اعتذار إلى محمد فتح الله كولن
أعترف -بادئ ذي بدء- أنّني لم أكن أعرف الأستاذ فتح الله كولن قبل ستّ أو سبع سنوات. فما سبق لي قط قبل ذلك أن وقعت على كتابٍ مِن كتبه، أو قرأتُ مقالاً من مقالاته، أو وقفتُ على اسمه في مصدر من المصادر، أو حتى سمعتُ عن اسمه في وقت من الأوقات. كانت مجلة “حراء” هي مصدر معرفتي بالأستاذ كولن، حين وصلني عدد من أعداد سنتها الأولى في أول عهدي بها، لأجد نفسي أمام كاتب من طراز راق، لم أتردد في أن أصفه يومئذ بأنه مفكر عالي المقام متميز لا عهد لي بمثيل له منذ أن امتدت الأسباب بيني وبين القراءة قبل قرابة خمسة عقود وإلى اليوم.
كانت قراءتي للمقال الافتتاحي في مجلة “حراء” نقطة البداية في اتصالي الفكري والروحي بالأستاذ كولن، حيث أضرم ذلك المقال في أعماقي شعلةً ما لبثت أن توهجت حتى أضاءت أقطار نفسي، فصرتُ أترقّب وصول مجلة “حراء” لأغذّي عقلي وأمتّع نفسي بقراءة مقاله. ثم طفقت أبحث عن مؤلفاته، فكان أول ما تعرفت عليه منها كتابه “النور الخالد: محمد r مفخرة الإنسانية” الذي التهمتُه، حتى لا أقول قرأتُه، بل أحبّذ أن أقول إنني هضمتُه كما يهضم الجائع ما يقدَّم إليه على المائدة من أطايب الطعام. فقد نقلني هذا الكتاب الجميل العذب المذاق الرائق المشرب، نقلةً بعيدةً إلى الأجواء المعطرة بأريج النبوة، وكأنني حديث عهد بالقراءة في السيرة النبوية الشريفة، وكأن العشرات من المؤلفات في السيرة التي صنّفها القدامى من علماء الأمة والمحدثون والمعاصرون التي قرأتُها، لم تكشف لي الحجب عن حياة رسول الله r. لقد وجدت في ذلك الكتاب ما لم أجده في “سيرة ابن هشام”، وفي “الروض الأنف” للسهيلي، وفي “الشمائل” للترمذي، وفي “السيرة الحلبية” لنور الدين الحلبي، وفي عشرات الكتب حول السيرة التي دوَّن عناوينها الدكتور صلاح الدين المنجد في “معجم ما أُلّف عن رسول الله r” الذي صدر في مجلد كبير. وليس في ذلك انتقاصٌ من القيمة العلمية لهذه النفائس من المصنفات، وإنما لجدّة المنهج الذي اعتمده الأستاذ كولن وتميّز به، وللروح الشفافة المجنحة التي تطبع هذا الكتاب، ولجمعه في إهاب واحد بين حرارة الإيمان وعمق الفكرة والغوص في بحار المعاني السامية لاستخراج اللآلئ ولاستخلاص الدروس، وبين جمال العرض وإحكام السبك مع إشراق اللغة التي أجاد الأستاذ أورخان محمد علي ترجمتها إلى عربية رائقة رائعة رفيعة. بسبب ذلك ازداد يقيني في أن الأستاذ كولن نسيج وحده حقيقةً لا مجازًا، وأن كتابته عن “النور الخالد: محمد r مفخرة الإنسانية”، نمطٌ فريدٌ يثير الاهتمام، ويستحق التقدير، ويستدعي متابعة ما يخطه يراع صاحبه من كتابات.
وكذلك كان شأني -ولا يزال- مع مؤلفات الأستاذ محمد فتح الله كولن، فقد أدركتُ مع مواصلة القراءة فيها، والتعمق في فهم الرسالة التي يحملها والبلاغ الذي يُوصله من خلالها إلى القارئ، أن هذا المفكّر ليس كغيره من المفكرين، وأن المهمة المشرّفة والرسالة المشرقة اللتين نذر حياته لهما ويضطلع بهما، تعلو قيمتهما وتشمخ ذروتهما إلى القمة، وأنهما ليستا من قبيل المهامّ الفكرية والرسالات الثقافية التي يقوم بها ويتحمّل أعباءها جمهرة من العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين والمجددين على تعاقب الأزمان. وأيقنتُ بسبب من ذلك كله، أن القدَر قد ادّخر هذا المصلح المجدّد للفكر الباني للنهضة، ليقوم بما يحتاج إليه المجتمع من نفخٍ في روح العمل، ومن حفزٍ للهمم، ومن إنهاضٍ للأمّة، ومن إنقاذٍ لروحها، ومن دفعٍ بها إلى الأمام.
