كانت التنشئة المبكرة لفتح الله كولن في قرية صغيرة جنوب شرق تركيا و تعلم و تعرض مبكرا لأفكار سعيد النورسي، كما أن مشاركته اللاحقة في مجموعات قراءة النورسي زادت من شهرته كواعظ في تركيا ووقعت من خلال واقع السياق التاريخي التركي كما هو موضح في الفصل السابق، بالإضافة إلى تدريبه على العلوم الإسلامية الكلاسيكية، فهو إلى حد كبير نتاج قوميته التركية و الأحداث السياسية التي أثرت فيه على مدي ما يقرب من ستة عقود من حياته كمواطن تركي. و في هذا الفصل، أقدم أولا للقارئ جوانب من بداية حياة كولن التي شكلت لاحقا أفكاره و خطط عمله، ثانيا أبحث في أكبر معتقداته و قناعاته و الأولويات التي وجهت كلا من تعليمه المبكر و اللاحق، ثالثا أتتبع نشأة حركة كولن في تركيا و انتشارها في الدول السابقة في الاتحاد السوفيتي و في النهاية على مستوى العالم.
قصة حياة فتح الله كولن
سنواته الأولى
ولد فتح الله كولن في 11نونبر1938 في قرية زراعية صغيرة قرب أرزوروم ( أرض روم) في شرق تركيا في غرب تركيا، و تعرف أرزوروم بأنها محافظة من الناحية الثقافية و سكانها متدينون، و بها القليل من فرص التعليم العلماني للأتراك في ذلك الوقت، و أرسل والدا كولن ابنهم إلى أقرب مدرسة حكومية ابتدائية لمدة ثلاث سنوات، و قامت الدولة بتعيين والده إماما لمسجد في مدينة أخرى حيث لا يوجد أي تعليم ثانوي، و لذلك اضطر كولن لترك التعليم الرسمي في منتصف تعليمه الابتدائي، و البدء في الحصول على التعليم غير الرسمي من والده في المقام الأول.
و تعلم كولن من والده العناصر الأساسية للإسلام مع بعض العربية و الفارسية، و كان والده عالما كما كان إماما، و يتذكره كولن كشخص يستمتع بقراءة الكتب و دائما ما يقرأ القرآن و يتأمل يوميا في حياة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يتلو الشعر الديني، و غرس في ابنه حب التعلم و حب النبي و أصحابه.
و يصف كولن بيته في طفولته المبكرة على أنه ” دار ضيافة لكل أصحاب المعرفة و السمو الروحاني في المنطقة”، و كان والده يرحب بشكل خاص بالعلماء في بيته و كان يستطيع المناقشة معهم في المسائل الدينية، و يقول كولن إن ” الضيوف و خاصة العلماء كانوا غالبا في منزلنا و كنا نعطي اهتماما كبيرا لضيافتهم، و خلال طفولتي و شبابي لم أجلس مطلقا مع أقراني أو مجموعات في سني و بدلا من ذلك كنت دائما مع من هم أكبر مني سنا و أستمع إليهم يتحدثون عن أشياء عن العقل و القلب”، و بسبب اتصاله بالعلماء و المفكرين الدينيين نشأ كولن في دائرة من الأشخاص كانوا دائما ما يستكشفون الروحانية و مكانها في العالم الحديث.
و كانت والدته تعلم في الخفاء بنات القرية القرآن ، كما علمته هو أيضا مثلما علمه أبوه و جده الذي كان واحدا من أبطاله في سنواته الأولى، و قبل عشر سنوات كان أتاتورك و الحكومة الكمالية قد أسسوا المبادئ الستة الكمالية و من ضمنها القومية و العلمانية، و بالرغم من أن المساجد و الصلاة تسمح بها الحكومة إلا أنه في ذلك الوقت من التاريخ التركي منع أي شكل من أشكال التعليم و الممارسة الدينية، و مع ذلك فوالدي كولن مثل العديد من الأتراك استمرا في تقاليدهما التركية الإسلامية ليطمئنا أنه يتعلم القرآن وأساس ممارسة الدين و من ضمنها الصلاة.
