفاتيح الاصطلاحية، الدكتور الغانمي، قد أفادنا إفادة كبرى، إذ عرض بعض ما أشكل عليه، وهو نفسه ما أشكل على مترجمي تراث الأستاذ فتح الله، وإن لم تُجمع -بعدُ- هذه الملاحظات من قِبلهم، في وثيقة مرجعية، فيما أعلم.
يقول الغانمي: “في حالتي، بصفتي مترجما لموسوعة مصطلحات ثقافية، كانت المشكلة الأكبر تتمثل فيما يسميه اللغويون بـ”الحقل الدلالي”. والحقل الدلالي هو مجموعة المعاني المختلفة الأساسية والثانوية التي تحملها المفردة. ولا شكَّ أنَّ المترجم ينصرف اختياره إلى مفردة تتطابق مفهوميا مع “المعنى الأساسي”، لكنها قد تختلف كثيرا في “المعاني الثانوية”. وقدَّم الغانمي مثالين أحدهما كلمة “Cultuصلىوسلم، e”، والثاني كلمة “Home”.
وأجد السبب الذي دفعني إلى اعتماد “الزمر” هو هذا الاختلاف الشديد في “الحقل الدلالي”، ولئن كان المترجم في حال “المفاتيح” واحدًا، فالمترجمون في حالة فتح الله كولن متعدِّدون، لكلِّ واحد منهم اختياراته، وخبراته، ونظرته للمشروع… وكلُّ هذا يؤثِّر إيجابا -في نظري- على الموسوعة؛ لكن، شريطة أن يتمَّ ضبطه، والتنبُّه له، والإشارة إليه، وبيان خصائصه… بل، قد تكون الموسوعة الكونية، مستقبَلا، سندا للمترجمين، ومرجعا لهم، لا “لتوحيد الحقول الدلالية”، فهذا مطلب لا نتوخَّاه، لكن للاتفاق على أسس الاختلاف فيها، وعلى صياغة المختلَف والمؤتلَف، وبيان المتفَق والمفترَق، صياغة منهجية عملية، ولعلَّ هذا من أبرز أهداف المشروع أساسا.
ويذكر أنَّ المترجمين لتراث الأستاذ -إلى اليوم- هم الأساتذة: أورخان محمد علي (رحمه الله)، وإحسان قاسم صالحي، وعوني عمر لطفي أوغلو. هؤلاء الثلاثة ترجموا كتب الأستاذ كلِّها، ثم تلاهم، بعض الأساتذة… في ترجمة “ألوان وظلال”، و”مقالات الأستاذ” من كتبه التي لم تترجم بعد؛ وبخاصَّة “الجيل والعصر”.
ولا أملك في هذا العرض تسجيل ملاحظاتٍ على كلِّ ترجمة، ولا نقدَ بعضها، تاركا ذلك لمتخصِّصين في الترجمة، وفي اللغتين التركية والعربية بالضرورة؛ داعيا إلى عقد “دروة علمية نقدية” لمعالجة هذه المهمَّة الخطيرة والهامَّة، معالجةً منهجية معرفية، لغوية أدبية، تكون معلمًا فكريا في تراث الأمَّة الإسلامية اليومَ.
التخصص وتجاوز الاختصاص
لو حاولنا أن نصنِّف المادَّة التي أنتجها فتح الله، وبالتالي المادة التي تحويها الموسوعة تبعا، فإننا لا نزيد على أنها ضمن “العلوم الإنسانية”، ثم نجد داخلها: التاريخ، والتفسير، والحديث، والفكر، والحضارة، والاجتماع، ونظرية المعرفة، والفلسفة، والتصوف… بل، كلُّ ما من شأنه أن يعبِّر عن “الرؤية الكونية” للأستاذ، في العلاقة بثلاثية الوجود: “الله، والإنسان، والكون”؛ ومن ثم أحيانًا نطالع حتى فقرات علمية فزيائية ورياضية ذات عمق كبير.