جاءت صلتي الأولى بالأستاذ محمد فتح الله كولن بعد سنوات قليلة من صلتي بالأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، الذي بدأتُ قراءتي لكتاباته في العقد السابع من القرن الماضي، حين وقع بين يدي كتيب نشر في دمشق، يضم بعضًا من رسائل النور التي ترجمها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وقبل فترة طويلة من قراءتي للترجمة الوافية التي كتبها الأستاذ إحسان قاسم الصالحي للمصلح المجدّد الأستاذ النورسي. ثم مضت سنوات قبل أن تتيسّر لي الأسباب لقراءة كليات رسائل النور التي ترجمها الأستاذ الصالحي، التي وقع في يدي منها في بادئ الأمر، مجلد واحد، قرأتُه وتعمّقت في فهمه حتى أحسبني أنني تشرّبت روح الكاتب. ثم بحثتُ عن المجلدات الأخرى حتى توفّرت عندي المجموعة الكاملة، فتفرّغت لقراءتها، وأقبلتُ على دراستها، ولم تفارقني كليات رسائل النور منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، أحتفظ بها في غرفة النوم بحيث تكون في متناول اليد، وليس في غرفة المكتبة، أعود بين الفينة والأخرى إلى القراءة فيها، والاستزادة من الاغتراف من مناهلها العذبة، فأشعر بالانتعاش في الروح، وبالسكينة في النفس، وبالطمأنينة في القلب، وبذلك أكون قد جمعت بين الحسنيين وفزت بالفضلين والحمد لله؛ رسائل سعيد النورسي ومؤلفات فتح الله كولن. وقد وصلت بعد الدراسة المعمقة لفكر الرجلين القدوتين، ودوام القراءة في كتاباتهما، أنهما يحملان رسالة واحدة ويتكاملان في الفكر والتوجّه والمقصد الشريف؛ فالأول هو المؤسّس الرائد لخدمة الإيمان والقرآن والنافخ في روح الأمة، والثاني هو باني النهضة والمفكر ذو الرؤية الشفافة والبصيرة النافذة ومترجم أفكار الأول إلى أفعال تنفيذية وأعمال تطبيقية، على الرغم من أنه لم يجمع بينهما لقاء الجسد، ولكن ربط بينهما ائتلاف الروح، ووشائج الإيمان، والعزيمة المتأججة القوية لإنقاذ المجتمع من مهاوي الضلال والضياع والتيه، ولبناء الإنسان العارف لربه القادر على المشاركة في تطوير الحياة، وللنهوض بالوطن القوي المتماسك الطامح إلى المعالي.
لقد أدركت عن وعي وبعد دراسة متعمقة، أنّ مكانة الأستاذ محمد فتح الله كولن من بين المفكرين المستنيرين المجدّدين في العالم الإسلامي -بصورة إجمالية- دونها أيّ مكانة يتبوأها مفكر ينتمي إلى المدرسة الإسلامية، شارك في إغناء الحياة العقلية وفي إنتاج منظومة الأفكار الإحيائية، وفي إنشاء المدارس التجديدية، وفي تأسيس الحركات الإصلاحية؛ فمنذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وحسين الجسر، ومحمد رشيد رضا، إلى حسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، والطاهر بن عاشور، والبشير الإبراهيمي، وعبد العزيز الثعالبي، وأبي الحسن عليّ الندوي، وأبي الأعلى المودودي، وعلاّل الفاسي، وعبد الله كنون، مرورًا بمحمود شلتوت، ومحمد مصطفى المراغي، ومحمد حسين الخضر وغيرهم من هذه الكوكبة المضيئة والأعلام الشامخة، لم يعرف الفكر الإسلامي تلك الهزة القوية الضخمة المجلجلة والمزلزلة التي عرفها عند محمد فتح الله كولن، والتي أحدثت هذه الحركة الفوّارة بالحياة الدافقة بالعطاء والدافعة إلى التغيير العميق الواسع الشامل هذا، وإلى تجديد البناء انطلاقًا من بناء الإنسان الصالح المصلح لنفسه ولإخوانه ولوطنه، والذي هو الأساس الصلب في تنمية المجتمعات من النواحي كافة.
إن الذي جمع بين تلك النخبة النابغة المتميزة، هو الاشتغال بالفكر، وبالعمل في حقول التربية والتعليم، وبالكفاح الوطني بالنسبة لبعض منها، حيث اجتهدت وجاهدت وضحت وأبلت البلاء الحسن، كل من موقعه وحسب جهده واجتهاده وعطائه وتأثيره في محيطه، ولكن أحدًا منهم لم يُحدث في محيطه الخاص وفي محيطه العام ببلده -بصورة عامة- وفي دوائر كثيرة خارج الوطن الذي ينتمي إليه، ما أحدثه محمد فتح الله كولن من تغيير واسع وعميق في الأفكار، وفي الرؤى، وفي المواقف الفردية والجماعية، وفي حركة المجتمع على شتى المستويات.