و من المعلمين المؤثرين في طفولته الشيخ محمد لطفي أفندي المعلم الصوفي، الذي عرف هو و غيره من المعلمين الصوفيين كولن بكتابات سعيد النورسي ( 1876 – 1960) الواعظ الذي كان يؤمن أن المسلمين لا يجب أن يرفضوا الحداثة و لكن يجب عليهم استلهام النصوص المقدسة للتعامل معها ، و لقد طور النورسي أفكاره عن الإسلام المعاصر الذي أصر على أهمية ودور المعتقدات الدينية في الحياة العامة، بينما يتم احتضان التطورات العلمية في نفس الوقت، و تفسر كتابات النورسي القرآن الكريم في ضوء العلم الحديث و العقلانية. و كانت الأهداف من حركة النورسي التي ظهرت من تعاليمه هي : التوليف بين الإسلام و العلم، و قبول الديمقراطية كأفضل شكل من أشكال الحكومة تحت حكم القانون، وزيادة مستوى الوعي الإسلامي عن طريق توضيح العلاقة بين العقل و الوحي و تحقيق الخلاص الدنيوي و الأخروي مع في إطار سوق حرة و من خلال التعليم الجيد، و كانت أفكار النورسي هذه مؤثرة جدا في بدايات تعليم كولن و أصبحت حجر الزاوية في تعاليمه كتاباته.
و مع دراسته للإسلام ركز كولن أيضا على تعليم نفسه العلم و الفلسفة و الأدب و التاريخ، و كان يسهر حتى وقت متأخر من الليل يدرس المبادئ الأساسية للعلوم الحديثة مثل الفيزياء و الكيمياء و الأحياء و الفلك، و قرأ أيضا للفلاسفة الوجوديين مثل كامو و سارتر و ماركوزه، فضلا على عيون الأدب الغربي مثل كتابات روسو و بلزاك و دستويفسكي و بوشكين و داروين و تولستوي، و المصادر الأصلية للفلسفة الغربية و الشرقية الإسلامية و غير الإسلامية على حد سواء.
سنواته الأولى في الوعظ
وكمراهق تعرف كولن على حلقات القراءة للنورسي و بعد ذلك أصبح من المشاركين النشطاء، و بالمقارنة مع الجماعات و الطرق الصوفية تسمى المجموعات مثل حلقات القراءة التي تجتمع حول أحد العلماء ” بالجماعة”، و هو شكل تركي محدد من المجموعات الإسلامية ذاتية التنظيم التي تطورت بعد تشكيل الجمهورية العلمانية في 1923 و حظر الطرق الصوفية و إلغاء المدارس الدينية و المؤسسات الإسلامية التقليدية، وبرزت ظاهرة ” الجماعة” من حلقات القراءة التحفيزية في ممارسة المواطنين المتدينين نتيجة لضغوط الحكومة على أي منظمة يمكن أن تحمل تحديا للنظام السياسي الجديد، و في حالة حلقات قراءة النورسي كان الموضوع الأساسي للنقاش هو كيفية الاستجابة لمطالب العالم الحديث بالمعرفة الإسلامية لكي يتلاءم الإسلام مع الحداثة، و لم يكن ” للجماعة” أي شروط عضوية و لا يوجد شعائر للانضمام و لا توجد حاجة لمبنى أو غرفة معينة للانعقاد – فلم كن طرقا صوفية- على الرغم من تأثر النورسي الشديد بشعر جلال الدين الرومي و غيره من كبار الصوفيين، و بالأحرى تآلف ” الجماعة” من أشخاص تشاركوا ذات الأهداف و الخطاب، و كلما تم قبول تلك المعايير كلما زاد عمل الفرد لقضية “الجماعة” كلما تقوى انخراطه فيه، و كان فتح الله كولن منضما إلى ” جماعة النور”، و هي خبرة أثرت على حياته لاحقا و على الحلقات التحفيزية التي شكلها قراؤه و مستمعوه، و في الحقيقة فإن مفتاح فهم التنظيم الاجتماعي لحركة كولن يكمن في فهم “جماعة النور” الذي اختلط به كولن أثناء بدايات حياته كبالغ.