ولذا، نفضِّل أن لا نصنِّف الموسوعة في خانة بعينها، وأن تترك إلى انفتاحها الموسوعيِّ العام، ولقد عبَّر عن مثل هذا مؤلِّفو “المفاتيح”، وذكروا أنه: صنِّفت المادة إلى “مقالات مكرَّسة لمواد مختلفة” وكذلك سار المترجم في ترجمته، ولذا قد يجد القارئ نوعا من “اللانسياب” بين مقال ومقال، وقد يلحظ اختلافات عميقة بين مؤلف ومؤلف، ومصطلح ومصطلح.
ثم ذكروا أنَّ “هذه المفاتيح تصنَّف في حقل “الدراسات الثقافية” وبعبارة أدق: “الدراسات العابرة للثقافة” (Cصلىوسلما oss-Cultuصلىوسلمو al Studies)، وهو تخصُّص حديث، دخل الجامعة مع بداية الألفية الثالثة؛ وبهذا يكون المصطلح الواحد، ومن خلاله المفاهيم الدفاقة، وأخيرا القاموس كله… كلُّ ذلك، يكون من طبيعة “بينية” أو “متعدِّد المناهج” “يوجد فيما بين الحقول، ويندسُّ ما بين الاختصاصات”.
“والموسوعة الكونية” كشفت للباحث مدى سعة اطلاع الأستاذ فتح الله على مختلف العلوم، وأظهرت له تلك القدرة العجيبة على التنقل من علم إلى علم، ومن فنٍّ إلى فنٍّ، بسلاسةٍ، قد لا يحسُّ بها القارئ غير المتأمِّل؛ وهو مع ذلك لا يقضي على التخصُّص، ولا يجده منقصة أو عيبا، وقد بين موقفه هذا في قوله: “ولا ينبغي أن يظنَّ بهذا الكلام أننا لا ندعو إلى التخصُّص أو التفرُّع”. فالخير في أن يتخصَّص امرؤ في فرعٍ من الفروع، ثم يرتقي إلى ذروة عرش الكمال فيه، ويسعى إلى نيل أرقى المنى في تلك الساحة… لكن مع العناية بمعنى الكلِّ ومحتواه وحاله، بل بمقصده وغايته، في أثناء سعيه وجدِّه. ولا بدَّ أن يتحقَّق هذا، سواء بالشعور التضامنيِّ المشترك، أو بسائق العلم والحسِّ، أو بعمل منسَّق متكامل، أو بالدَّهاء العقليِّ. فلا شبهة ولا شكَّ في حاجتنا الماسَّة إلى هذا النظر الكلِّي والشموليِّ، والتقييم العموميِّ والموضوعيِّ”.
الانفتاح والتسامح
لقد أحسن المترجم “للمفاتيح” حين استقى من هذا القاموس، ومن هذا العلم الجديد، دلالة “الانفتاح والتسامح بقبول الآخر، والنظر إلى المصطلحات والثقافات لا بوصفها أرضا “للصدام”، أو منطلقا “للصراع”، بل بوصفها وجهات نظر متغيرة، تمتاز بالمرونة والحراك، وإمكان الانتقال من موقع إلى موقع بديل”. ومن هنا يمكن لمثل هذه الأعمال الموسوعية البينية -بالخصوص- أن “تفضح الآليات القهرية للاستبداد الثقافي في مفاهيم عسكرية أكثر مما هي ثقافية من نوع “الصدام الحضاري”، أو أي مقولة أخرى تنضح بالمركزية العرقية”. ومن ثم امتازت المصطلحات في هذا المشروع بخاصية “المرونة والحيادية والتسامح”.
وإذا كان التسامح سمةً نظرية منهجية “للمفاتيح”، فهي صفة غالبة صابغة لفكر الأستاذ ولحركية “الخدمة”، ولعلَّه إذا ذكر التسامح اليومَ في العالم الإسلامي، ذكِر معه الأستاذ؛ ولذلك شواهد كثيرة، ليس المقام مقام سردها؛ وفي سياقنا نسجِّل أنَّ القارئ مثلا لـ”التّلال الزمردية”، يجد أنَّ فتح الله ولج عالَم التصوف، لا بأسلوب مغلق منغلق، لكن بروح منفتحة مفتوحة؛ فولِد من رحمه “تصوف-حركيٌّ”، و”حركة-متصوِّفة”، لا فصل بين هذا وذاك.