لقد كان هؤلاء المفكرون الرواد -وجميعُهم موضع احترام وتقدير عظيمين- يعملون في محيط لم يكن قد انفصل عن الجذور وتنكر نهائيًّا للأصول، على الرغم مما كانت تعرفه البلدان الذين ينتمون إليها من ظروف الاحتلال الأجنبي الذي فرض ثقافته ولغته وسياسته على الشعوب العربية التي كانت رازحةً تحت وطأته، مما جعل هؤلاء المفكرين والدعاة والمصلحين وقادة الرأي والزعماء السياسيين، يصرفون اهتمامهم للدعوة الإصلاحية، وللعمل الفكري لتنوير العقول، ولبث الحمية وإيقاظ الهمة في النفوس. وكان عملهم في هذا المجال الحيوي، عظيم النفع والفائدة يُحمد لهم، وهو المجال الذي يلتقون فيه مع محمد فتح الله كولن، إذا نظرنا إلى الموضوع من الزاوية الفكرية؛ أما إذا تجاوزنا ذلك كله إلى ما هو أشمل مجالاً وأرحب أفقًا وأعمق تأثيرًا، فإننا سنجد أن كولن يتميز عنهم جميعًا دون استثناء، لأن المحيط الذي عمل فيه أول عهده بالحركة في مضمار التوعية الدينية والتوجيه الفكري، كانت طبيعته تختلف كليًّا عما عرفته البلدان العربية جميعًا، وذلك نتيجةً للسياسة التغريبية الكاسحة التي سادت تركيا، والتي تركزت على إفساد روح الشعب، واغتصاب هويته، واقتلاع جذور أصالته، مما جعل المهمة التي تصدّى لها فتح الله كولن بالغة الصعوبة محفوفة بالمخاطر، لأنها بطبيعتها مواجهةٌ مع تحديات تفوق في ضراوتها وشراستها وعنفوانها ما عرفه العرب والمسلمون جميعًا في شتى أقطار الأرض خلال القرنين الماضيين من تحديات، وواجهوه من صعوبات، وعاشوه من محن، مما كان يقتضي تجديد البناء من الأساس، وتجاوز الأقوال إلى الأفعال، والانتقال من التنظير الفكري إلى التطبيق العملي، بما يتطلبه ذلك من ربط الفكر المجدِّد بالعمل المسدَّد الذي يشارك الناس في إنجازه لمصلحتهم التي يسعون إليها.
وليس معنى ذلك أن كولن يفضُل مَن سبقه ومن عاصره من النواحي الفكرية والملكات العقلية والقدرات النفسية، فلسنا نزكي على الله أحدًا، ولكن القصد هو أنه يتميز عنهم -حتى لا أقول يفضُلهم- بالمنهج الذي اعتمده، وبالخطاب الذي استعمله، وبالوسائل التي استخدمها، وبالإنجازات التي حقّقها، وبالأبعاد التي وصل إليها، وبالآفاق التي انفتح عليها؛ بحيث أصبح العمل الذي ينهض به -ولا يزال، بارك الله في عمره- مثالاً عزيزَ النظير للعمل النافع الجادّ القائم على أساس الدين الحنيف، والفهم السليم لمقاصده، والإدراك الواعي لمقتضيات التطور، والتكيّف المتوازن مع المتغيرات، والانتهاج للسبل القويمة والمأمونة لبلوغ الغايات النبيلة التي تخدم المجتمع، وترتقي بالإنسان، وتصنع الحضارة.
فمن المزايا التي ينفرد بها الأستاذ محمد فتح الله كولن أنه يمتلك شروط التفكير الحركي، لا بالمفهوم التنظيمي السائد المتداول، ولكن بالمفهوم الحضاري الراقي؛ فهو مفكر حركي بهذا المفهوم، فكرُه منتج، وحركتُه فاعلة ومؤثرة في الواقع المعيش، لا في الواقع الافتراضي، لأنه واقعيٌّ في تفكيره، وموضوعيٌّ في رؤيته إلى الأمور، وطبيعيٌّ في تعامله مع مَن -وما- حوله، وتلك درجة رفيعة ارتقى بها كولن إلى مصاف القادة الفكريين المجددين المصلحين المربّين للناس الناهضين بأحوالهم العاملين على تطوير أوضاعهم نحو الأفضل والأكرم.
إن تلك هي القواعد التي تقوم عليها حركة “الخدمة” التي تعدُّ بكل المقاييس نموذجًا فريدًا في التنمية الذاتية الجامعة المتعددة المجالات على صعيد العالم الإسلامي -إن لم يكن على الصعيد الدولي- للحركة المجتمعية المتكاملة والفاعلة والمتفاعلة والمبدعة للحلول التي تعالج مشكلات المجتمع والمنتجة للمنافع التي تفيد الناس في دنياهم وأخراهم، والتي تعتمد أساسًا على بناء الفرد وتربية الجماعة وتزكيتها، وبث روح التطوع والتنافس في البذل والعطاء والتسابق في أعمال الخير، وتقوية الانتماء إلى الوطن والعمل على ترقيته ونمائه وازدهاره.
إن واعظًا دينيًّا موظَّفًا في الحكومة، يبدأ حياته العملية بداية جد متواضعة، ويواظب على تطوير نفسه بهمّة عالية وعزيمة قوية، ويستطيع أن يغيّر في محيطه وفي بيئته على هذا النحو الذي أحدث حركة غير مسبوقة تجاوب معها البسطاء، ووثق فيها القادرون على العطاء، حتى استوت على عودها، ونمت وترعْرعت انطلاقًا من المدرسة المتواضعة ولكنها المتميزة، التي ما لبثت أن أصبحت نموذجًا راقيًا للتربية البانية والتعليم المنتج، فتشعّبت وامتدّت فروعها ودنت قطوفها. إن هذا الواعظ الديني الذي بدأ حياته موظفًا في سلك الوعاظ الدينيين التقليديين، الذي نجح في تغيير المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يقلب موازين القوى الفكرية والاجتماعية في بلاده، لهو مثالٌ نادر للرجل القوي بإيمانه، والقوي بفكره، والقوي بالعمل الذي نهض به، والقوي بالقلوب التي التفَّت حوله والتي دانت له بالمحبة وبالإخلاص وبالثقة، حتى استطاع أصحابها أن يحققوا من الإنجازات القائمة في الأرض -وليست المتوهمة والمتخيلة- تحت قيادته الروحية وريادته الفكرية، ما جعل من جماعة الخدمة أرقى الجماعات القوية المتماسكة التي يجمع بينها حبّ الإسلام، وحب الخدمة لصالح الناس ولفائدة المجتمع، في غير ما جلبة أو ضوضاء، أو شعارات أو تنظيمات من قبيل ما نعرفه نحن في بلادنا العربية.