أسس قراء و كتاب و جمهور خطاب النورسي حلقات قراءة يتم فيها اللقاء في منازل خاصة و عادة ما تتألف من طلبة الجامعة الذين يلتقون لقراءة و دراسة القرآن و أعمال روحية أخرى، و أتاحت حلقات القراءة تلك مجالات للتواصل الاجتماعي الديني داخل النظام التربوي العلماني، و يدرس الطلاب داخل تلك القرآن و أعمال النورسي و يؤسسون لعلاقات وثيقة بين بعضهم البعض، و كانت تلك الحلقات أماكن للاجتماع و المناقشة في موضوعات فلسفية و اجتماعية و دينية، و أصبحت النموذج لبيوت الطلبة أو ” بيوت النور” التي أسسها كولن لاحقا.
ولم يدخل كولن المدارس الثانوية الحكومية و دخل النظام غير الرسمي للإجازة ( و هي تراخيص بالتدريس)، و أكمل تعليمه الثانوي العلمي عن طريق امتحانات خارجية، و في عام 1959 اجتاز امتحان الحكومة ليصبح إماما و عين في مركز مرموق و ذلك لأن نجاحه في الامتحان أظهر معرفته العميقة بالعلم المطلوب من الأئمة.
و كانت أرزوروم حيث تلقي تعليمه المبكر أيضا مركزا هاما للدفاع عن أيديولوجيا القومية التركية، حيث كانت تقع قديما على طريق القوافل بين أنطاليا و إيران، و أصبحت محطة سكة حديد رئيسية على طريق أنقرة- إيران، لوقوعها علي حدود تركيا وجود العديد من المهاجرين القوقازيين فإن تلك المنطقة تتفاخر بأنها طليعة حماية الحدود التركية الإسلامية ضد الهجمات القادمة من الشرق و كل من الهجمات الفعلية و من داعمي الدول الشرقية الذين عاشوا في تركيا، و عندما كان كولن شابا قاد الرابطة التركية للنضال ضد الشيوعية في أرزوروم، و اشترك لاحقا في دعم التجنيد الأيديولوجي ضد التهديد الصادر عن الإسلام السياسي الإيراني، و كانت سنواته في أرزوروم حاسمة في تشكيل قناعاته العميقة فيما يتعلق بالإسلام و القومية، و قد أظهر كولن تقديره للهوية التركية و دعا لها كوال حياته.
و كشاب ذهب كولن إلى مدينة حدودية أخرى في غرب تركيا وهي إدرنه، و خدم كإمام مسجد لمدة أربع سنوات و أتم خدمته العسكرية، و أمضى عاما في مدينة في نفس منطقة إدرنه و عاما لاحقا في كير كلاريلي، و أصبح له نفوذ كبير بين الشباب المتعلم و الناس العاديين و نظم محاضراته المسائية و تحدث في سلسلة من المحاضرات عن الأخلاق في الحياة الخاصة و العامة، و في عام 1966 قامت مدرية الشؤون الدينية – التي تم إنشاؤها في العصر المبكر للجمهورية لإدارة الشؤون الدينية الإسلامية – بتعيين كولن مديرا لنوع من المدارس تسمى ” كستاني بازاري” ( أي سوق الكستناء) kestanepazari في أزمير ثالث أكبر مدينة في تركيا ليدرس العلوم الإسلامية و يكون مسؤولا عن المسجد و الهيئة الطلابية و قاعة للطعام و الوعظ في منطقة بحر إيجة، و عاش كزاهد و لمدة خمس سنوات سكن في كوخ صغير و لم يقبل أي أجر على خدماته و خلال تلك السنوات تطورت أفكاره في التعليم و خدمة المجتمع و مع بداية عام 1969 أعد اجتماعات في المقاهي و حاضر جميع محافظات و قرى منطقة بحر إيجة.