ومن ثم جاءت مفاهيم الأستاذ متسامحة، بعيدة عن التشدُّد، فهو يمقت التعصُّب، والإقصاء، والتعريض بالآخر، والتنقيص من أيِّ جهة كانت، حتى وإن صنِّفت في خانة ألدِّ المتعصِّبين ضدَّه؛ فتعصُّب الفكر تفضحُه المصطلحات والمفاهيم والكلمات، كما أنَّ تسامح الروح يطفو على مرآة اللسان، ويظهر أثره ناصعا في الكلمات، والمصطلحات، والمفاهيم… وفي الموسوعة بالضرورة.
ومن مظاهر “التسامح” في فكر فتح الله أنه يعتمد التعريض، ويأبى فضح الخصم، فهو لا يذكر اسمه بتاتا، ولا يقرِّب صفاته للناس؛ وإنما يعتمد “التلبيس” بمفهومه الإيجابي -حسب تعبير “جمال ترك” (أحد أبرز تلامذة الأستاذ)-؛ فأنت تسمعه وهو يحدِّثك عن شيء أو شخص، وهو يقصد شيئا آخر، أو شخصا معيَّنا، ولكنَّك لن تعرفه، بل المقصد عنده هو “الصفات” لا “الأعيان”، والهدف عنده معالجة المرض لا القضاء على المريض.
العمل الجماعي
كان قاموس “وليامز” عملا فرديا، أمَّا قاموس “بنيت وآخرين” فكان عملا جماعيا؛ ولا بدَّ أن يتَّسم كلٌّ منهما بمميِّزات وسلبياتٍ، تمليها طبيعة العمل والعامل؛ ويهمُّنا أن نورد ملاحظات على العمل الجماعي، كما ذكرها أصحابها.
أولاها: أنه في إطار عمل جماعيٍّ “يستعصي فرضُ تصميم معياريٍّ موحَّد”، ولذا أعطي المحرِّرون قواعد عامَّة، ثم “ترِك الخيار للمؤلِّفين إلى حدٍّ كبير لمتابعة ميولهم في تقرير ما يعنيه هذا، وكيفية التعامل مع كلِّ المصادر والمصطلحات التابعة”.
ثانيا: استحالة الموازنة بين “النبذة المدرسية لمعاني المصطلح” و”الخصوصية المعرفية لكلِّ مؤلف”؛ فكان الإجراء أن “طلِب من المسهمين أن يتناولوا المفاهيم بطرق من شأنها أن تعكس منظوراتهم، وليس استهداف كتابة موادَّ صحيحة، ذات طابع معياريٍّ كليا، بأسلوب قاموسيٍّ مدرسيٍّ”. وهذا الاتجاه تسنده “النماذج الإدراكية والتفسيرية” التي تحلُّ محلَّ الذاتية والموضوعية، في العلوم الإنسانية بالخصوص؛ فالمطلوب هو تحقيق الأكثر تفسيرية، لا الانتهاء إلى “الموضوعيِّ الصحيح المطلق”. وقد وظَّف المؤلِّفون مصطلح “الانحيازات الثقافية” لتبرير هذا الاختيار، وهو ملائم وقريب من مصطلح “التحيُّز” الذي طوَّره المسيري، في عمله الموسوعي “فقه التحيز”، واعتمدناه في “الموسوعة الكونية”.
وثالث الملاحظات على العمل الجماعي، هو طريقة الانتهاء إلى الصواب، والاتفاق عليه، ورد في المقدِّمة: “ومحرِّروا هذا الكتاب الثلاثة، الذين يعملون انطلاقا من خلفيات اختصاصية مختلفة، ومؤثرات سياسية مختلفة، ومواقع لغوية ووطنية مختلفة، خاضوا في مناقشات طويلة ومنازعات مفعمة بالعنفوان، أحيانا كانت تحلُّ بالقوَّة العمياء لاثنين مقابل واحد”.