من أجل ذلك كان الأستاذ محمد فتح الله كولن نسيج وحده من بين جمهرة المفكرين والدعاة والمصلحين والمجددين والمشتغلين بالقضايا العامة التي تخدم مصالح الناس أجمعين.
في تقديمه للطبعة الجديدة لكتاب “المثنوي العربي النوري” للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، كتب الأستاذ محمد فتح الله كولن قائلاً: “لو أن بديع الزمان حظي بدعم بضع مئات من المثقّفين وهو ينشر رسائله في أرجاء البلاد، ووجد منهم سندًا لأفكاره، فلَربّما كنا من أغنى الأمم وأكثرها مدنية، ومن أقدرها على حل المشاكل التي تتعرّض لها، ولَكُنّا دخلنا المرحلة الحالية منذ ذلك الوقت (أي منذ بداية القرن العشرين) ولَما جابهتْنا المشاكل الحالية العديدة. ومع كل هذا فنحن نحمل أملاً كبيرًا، لأننا نرى أن الذين ينظرون إلى أمّتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية، هم على خطإ كبير.. صحيح أننا تأخّرنا مثل غيرنا من الأمم الأخرى وضعُفنا، فليس في وسع أحد إنكار هذا، ولكن ليس في وسع أحد أيضًا أن ينفي قدرتنا على النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية… فلقد بدت أنوار اليقظة والانتباه والحيوية تلتمع في أرواحنا كأمّة بدلاً من روح الكسل والخمود؛ إذ بدأ دفء الحياة ونبض النشاط والحيوية يتسلّلان إلى أرواحنا. إذن فلا شك أن أيام الربيع المشرقة الخضراء على الأبواب”.
إن ما لم يجده بديع الزمان سعيد النورسي أمامه، وجده فتح الله كولن متاحًا بين يديه، فهو الذي أوقد شعلة الأمل، وبث روح الحياة في الأرواح حتى صارت تركيا التي ترفرف على أرجائها رايات الخدمة، قبلة للمؤمنين المتطلّعين إلى الإصلاح على أساس الدين والمتشوقين إلى التقدم تحت راية الإيمان والقرآن.
ولأن الأستاذ محمد فتح الله كولن هو صاحب هذه الحركة الحضارية، فإنني أعتذر إليه، بسبب تقصيري في معرفته، وتأخيري في اللقاء الروحي والفكري به.
محمد فتح الله كولن.. الرجل الظاهرة
اختارت المجلة الأمريكية “السياسية الخارجية” (FP: Foreign Policy) المفكر ورجل الإصلاح والتجديد في تركيا الأستاذ محمد فتح الله كولن ضمن قائمة المائة شخصية عامة في القمّة الأكثر تأثيرًا في العالم. وكانت جامعة الدول العربية قد احتضنت في قاعتها الكبرى في شهر أكتوبر الماضي (19-21 أكتوبر 2009م)، مؤتمرًا دوليًّا حول موضوع “مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي: خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية”. وبعد ذلك بفترة قليلة، عقدت في العاصمة الأردنية عمان، ندوة دولية حول الفكر الإصلاحي لدى محمد فتح الله كولن. وقبل يومين فرغتُ من قراءة رواية جديدة صدرت في القاهرة عن دار النيل، للكاتب المغربي الأستاذ فريد الأنصاري المرحوم، تحت عنوان “عودة الفرسان: سيرة محمد فتح الله كولن رائد الفرسان القادمين من وراء الغيب”. وهي في الواقع ليستْ رواية بالمفهوم الأدبي المتداول، ولكنها سيرة مفصّلة لمراحل من حياة الأستاذ محمد فتح الله كولن الذي خرج من تحت معطف الأستاذ سعيد النورسي الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، وقام بعمل فردي بالغ الأهمية عظيم النفع كان له الأثر العميق في الخروج بتركيا من مرحلة كانت الدولة فيها تنشر الإلحاد وتحارب الإسلام وتعادي القرآن واللغة العربية والحرف العربي والشريعة الإسلامية بصورة رسمية، إلى مرحلة جديدة استرجع فيها الشعبُ التركيُّ هويتَه الإيمانية، حتى إذا جاء محمد فتح الله كولن مع بداية الستينيات من القرن الماضي، وأحدث في المجتمع التركي حركة إيمانية ذات امتدادات اجتماعية وتعليمية وثقافية وإعلامية، تولدت عنها مؤسسات اقتصادية وإنمائية تخدم الأهداف الإيمانية الإصلاحية التجديدية، على نحو لا مثيل له في الدول العربية بل في العالم الإسلامي أجمع على وجه الإطلاق.