تأسيس أول المشروعات التعليمية
نظم كولن مع مديري مؤسسة مدرسة ” سوق الكستناء” بدعم رجال الأعمال المحليين معسكرات صيفية لطلاب المدارس الثانوية و الإعدادية مع طلاب الجامعة، و يتم في تلك المعسكرات التعليم العلماني ف مجالات مثل التاريخ و الأحياء، و توفر أيضا النقاشات الدينية في قضايا مثل دور الإسلام في الموضوعات العامة، و غالبا ما يستحضر كولن حياة النبي محمد صلى الله عليه و سلم و الفترة الكلاسيكية من الإمبراطورية العثمانية كأمثلة جيدة تبين كيف أن الإخلاص لمبادئ الإسلام يحقق العظمة، و كان يقول إن تركيا لو أرادت أن تكون أمة عظيمة مرة أخرى فمن الضروري أن يحيا الناس حياة إسلامية مخلصة و تعترف مؤسساتهم العامة بوجود الله، و منذ بدأت المدارس الحكومية في عدم تدريس الإسلام فإن كولن كان يخشى أن الشباب لم يكونوا يتلقون تعاليم الإسلام، و كانت المعسكرات الصيفية إحدى وسائل تعليم الأطفال في سن المدرسة دينهم بالإضافة إلى الموضوعات العلمانية.
و بالإضافة إلى المعسكرات الصيفية، و مع بداية فترة السبعينات، بدأ مستعمو كولن في تشكيل “جماعة” جديدة قائمة على تعاليمه شبيهة بالجماعة القائمة على تعاليم النورسي و التي حضرها كولن سابقا. بل و ما جذب الناس إلى رسائل كولن هو ذلك العدد الهائل من الخطب العامة التي ألقاها أمام الآلاف من المستمعين و في المحاضرات العامة التي سجلت و بيعت في جميع أنحاء البلاد. و كان معظم مستمعيه من صغار و متوسطي رجال الأعمال مع عدد صغير من الأغنياء و طلاب الجامعة. و جذب الناس الذين دعموا أفكاره ليس فقط بحضور محاضراته بل و بالدعم المادي أيضا و بجهودهم الذاتية. و كتعديل لمدارس حركة “نور” ساعد كولن الطلاب و الآباء و المتبرعين في تأسيس ” بيوت النور” حيث يدرس التعليم الإسلامي على أساس كتابات النورسي و تعاليمه. و أصبحت ” بيوت النور” تلك تخرج الآلاف من المتعلمين الذين شكلوا فيما بعد أعضاء هيئة التدريس في المدارس المؤسسة طبقا لفلسفة كولن التعليمية. و تلك هي المرحلة من حياة كولن المهنية التي بدأت تظهر فيها جليا مجموعة من الأفراد عددهم حوالي مئة فرد كمجموعة خدمية و هي المجموعة التي اجتمعت حول فهمه لخدمة المجتمع.
وبمعرفته كيف يمكن جذب الشباب التركي إلى التطرف و الأيديولوجيات الأصولية و منها الإلحادية الشيوعية و المادية حاول كولن كواعظ تثقيف الشباب عن القيم الأخلاقية التقليدية لابعادهم عما رآه أفكارا مدمرة و منحطة. و تلك هي الفترة التي كان يجادل فيها أربكان، الشخصية الهامة في حزب العدالة، قائلا بأن الإسلام يعد بديلا للاشتراكية، ومروجا لدور أكبر للإسلام في السياسات الكونية. و في مقابل هذه الخلفية السياسية، روج فتح الله كولن أيضا للمثل الإسلامية كعلاج للأصولية الماركسية و اللينينية و الماوية التي كانت تجذب الكثير من الشباب في المنطقة، و كان غالبا ما يشتري و يوزع من أمواله الخاصة موادا تجابه الإلحاد و الشيوعية النضالية. ورأى أن تآكل القيم الأخلاقية بين الشباب سبب في الجرائم و الصراعات الاجتماعية و كان مصمما على فعل كل ما في وسعه للتأثير على الشباب في اتجاه رآه الأسلم و الأكثر إنتاجية.