ولقد تراوح مشروع “الموسوعة الكونية” بين كونه “عملا فرديا” في التأليف، والضبط، وصياغة المادة، وعرضها… وكونه “عملا جماعيا” في صوغ الاختيارات الكبرى، وفي التشاور حين يشكل أمرٌ ما، وفي التوجيه لأفضل أسلوب ومنهج ممكن، وفي المطالعة المتواصلة لما يؤلَّف، ثم التوجيه وفق سعة المادة، وغياب النص المترجم، وعدم المعرفة الكاملة بالمترجَم له…
وهنا، في بحر الموسوعة الكونية، حاولنا أن نجمع بين إيجابيات العمل الفرديِّ والعمل الجماعيِّ، ونحذر من الوقوع في سلبياتهما معا، ولكن لا نعرف هل وفِّقنا في ذلك أم لا؟!
حسبنا أن نجتهد ونحاول، والله هو الهادي لسواء السبيل…
الحوار والمناقشة والتوليد
لقد أثار مشروع “المفاتيح” “مناقشات عامة”؛ لكنها لا تدور بالضرورة في ميادين أكاديمية محدَّدة، وإن كانت لا تستبعدها أحيانا. فقد كان “الإحساس بالأهمية العامَّة”، المتداخلة بين التخصُّصات، والثقافات، واللغات… هي الموجِّه الأوَّل. فجاءت بعض المصطلحات -بسبب هذا- “كلمات قوية وصعبة ومقنعة”.
يقول “طوني بنيت”: “ليست مشكلات حدود الزمان والتكنولوجيا، ولا حتى التمويل والوسائل، بالمشكلات الحقيقية، رغم حظِّها من الأهمية؛ وإنما أكثر المشكلات حضورا وتأثيرا هي مشكلات المعنى، وتتمثل أساسا في العلاقات الفعلية بين المؤلفين… ومستوى العمومية في النقاش الذي يفترضه تحقيق المشروع”. ويمكن تلخيصها في “العلاقات”، وفي “مستوى العمومية”.
ثم يواصل “بنيت” تدليله قائلا: “ولذا ليس من الضروري أن يتناغم جميع المحرِّرين مع الفريق، أو يتقبَّلوا اختيارات المشروع، ولقد أحدثت نقطة تجاوز الاختصاص والمدرسية، نحو حقول متجاوزة للثقافات، بأسلوب مفتوح، ومعترف بالتحيزات… أحدثت هذه المشكلة بلبلة في الفريق، حتى إنه “انسحب بعض المساهمين حين أدرك ما أردناه، وقد شكرناهم لإطلاق أيدينا في وقت مبكر لدعوة آخرين سواهم”. ولقد عرفت “موسوعة المسيري” كذلك، مثل هذا الانسحاب، بسبب الاختلاف بين “العقل الوضعي” و”العقل التوليدي”.
وفي “الموسوعة الكونية” تبرز مشكلات المعنى جلية، وليست ثمة أيُّ مشكلة أخرى، سواء أكانت تقنية أم إدارية أم نفسية… بل جميع الظروف متوفِّرة، والحمد لله، وتبقى مشكلة “اختيار” المعنى الأنسب، والترجمة الأفضل، وإضافة صيغة إلى أخرى، وإدراك أنَّ هذا المفهوم له امتدادات كثيرة في تراث الأستاذ… تبقى هذه هي المشكلات الأساسية في عملنا، لطالما عانينا في تخطيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ولذا، كثيرا ما أعلنتُ لفريق العمل، أنه “كبَّلتني اللغة”، ولكَم رجوت لو أني أتقن التركية، إذن لتحرَّرتُ؛ ولقد قالها أحد الباحثين يومًا: “آه، ليتك كنت عارفا بالتركية، لسبحت في فكر الأستاذ بلا حدود”.
ومع أني لم أتمكَّن من السباحة، غير أني لن ألوذ بحول الله إلى الانسحاب!