الحركة الإيمانية الممتدة التي قام بها الأستاذ محمد فتح الله كولن على الأسس الثابتة التي أرساها بديع الزمان سعيد النورسي، تمثل تجربة في التجديد وإعادة البناء والإصلاح العميق الشامل الفاعل والمؤثر، جديرة بالدراسة. ولقد كان المؤتمر الذي عقد في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة والذي شارك فيه مفكرون وباحثون أكاديميون ومثقفون مهتمّون بقضايا العالم الإسلامي من شتّى أنحاء العالم، مناسبة مواتية لدراسة هذه التجربة الفريدة من نوعها بالمعنى الدقيق للكلمة، وليس على سبيل المجاز.
الأستاذ محمد فتْح الله كُولَن (بفتْح اللام، ومعناها بالتركية: الباسم الضحّاك) مفكر مجدّد، ومصلح اجتماعي مجتهد، وداعية حوار مع الثقافات والأديان، ومثقف عالم واسع الأفق رحب الرؤية ثاقب النظر راجح العقل شديد الوعي بما يحفل به الواقع من تحدّيات وصعوبات ومعوقات يتطلب تجاوزُها قدرًا كبيرًا من الحكمة البالغة ومن الأناة والحلم، ومن الترفّع عن صغائر الأمور والتركيز على عظائمها التي تنفع الناس وتمكث في الأرض. لفتح الله كولن مؤلفات كثيرة ودواوين شعر وترجمة لما تيسر من القرآن الكريم من خلال رؤية إيمانية تجديدية، وله كتاب قيم في السيرة النبوية يقع في مجلد ضخم قرأتُه في السنة الماضية وأفدتُ منه، كما قرأتُ بعضًا من مؤلفاته، وخرجتُ منها بزاد من المعرفة وافر أغنى حصيلتي وأنعش روحي وقرّبني من هذه الشخصية التي لا أبالغ إطلاقًا إذا قلت إنها من الشخصيات الفريدة في هذا العصر، من حيث المنهج الحكيم الذي يعتمده، ومن حيث التأثير القويّ الذي أحدثَته حركتُه في المجتمع الذي تنتمي إليه، وفي المحيط الإسلامي المجاور، وفي دوائر كثيرة داخل المجتمعات الإسلامية في العالم، وذلك نظرًا إلى أن آثار الحركة الإيمانية التي تدور في فلك الأستاذ محمد فتح الله كولن، تمتدّ إلى أنحاء عديدة من العالم.
يعيش فتح الله كولن اليوم في ولاية بانْسِيلْفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتلقى العلاج. وقد اضطر إلى الهجرة إلى أمريكا مرّتين بسبب الضغوطات التي مورست ضدّه والمحاكمات التي تعرّض لها والمضايقات التي تحاصره والتهديدات بالاغتيال التي واجهته. وعلى الرغم من أن المحكمة برأت ساحته فحكمت عليه بالبراءة من التهم التي وُجّهت إليه، إلا أنه فضّل البقاء في أمريكا لمتابعة العلاج، حيث يقوم بنشاط ثقافي فكري وأكاديمي من خلال العديد من المؤسسات العلمية والجامعات الأمريكية. واستطاع الرجل أن يؤسس بواسطة طلاّبه الأكاديميين، كرسيًّا علْميا للدراسات الإسلامية باسم بديع الزمان النورسي، في جامعة “جون كارول” بمدينة كليفلاند الأمريكية، يُشرف عليه باحثون أتراك، ومن خلاله يتم الإشراف على بحوث الماجستير والدكتوراه وعقد ندوات ومؤتمرات علمية. “ولم يزل فتح الله في منفاه الصغير الذي لا يغادره إلا إلى المستشفى لفحص صمامة القلب يلتقي بالوفود من الأكاديميين الكبار، وبعض رجال الدين المسيحيين الذين أعجبوا بشخصيته ذات العمق الفكري والسموّ الروحي العظمى”، كما يقول فريد الأنصاري كاتب سيرته.
ومن موقعه في الولايات المتحدة الأمريكية بحكم حالته الصحّية الدقيقة، يقود محمد فتح الله كولن الحركة الإيمانية أو “الخدمة القرآنية” حسب الاسم الذي اختاره لتجربته المتميّزة التي غيّرت الصورة العامة في تركيا، وأصبح لها وزنها في المعادلات والتوازنات المحلّية وتأثيراتها البالغة في استرجاع الشعب التركي لوعيه الحضاري وعودته إلى منابعه الثرّة وجذوره الراسخة.
في مؤتمر القاهرة حول مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، أبرزت البحوث والدراسات التي ألقيت، فلسفةَ حركة الأستاذ محمد فتح الله كولن ومفهوم الخدمة (خدمة الإيمان وخدمة القرآن) وهي ذات أضلاع ثلاثة: “العزيمة، الإخلاص، الهمّة” في المجال العام، وهي “الخدمة التي تستند إلى موارد بشرية بالأساس مدعومة بموارد الوقف والإنفاق التطوعي من أجل الصالح العام”. وأوضحت البحوث التي قُدّمت إلى المؤتمر، طبيعة نمط حركة فتح الله كولن للتغيير الاجتماعي باعتبارها “ليست حركة تركية، ولكنها حركة عبر قومية وعالمية للتربية ولعبور الجسور بين الأقوام والأديان تحقيقًا لنهوض الأمة الإسلامية وخير الإنسانية جمعاء”. وقد قُدّمت في مؤتمر القاهرة بحوث عرفت ببرنامج الحركة من حيث “أهمية التعليم ومقاومة الجهل والفرقة والفقر، ومن حيث آليات ووسائل الحركة ومجالات عملها داخل تركيا وعبر العالم من خلال المدارس والجامعات والإعلام ورجال الأعمال، و”وقْف(جمع أوقاف) الصحافيين والكتاب”، ومؤسسة “أبَانْتْ” للحوار، و”وقْف(جمع أوقاف) البحوث الأكاديمية”.