و في عام 1970 و كنتيجة للانقلاب العسكري، تم القبض على عدد من المسلمين البارزين في المنطقة الذين دعموا الأنشطة الدينية و المحاضرات لشباب المنطقة و كان من ضمنهم كولن، و قد اعتقل لمدة ستة أشهر دون توجيه أي اتهام له و تم الإفراج عنه بشرط أن لا يلقي أية محاضرات عامة. و بعد الإفراج عنه استقال كولن من منصبه الرسمي في إزمير و بقي كواعظ معتمد من الدولة، و ظل يبحث الممولين و الآباء لإعداد قاعات للدراسة و التغذية للطلاب في جميع منطقة بحر إيجة. و نظم في أزمير معسكرات صيفية و بيوتا يستطيع طلاب الجامعة الإقامة بها ليدرسوا و يطوروا لديهم الشعور بالهوية كمسلمين أتراك، و أقام في تلك البيوت مجموعات صغيرة من الطلاب من نفس الجنس و ساعد أحدهم الآخر في الدراسة و قرأوا القرآن و كتابات النورسي و كولن كما صلوا معا و نموا شعورا قويا بالتضامن. و تعلم الطلاب القيم الإسلامية كالتضحية بالذات و المسؤولية الاجتماعية و حفظوها. و كانت بيوت الطلبة تلك بمثابة حماية من الخمر و إدمان المخدرات و الجنس قبل الزواج و التورط في الشيوعية و القومية المتطرفة أو في غيرها من الحركات الأصولية. فشجع العديد من الآباء المحافظين و المتدينين أبناءهم على الإقامة في بيوت الطلبة عندما ينضمون إلى الجامعة في المدن الكبيرة في تركيا.
لم يصمد أبدا الإسلام السياسي في أزمير حيث استاء أصحاب الأعمال و المهنيين من الطبقة المتوسطة من قيود بيروقراطية الدولة. فقامت هذه الطبقة بتأييد السياسات الصديقة للسوق و الأفكار الموالية للغرب. كما أثارت تعهدات كولن بتحرير السوق و تشجيعه لرجال الأعمال لتنمية أعمالهم لتكون تنافسية و عالمية و بعد ذلك المساهمة بجزء من ثرواتهم لدعم المشروعات الخدمية روح تنظيم المشروعات. فكان تمويل بيوت الطلبة و المدارس الخاصة من رجال الأعمال المحليين الذين يدعمون مهمة كولن في تعليم الشباب كل من الموضوعات العلمانية و مبادئ الأخلاق، و بدأت في أزمير حركة قوية عابرة للحدود القومية تتشكل حول حركة كولن و التي تضم اليوم الآلاف من الشبكات الفضفاضة من الأفراد متشابهي التفكير.
و بين عامي 1972 و 1975 تولى كولن مناصب كواعظ في مدن مختلفة في مناطق بحر إيجة و مرمرة، حيث واصل الوعظ و الترويج لأفكاره حول التعليم و خدمة المجتمع في الوقت الذي كانت الفرص التعليمية نادرة للشعب التركي العادي، و اعتقد بعض المواطنين أن معظم المتعلمين تسللوا من عناصر حزبية راديكالية سواء من اليمين أو اليسار، ووقع الآباء – الذين نجح أبناءهم في امتحانات القبول للتعليم الجامعي أو الثانوي – في مأزق رغبتهم في تعليم أبنائهم مع خوفهم من الجو المسيس في المدارس و لمعالجة تلك المعضلة، شجع كولن أصحاب الأعمال الصغيرة على إنشاء بيوت طلبة داخلية حيث يستطيع الطلاب متابعة دراستها في جو أمل كولن أن يزيل البيئة المسيسة. و لدعم تلك البيوت و الفرض التعليمية أنشأ السكان المحليون الذين تشاركوا كولن مبادئه الخدمية حسابات المنح التي تمثل دعما للأنشطة. و مرة أخرى، كان السكان المحليون هم من رأوا الحاجة للتعليم الجيد و تأثروا بأفكار كولن الخدمية و من قدموا الموارد لوضع تلك الأفكار محل التنفيذ.