متى ينتهي العمل؟
ينبغي التنويه إلى أنَّ “الإحساس بعمل غير منتهٍ، وغير مكتمل، لا بدَّ أن يستأنفه الآخرون، هو جزء حيوي من تراث وليامز”، كذا “الإحساس بدخول عالم جديد وغريب”، أي أنه وجد الجيل الجديد “لا يتكلَّمون اللغة نفسها”، وهذا يفسِّر ما احتدَّ في الثقافة المعاصرة مما سمي “صدمات ثقافية”، و”حروب الثقافة”، ولم تكن هذه الصدامات والحروب مقتصرة على القرية والمدينة، ولا على الشركة والصفِّ الدراسيِّ، بل تجاوزته إلى “أقسام المعرفة، والحقل العلميِّ”… غير أنه ما ميَّز جهد “وليامز” استثماره لهذه المواجهات، واستيحاؤه الدلالات العميقة للمعجم، من خضمِّ تلكم الصراعات؛ ليأتي عملا ديناميكيا لا استاتيكيا، حركيا لا سكونيا. وعلى هذا الخط سار أتباعه من بعده.
وكون العمل “لا نهاية له” سمة أصيلة في “الموسوعة الكونية”، لأسباب كثيرة منها:
أنَّ الأستاذ لا يزال ينتج، ويطوِّر معارفه ومناهجه وأساليبه، كلَّ يوم وكلَّ أسبوع… فالمدد متواصل غير منقطع.
كون الترجمة -كما ذكِر- بلغت نسبةً صغيرة من نتاج الأستاذ، إذ كلَّما ترجِم مصدر كان مرحلة جديدة للموسوعة، فلا نهاية إذن… بل حتى ولو ترجمت جميع مصادره، فإنَّ “نوع الترجمة” والحاجة الماسَّة أحيانا لإعادة ترجمة ما تُرجم، بناء على السياق الجديد، وعلى المستجدَّات، وعلى التمكُّن، وعلى تطوُّر الدلالات… هذه النزعة تبقي الموسوعة مفتوحة على مصراعيها.
العلاقة الوطيدة بين خلفية المترجِم المعرفية، وعلاقته بالأستاذ والخدمة من جهة، وباللغتين العربية والتركية من جهة ثانية. فترجمة مثل هذه الأعمال الفكرية لا تتمُّ لفظيا فقط، بل تتجاوز ذلك إلى البعد، والعمق، والخلفية الدلالية، والسياق، وحيثيات النصِّ، ومجريات الواقع…إلخ.
كون ما نشر من تراث الأستاذ باللغة التركية، لا يمثِّل إلى جزءً مما أنتج الأستاذ، وبخاصَّة في “مجالس الصحبة”، و”المحاضرات”، و”الدروس”، و”اللقاءات الخاصَّة”؛ فمع أنَّ عددا كبيرا من الباحثين منكبٌّ على تفريغ تراث الأستاذ إلى الورقيِّ، ومراجعته، وضبطه، وإخراجه في كتب ومصادر متميزة… إلا أنَّ سرعة وغزارة الإنتاج فاقت إيقاعهم بأشواط.
ومن ثم، يستحيل أن نسأل: متى تنتهي الموسوعة الكونية؟! ولكن، ليكن السؤال: متى سيصدر الجزء الأول منها.. بحول الله؟!
“الزمن والوقت” ابتداء
بعد اقتراح جملة من المصطلحات المفتاحية، مما له علاقة مباشرة بـ”الرؤية الكونية”، نذكر بالخصوص “العلم والمعرفة”، و”الزمن والوقت”، و”الفكر والحركية”، و”الإنسان”، و”البعث والتغيير”… خلُصنا في حوارات مكثفة إلى أنَّ أيَّ مصطلح من هذه المصطلحات المفتاحية، سيفتح النوافذ على فكر الأستاذ، وسيعطي تصورا شموليا للمداخل الأخرى، بل إنها ستكون عنوانا “للرؤية الكونية” لدى الأستاذ فتح الله كولن؛ ومادة خصبة للدراسة والتحليل، والنقد والمقارنة.
هنا، وعند الاختيار، استفاق لديَّ اهتمام قديم جديد، وهو حقل “الدراسات الزمنية”، من خلال رسالة الماجستير “مفهوم الزمن في القرآن الكريم”، وأطروحة الدكتوراه “أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي”؛ فتحيَّزت إلى “الزمن والوقت”، وبخاصَّة أني وجدته -منذ مطالعاتي المسحية الأولى- يحمل مميزات وأبعادا خاصة عند الأستاذ.