وقد تناولت البحوث التي قدمت في مؤتمر القاهرة أيضًا، والتي قرأتُ ملخصًا عنها في التقرير الختامي، مصادر التكوين الفكري لمحمد فتح الله كولن وخبراته العملية وطبيعة النموذج الذي يقدمه باعتباره شيخًا (بدأ حياته العملية واعظًا وخطيبًا تابعًا لإدارة الشؤون الدينية في عدد من المدن التركية)، ومفكرًا، ورائد حركة مدنية، ومصلحًا اجتماعيًا، وناشط سلام، وأديبًا وشاعرًا. وبيّنت دراستان قدمهما كل من الدكتور أركُون جابان والدكتور إبراهيم البيومي غانم، ثنائية مصادر تكوين محمد فتح الله كولن: الأصول الإسلامية والتراث الإسلامي، إلى جانب الاطلاع الواسع على الفلسفات والعلوم المعاصرة، ناهيك عن التكامل بين الفكر والحركة. وفي بحث للدكتورة أماني صالح شاركت به في المؤتمر، أبرزت “أهمية القيادة الإصلاحية، وأهمية ما يميز الرجلَ عن غيره من مصلحي النصف الأخير من القرن العشرين، وهو نقل فكره إلى الناس وتحويله إلى حركة دافعة في مجالات الإصلاح، مؤكدةً على أهمية البعد الإيماني في الحركة ليس بوصفه مجرد دافع، ولكن باعتبار الغاية منه التي تكتمل بالخدمة”.
ومفهوم “الخدمة” عند الأستاذ محمد فتح الله كولن، ولدى العاملين في إطار حركته، من المؤمنين بفكره، ومن الأنصار الداعمين لمشروعه الإصلاحي، يختلف عن المفهوم السائد المتعارف عليه في العالم العربي. وأعتقد أن خصوصية حركة فتح الله كولن تأتي من هذا الجانب، أي انفرادها بمفاهيم ومضامين ومدلولات تعطيها روحًا خاصة بها. ولذلك فإن فهم المشروع الحضاري المتميز الذي تعمل هذه الحركة لبلورته وتنفيذه في الواقع داخل تركيا وخارجها، أقول فهْم هذا المشروع غير متيسّر لمن لم يطلع على فكر هذا الرجل الفذ، وعلى فكر أستاذه بديع الزمان سعيد النورسي.
لقد مرّ الأستاذ فتح الله كولن بمراحل شاقة في نشأته الأولى في إحدى المدن الصغيرة في الأناضول شمال شرقي تركيا، حيث تلقّى علومه الدينية على شيوخ أتراك كانوا حريصين على نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى الجيل الجديد في تلك الفترة العصيبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وحفِظ القرآن الكريم على يد والدته في البيت. وقد نشأ في أسرة محافظة تنتسب إلى السلالة النبوية، انتقل أجدادها في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي إلى الأناضول. وعانى معاناة شديدة في اكتساب المعرفة الدينية واللغوية التي أهّلته لمزاولة مهنة الوعظ والخطابة. ولكنه أقبل على القراءة الحرة، فانفتحت له أبواب المعرفة، حيث اطلع على الفكر الإنساني في مصادره الفلسفية والأدبية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حتى صار من المثقّفين الموسوعيين الذين يقدرون رسالة الثقافة التنويرية، وارتبطت أسبابه بالأستاذ سعيد النورسي من خلال قراءته المتعمقة لرسائل النور التي كانت مشكاة أضاءت الطريق أمامه، بل كانت رسائل النور لبديع الزمان النورسي -بالنسبة لفتح الله كولن- بمثابة خريطة طريق اهتدى بها ولا يزال في دروب العمل الحضاري التنويري البنائي التجديدي الكبير الذي ينهض بمسؤولياته.
تحت يدي أثناء كتابة هذا المقال، الجزء الأول من كتاب “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح” للأستاذ محمد فتح الله كولن، ترجمه من التركية إلى العربية، الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، وكتب مقدمته الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ. وأشهد أن هذا الكتاب -الذي لا أعرف حتى الآن هل صدر الجزء الثاني منه- من الكتب النادرة التي تكشف عن طبيعة شخصية هذا الرجل الذي يمثّل ظاهرة فكرية وحركية. ولذلك استحق أن يحتل مكانه ضمن قائمة الشخصيات المائة في القمة الأكثر تأثيرًا في محيطها على الصعيد العالمي.