و بمرور الوقت أصبح الطلاب الذين أقاموا في بيوت الطلبة من أكبر المدافعين عن أفكار كولن الخدمية وعادوا إلى قراهم لنشر خبراتهم و فرصهم القيمة مسلحين بتعليم جيد، فأصبحوا تجارا ورجال أعمال و مهنيين في مجتمعاتهم و بدأوا في التجمع لتوفير الدعم المالي للمحافظة على بيوت الطلبة، و هكذا استمرت مشروعات خدمية أخرى. و في نفس الوقت كانت محاضرات كولن تسجل في شرائط كاسيت و توزع في جميع المجتمعات داخل تركيا. و أصبح أول واعظ تتوفر محاضراته للعامة في تركيا في شرائط الكاسيط المسموعة و المرئية. و من خلال نشاطات طلابه في مجتمعاتهم و القنوات التكنولوجية الحديثة في الاتصالات، بدأ خطاب كولن الخدمي في الانتشار في تركيا.
و في عام 1974 عين كولن في مدينة مانيسا حيث بدأ أول دورات تحضيرية للتعليم الجامعي في محاولة لتحضير أبناء العامة في تركيا للتعليم العالي. و حتى ذلك الوقت كان الالتحاق بالجامعة تقريبا محصورا على أبناء العائلات الغنية. و بتوفير دورات تحضيرية على أعلى مستوى أصبحت عينة واسعة من أبناء الطبقتين المتوسطة و العاملة مهيأة لدخول الامتحان الإجباري للالتحاق بالجامعة و لتعاود النجاح فيها.
تأسيس مدارس تستلهم أفكار كولن
مع السياسات الليبيرالية الجديدة لأوزال في أوائل الثمانينات و ظهور الفرصة الأعظم لتأسيس مدارس خاصة ف عام 1982 افتتحت أول مدرستين ثانويتين مستوحاتين من كولن، واحة في ازمير و الأخرى في إسطنبول. و تبعهم تأسيس المئات من تلك المدارس خلال العقدين اللاحقين في جميع أنحاء تركيا و بعدها في الجمهوريات التركية التابعة للإتحاد السوفيتي السابق و في البلدان الأخرى التي أعقبت الاتحاد السوفيتي و في البلقان و جنوب إفريقيا و أخيرا في الغرب. و في المنتدى الإقتصادي العالمي في دافوس عام 2000 أقر رئيس الوزراء أجاويد في خطابه بأهمية مدارس كولن في أنحاء العالم و كيفية إسهام تلك المدارس في ثقافات تركيا ورفاهيتها جنبا إلى جنب مع البلدان الأخرى.
و شجع كولن مستمعيه للاستثمار في المدارس الثانوية العلمانية المتميزة حيث كان يأمل في الجمع بين الأخلاق الإسلامية و المعرفة العلمانية، و كانت تلك المدارس مبنية على المناهج العلمانية المعتمدة من الدولة و تستخدم اللغة الإنجليزية للتعليم. و يتم تعليم الإسلام في ساعة واحدة مسموح بها من قبل الدولة للتعليم الديني ضمن ديانات مقارنة مع كتاب محدد من الدولة. و كل المدارس مثل باقي المؤسسات المستوحاة من كولن هي وحدات إدارية مستقلة و تمولها مجموعات محلية. إلا أن العاملين في تلك المدارس ينضمون إلى ما أسماه ” أجاي” ( الشبكة التعليمية للفضيلة)، و ذلك مبني على أن حقيقة أن الشخصيات القيادية تتواصل اجتماعيا ضمن ” الجماعة” و تشارك في حياة ” الجماعة” و ترتبط ببعضها البعض بعلاقات شخصية وثيقة نشأت في ” الجماعة” . و يكون العديد من مديري المدارس و المدرسين في كل من تركيا و خارجها من المتعلمين الذين لهم ارتباط وثيق ب”الجماعة”. و تتأكد الجماعة أن من يتنقل ضمن شبكتها يكون مؤهلا و متحفزا للخدمة أينما طلب.