فتوكَّلت على الله، واستعرضت مؤلَّفات الأستاذ، مما ترجِم، وبعضَ ما لم يُترجم، بمساعدةٍ من الفريق؛ واستخرجتُ منها المادَّة الأوليَّة للمفاهيم؛ ثم صنَّفتها حسب وحدتها، وصغتُ منها عددًا من الزمر، مثل: زمرة “الأزل والأبد”، وزمرة “الماضي والحاضر والمستقبل”… فعرضتها عرضًا موسوعيًّا، مع تحرِّي الدقَّة، والوضوح، وذيلت كلَّ زمرة بجملة من التعريفات المستفيضة، مستنبطا منها الرشحات، والحركية بين الفكر والفعل، ونماذج من “الخدمة”، والصور الذهنية…
وقد عمدتُ إلى قراءة المادة عدَّة مرات، ثم كتابة مقال تحليليٍّ، معرفيٍّ، يكون بمثابة المقدِّمة للزمرة، ويظهر أبعاد تلك الزمرة في فكر الأستاذ فتح الله كولن.
استغرق مني العمل وقتا ليس بالقليل، وتفرُّغا خالصًا ليس باليسير، وهو لا يزال طور المراجعة والمناقشة والإضافة والتشذيب؛ لعلَّه سيأخذ وقتا أطول، إلى أن يستوي مشروعًا كاملا، قد يفيد مثالا وقالَبا منهجيا، وقد يكون مصدرا للتدريب والتكوين في “مجالس الصحبة”، وقد يكون منطلقا للنقَّاد والدارسين، ليصوغوا منه مادة فكرية معرفية غنية ثرية، بحول الله تعالى.
القابلية للتغيير
بهذه الفقرة الجميلة جدا، والدالة بعمق، ختم مؤلِّفو “المفاتيح” مقدمتهم، وهي مشحونة بالمعاني والأبعاد المعرفية، مما جاء فيها: “ليست هذه مراجعة حيادية للمعاني، بل هي استكشاف لمعجم في منطقة حاسمة من النقاش الاجتماعي والثقافي، أورثت لنا في إطار ظروف تاريخية واجتماعية دقيقة، ولا بدَّ من جعلها على الفور موضوعا شعوريا ونقديا للتغير وكذلك للاستمرارية، إذا أراد ملايين الناس الذين تكون فاعلة بينهم أن يروها فاعلة: ليست تقليدا ينبغي تعلُّمه، ولا إجماعا لا بدَّ من القبول به، ولا شبكة من المعاني تحظى بالمرجعية الطبيعية؛ لأنها لغتُنا، بل كتشكيل وإعادة تشكيل، في أحوال فعلية، ومن وجهات نظر مهمَّة ومختلفة بعمق: معجم نستعملُه، ونجد فيه طرقنا، ونغيره حيث نجد أن من الضروري أن نغيره، ونحن نمضي في صنع لغتنا وتاريخنا”.
أمَّا نحن، من خلال “الموسوعة الكونية”، ومن خلال غيرها من البحوث والدراسات، فنمضي في “بناء صرح الروح” لدينا، وفي “بناء حضارتنا”؛ إذ ليست الموسوعة عملا فكريا “أكاديميا” رسميا؛ ولا مشروعا منهجيًّا محضًا، وإنما هي خطوة متأنية، في استكشاف “البراديم كولن”، لا بغية حفظه، أو الاستشهاد به، أو حتى الافتخار بما أنجزه وحقَّقه؛ وإنما بغرض تمثُّله، ونشر ما فيه من دواء وترياق عبر الآفاق، لتتلقَّفه أمَّتُنا في مرحلة عصيَّة تمرُّ بها؛ ولا يزال السؤال الصغير الكبير، ولن تزال الأزمة المعرفية الحضارية، في الموسوعة، اليوم وغدًا، هي: كيف نحوِّل الفكر إلى فعل، وكيف نصل العلم بالعمل؟! من خلال البراديم كولن، أي من خلال فكر الأستاذ، وتمثله في الواقع لدى “الخدمة”، ومن سار على دربها؟!