المفكر التركي المرشّح لجائزة نوبل للسلام:
ماذا لو عمل العرب بأفكار محمد فتح الله كولن؟
كلّما تفاقمت الأوضاع في العالم العربي -على أكثر من صعيد- وأطلت التأمل في تداعياتها، عدتُ بأفكاري إلى الأستاذ محمد فتح الله كولن، المفكر التركي الكبير الذي لا أجد له نظيرًا بين المفكرين العرب في هذا العصر، أستحضر أفكاره البنّاءة التي ينفرد بها، وأتأمّل في آرائه السديدة حول المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العربية الإسلامية، وأراجع بعضًا من كتاباته المتميزة، وأنظر في تحليلاته العميقة للقضايا الإنسانية المعقدة التي لم تفلح الأمم المتحدة في إيجاد تسويات لها، على الرغم من مضي أكثر من ستة عقود على تأسيس المنظمة الدولية، فأجدني أمام شخصية فذّة بالغة التميز تستحق أن أقدمها إلى القارئ للمرة الثانية، ولكن من جوانب جديدة.
الأستاذ محمد فتح الله كولن قطْب من أقطاب الفكر في هذا العصر، على المستوى الإنساني العام، وليس فحسب على المستوى الوطني التركي، أو على المستوى الإقليمي الإسلامي. هو شخصية فريدة من نوعها، ذات تأثير قويّ ونافذ وبالغ الفعالية في محيطه التركي، بل في العالم التركي الذي يشمل الدول التي تتحدث اللغة التركية في آسيا الوسطى، وأكاد أقول في مناطق شتى من هذا العالم. وربما كان اسم المفكر محمد فتح الله كولن غير معروف، على نطاق واسع في العالم العربي، كما هي أسماء كثيرة من أعلام الفكر والعلم والأدب والثقافة من العالم الإسلامي غير معروفة في البلدان العربية. لقد عشنا فترة طويلة لا نعرف من رموز الأدب والفكر الثقافة في تركيا سوى أسماء الشعراء والكتاب والأدباء اليساريّين، أو بعبارة أدقّ أسماء الشيوعيين الماركسيين الذين استطاعوا -بقوة الدعاية التي كان ينفخ فيها المعسكر الشيوعي بزعامة الاتّحاد السوفييتي المنهار- أن يفرضوا أنفسهم على المحافل الأدبية والفكرية والثقافية العربية، مثل الشاعر الشيوعي ناظم حكمت، الذي ظلّ اسمه يتردد في الصحافة العربية لسنوات طويلة باعتباره رمزًا للنضال الفكري والمقاومة السياسية من خلال الشعر في تركيا، واتضح بعد ذلك، أنه كان من أنصار إسرائيل والصهيونية العالمية، ومن المدافعين عن وجودها في قلب العالم العربي، فضلاً عن أنه كان من أشد خصوم الهوية الثقافية الحضارية للشعب التركي الشقيق.
لقد وُفّق الأستاذ محمد فتح الله كولن توفيقًا بعيدَ المدى غير مسبوق، في إيجاد حلول للمعادلة الصعبة الدقيقة التي لم يَهْتد المفكرون العرب إلى حلّها حتى الآن، وهي التركيز على نشر التعليم الراقي على أوسع نطاق، وبأعلى مستويات التطوير والتحديث ومسايرة متغيرات العصر، من خلال رؤية شمولية تتحرر من قيود الواقع وتتطلع إلى المستقبل، من دون التفريط في الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية، بحيث استطاع أن يُنشئ شبكة واسعة من المدارس والجامعات الراقية، ليس فقط في تركيا، وإنما في الدول الناطقة باللغة التركية في آسيا الوسطى التي استقلّت، أو بالأحرى استرجعت استقلالها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وفي عدد كبير من دول العالم، في آسيا وأوروبا والأمريكتين وأفريقيا وفي العالم العربي. وتتميز هذه الشبكة من المدارس ذات المستوى الجيد المتفوّق والجامعات الراقية التي تحتضن النخبة من الطلاب، بأنها تجمع في منظومة تعليمية واحدة، بين تدريس العلوم التطبيقية للتلاميذ والطلاب باللغة الإنجليزية، وبين التوجيه الأخلاقي والتشبّع بقيم الثقافة الدينية في غير ما تزمت أو تشدد أو انغلاق.
وتتكامل هذه الجهود المتفوقة الموفقة المتميزة التي تبذل على صعيد التربية والتعليم وفقًا لأحدث الطرق البيداغوجية والمناهج الأكاديمية المعتمدة في أرقى الجامعات العالمية، مع نشاط إعلامي ثقافي مكثّف شديد التميّز، يتمثل في تأسيس القنوات التلفزيونية والمحطّات الإذاعية وإصدار العشرات من المجلات الراقية بأكثر من ثلاثين لغة، تطبع وتوزّع في مناطق شتّى من العالم، وتعالج قضايا الفكر والعلم والثقافة والمعرفة بصورة عامة، بأساليب جد مبتكرة، تنفتح على العصر ولا تفرط في الثوابت، ودونما صخب إعلامي أو ضجيج ثقافة أو بهرجة وتشدق بالشعارات التي أفسدت الحياة الفكرية والثقافية في العالم العربي تحديدًا.. أتابع منها مجلة “حراء” التي تصدر باللغة العربية كل شهرين وتطبع في القاهرة وفي تركيا وفي السعودية وفي المغرب، بينما توجد هيئة التحرير في إسطنبول. كما يتوازى هذا النشاط الإعلامي الواسع، مع إصدار الكتب بأكثر من عشرين لغة، منها مؤلفات الأستاذ محمد فتح الله كولن التي آخر ما صدر منها كتاب بعنوان: “ونحن نبني حضارتنا”، ولكني أقرأ بانتظام المقالات الافتتاحية التي تنشرها له مجلة “حراء” في كل عدد، فأشعر بقشعريرة وجْدانية تهزّني، وبنشوة فكرية تثيرني، وبدفقة فوّارة من الفكر العميق والتحليل الدقيق تنعشني.