و يوجد في تلك المدرس أيضا مدرسون غير مشاركين في حركة كولن بل و لم يسمع العديد منهم عن فتح الله كولن أبدا، و بالرغم من ذلك فإنه لولا التزام المعلمين الملهمين بفكر كولن – و الذين يعتبرون عملهم خدمة دينية – لاختلفت جودة تلك المدارس – و الذين يعتبرون عملهم خدمة دينية – لاختلفت جودة تلك المدارس. و يرسل العديد من الآباء أبناءهم إلى تلك المدارس لأنهم يدركون أنها أفضل تعليم ممكن لأبنائهم، و يشير ” أجاي” إلى تمكن كولن من تعزيز تأثير جماعته من خلال فتحها و جعلها جزء من مشروع أكبر تكتل لشبكات التعليم، و في حين أن المؤسسات تعتمد على الجماعة للحصول على المعلمين و الممولين، كما وجه كولن أفكاره لتشمل جمهورا أوسع من المهتمين بالتعليم و الحداثة.
و في عام 1977 كان كولن في السادسة و الثلاثين من عمره و عرف بشكل واسع كأحد الخطباء المؤثرين في تركيا، و في تلك السنة و في إحدى المناسبات أتى رئيس الوزراء و كبار الشخصيات الأخرى في الدولة لحضور صلاة الجمعة في المسجد الأزرق في اسطنبول فطلب من كولن إلقاء الخطبة.
النوافذ الإعلامية الملهمة بفكر كولن :
شجع كولن أيضا أتباعه على الدخول في مجال النشر كطريقة لنشر أهمية التعليم و الخدمة، و مرة أخرى وفر تحرر المناخ السياسي وفرصة وجود وسائل إخبارية مستقلة و غير خاضعة للرقابة – تلك التي قدمها الرئيس أوزال – السياق لإمكانية وجود مؤسسات نشر خاصة في تركيا، و في عام 1979 أسست مجموعة من المعلمين الملهمين بأفكار كولن التعليمية ” مؤسسة المعلمين” لدعم التعليم بدأت ف نشر صحيفتها الشهرية ” سيزينتي” أصبحت الصحيفة الشهرية الأعلى مبيعا في تركيا، و كانت مهمتها ربط العلم بالدين و إظهار التوافق بينهما، و أن المعرفة بالاثنين ضرورية لتعليم ناجح و كل إصدار للصحفية يكتب افتتاحيتها كولن، بالإضافة إلى تسجيل الآلاف من ندواته صوتيا و بصريا، و نشرت سلسلة من الخطب في مواضيع هامة في أكثر من 60 كتابا كان الكثير منها من أكثر الكتب مبيعا في تركيا، و ترجمت العديد منها إلى لغات عالمية أساسية ورقيا و إلكترونيا من خلال عدد هائل من المواقع الإلكترونية.
و دائما ما شجع كولن استخدام التقدم التكنولوجي كطريقة لتثقيف الجماهير و الشباب، و في عام 1982 أدخلت على الدستور إصلاحات اجتماعية تسمح بالمزيد من التنظيم الاجتماعي و الديني، و ذلك تحت رئاسة أوزال. و فتحت تلك الإصلاحات الطريق أمام التعبير الديني الذي كان محظورا في الماضي و أدت إلى إحياء الدين في جميع أنحاء البلاد، و نتيجة لذلك، و في الثمانينات، سجلت لكولن أحاديثه ووزعت على شرائط فيديو نشرت خطابه الخدمي إلى أكبر عدد من المشاهدين في جميع أنحاء تركيا. و في أواخر الثمانينات جذبت خطبه حشودا ضخمة من عشرات الآلاف و بأعداد غير مسبوقة في تركيا و سجلت تلك الخطب على شرائط فيديو ووزعت في جميع أنحاء تركيا.
و أسس المشاركون في حركة كولن أيضا محطة تليفزيونية قومية ” سمنيولو تلفزيونو STV ” ( تليفزيون المجرة” ووكالة أنباء رئيسية ” وكالة أخبار العالم” و صحيفة “زمان” اليومية المستقلة الأكثر تداولا في تركيا و التي تصدر بعشر لغات عالمية و باللغات المحلية التركية و توزع في كل أنحاء تركيا بالإضافة إلى العديد من المجلات الهامة، و ” نور المحدودة” و هي دار للنشر.
و حيث إن النجاح هو أفضل إعلان عن الفرص، و في هذه الحالة كما شاع أن كولن و من استلهموا رسالته كانوا يحققون ذلك، فقد دعي كولن للتحدث في جميع أنحاء تركيا. و كانت المجموعات المحلية حريصة على فتح مدارس مستوحاة من فكر كولن في مناطقهم، بالإضافة إلى تدريس الفنون و الإنسانيات، كانت مدارس كولن ناجحة جدا في إعداد الطلاب لامتحانات القبول بالجامعة و المسابقات الوطنية و الدولية في مجال العلوم و الرياضيات و الكيمياء و الأحياء و علوم الكمبيوتر . كان النجاح الذي حققته المدارس الخاصة بفضل حركة كولن تأكيدا للعديد مما قال كولن في خطبه و كتاباته و تحديدا قوله : أن يمكن للمرء أن يكون مسلما تقيا و مواكبا للحداثة في نفس الوقت.
كولن بوصفه جاذبا لصواعق الانتقادات
نظرا إلى تاريخ تركيا الحديث كجمهورية علمانية يرجع تاريخ إنشاؤها إلى مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 و تأسيس العلمانية كأحد المبادئ الكمالية الستة كان من المحتم أن ينال ظهور حركة كولن و نموها الاهتمام و يثير الخوف في الساحة السياسية العلمانية.
و بدءا من عام 1981 اعتقل كولن و سجن لستة أشهر حيث اتهمته سلطات الدولة بشكل دوري بأنه يهدد علمانية النظام الرسمي، و أثير حوله جدل في أواخر التسعينيات عندما أذاعت محطة تليفزيون خاصة أشرطة فيديو و نظر إليها على أنها وعظ للنضال ضد الجمهورية العلمانية و الإطاحة بها و استبدال دولة إسلامية بها، و قال بعض مؤديه إن تلك الشرائط تم التلاعب بمجموعة من الصور و التسجيلات بها لكي تنتقده و تهاجمه، و في عام 2000 قام المدعي العام للدولة ” يوكسيل” بتقديم طلب لاعتقال كولن بدعوى أنه و المتعاطفين معه قد نظموا جماعة لتغيير الحكومة العلمانية و تحويلها إلى دولة دينية، و بعد سنوات من المثول أمام المحاكم و الطعون رفضت المحكمة الجنائية العليا نهائيا القضية ضد كولن في عام 2006.
و انتقل كولن في عام 1999 إلى الولايات المتحدة للرعاية الطبية و العلاج من العديد من الأمراض مثل مشاكل في القلب وداء السكري، و حتى في الولايات المتحدة لم تخل حياته من الجدل، ففي نونبر عام 2006 قدم كولن استمارة للإقامة الدائمة ( المعروفة بالبطاقة الخضراء) و التي تسمح له بالعيش و العمل شرعيا في البلاد، ورفضت دائرة خدمات الجنسية و الهجرة الأمريكية طلبه بحجة أن أساسه غير مكتمل و غير مؤكد، تحديدا مكانته ” كأكاديمي موهوب للغاية” و طعن كولن في القرار في محكمة فيدرالية في المنطقة الشرقية من ولاية بنسلفانيا – حيث يقيم – و أيدته المحكمة و أصدرت قرار يرى أن رفض دائرة خدمات الجنسية و الهجرة الأمريكية في غير محله، و أخيرا في أكتوبر عام 2008 استجيب طلب كولن و منحته حكومة الولايات المتحدة الإقامة الدائمة.
و كما ذكر أعلاه فإن قصة حياة كولن توضح أنه كان مصدر إلهام للملايين من الأتراك في جميع أنحاء العالم الذين أصبحوا صدى لأفكاره و ملتزمين بكونهم جزء من الصحب ” حلقات الدرس المحلية” التي يعقدها أشخاص يتحدثون حول مواضيع خطبه و كتاباته و يعطون من أموالهم ووقتهم لدعم المشاريع الخدمية التي يلهمها كولن، و على جانب آخر هناك أتراك مقتنعون أن كولن و أتباعه يؤسسون لدولة دينية في تركيا لتقودها للخلف في توجهها نحو الحداثة سريا مكرسا لكولن و لأجندته، فما هي أفكار كولن و معتقداته ورؤيته العالمية التي ألهمت البعض و قادت آخرين للخوف على مستقبل تركيا؟