لقد استطاع المفكر المصلح الأستاذ محمد فتح الله كولن أن يقف في وجه تيارات التغريب المدمرة العاصفة التي كادت أن تقتلع الهوية الوطنية للشعب التركي من الجذور، وتقطع صلته بثقافته وتراثه وبتاريخ أسلافه. ولكن وقوفه الشجاع في وجه هذه التيارات العارمة الكاسحة، تميز -ولا يزال يتميز- بمواقف لم يتخذها غيره، تنبني على فهم عميق لطبيعة الأوضاع في بلاده، وعلى قدر كبير من الوعي الرشيد بالمتغيّرات الإقليمية والدولية، وتتعامل مع الواقع بحكمة بالغة هي من سجاياه التي عرف بها. فقد تجاوز الدخول في “الصراع” مع الأمر الواقع المفروض بقوة الدستور والقانون، إلى “التكيّف مع الواقع” واستغلال الجوانب الإيجابية فيه، والتفاعل معه، لا بمنطق “المعركة”، ولكن بمنطق “الحكمة العملية”. وهي الحكمة التي غابت -ولا تزال تغيب- عن نفر من المفكرين العرب الذين يعتمدون “الصدام”، و”الصراع”، و”النضال”، والدخول في “معارك” بهدف التغيير القسري على النحو الذي يصل أحيانًا إلى ضرب من “الانقلاب” الذي يفسد ولا يصلح، ويهدم ولا يبني، ويزيد من قتامة الأحوال ولا يبدّد ظلامها. وبهذا المنهج الواقعي الحكيم، أفلح الأستاذ محمد فتح الله كولن فيما فشل فيه سواه، واستطاع بتبصره، وبصدقه مع الله، ثم مع ذاته ومع المجتمع الذي ينتمي إليه، أن يهتدي إلى حلول عملية واقعية لتلك المعادلة الصعبة المعقدة التي تتمثل في “تطويع” الواقع، و”ترويض” الخصوم -وهم كثر- وتذليل الصعاب التي تعترض طريق العاملين بإخلاص نادر، من أجل تقدم المجتمع وتطويره والنهوض به، والربط بين الارتقاء المادي بالإنسان، وبين الارتقاء الروحي والثقافي بالإنسان، فلا يفصل فاصل بين الحالتين اللتين يجب أن تتكاملا وتتوازنا في تناغم وانسجام كاملين، إذا وقع الإخلال بهما، اختل الميزان وانفرط العقد وانحرف المسار، وربما انتهى الأمر إلى نتائج عكسية.
لقد عرفت تركيا خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، تصاعدًا في نشاط التيارات اليسارية التي كانت تعارض النظام، وتشن حربًا ثقافية حامية الوطيس ضد كل مقومات الشعب التركي وفي المقدمة منها “الدين”. وعلى الرغم من أن تركيا عرفت انفراجًا في الأزمة الحادة التي كانت تطبع الحياة العامة، وذلك ابتداء من مطلع الخمسينيات، حين تراجع نفوذ حزب الشعب الذي كان من مهامه الرئيسَة المعاداة الصريحة للدين واضطهاد المتدينين وخاصة العلماء وخطباء المساجد الذين يسمّون برجال الدين -وهي تسمية لا معنى لها في المجتمعات الإسلامية-، على الرغم من ذلك، فإن الأحزاب الماركسية التي كانت تعمل تحت الأرض، وتحارب النظام والدين والثقافة التركية بصورة عامة، كانت قد أخذت تتوسع في نشاطاتها السرية، وتمارس اضطهادًا وإرهابًا ضد الدين ومَن يعمل لنشره. وكانت الصحافة التركية في الستينيات والسبعينيات واقعة تحت تأثير اليسار بكل أطيافه، وكان ذلك أحد التناقضات الحادة التي عرفتها تركيا العلمانية الليبرالية العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتي كانت تحتضن القواعد الأمريكية. وكان هذا الوضع المتناقض والغريب، حافزًا للجيش للقيام بانقلاب عسكري في مطلع الثمانينيات أطاح بالحكومة، وشدد الخناق على أي نشاط ثقافي مستقل، خاصة ما يهدف منه إلى إنقاذ الهوية الثقافية والحضارية للشعب التركي.
في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ تركيا المعاصرة، كان محمد فتح الله كولن يعمل إمامًا وخطيبًا في أحد المساجد تابعًا لإدارة الشؤون الدينية. ولكنه كان إمامًا من نوع يختلف تمامًا عن الأئمة والخطباء الآخرين الذين كانوا -مثله- موظفين في الدولة. كان مثقّفًا منفتحًا على الثقافات الإنسانية، يقرأ بنَهم في مختلف فروع العلم والمعرفة، من الفلسفة والأدب، إلى العلوم السياسية والاجتماعية والعلوم التطبيقية، إلى العلوم الإنسانية بصورة عامة. وكان منفتحًا على محيطه القريب، يرتاد المقاهي الشعبية لإلقاء الدروس فيها بصورة عفوية. وكان في البداية يلقى صدًّا وعزوفًا عن الاستماع إليه من رواد المقاهي، ولكنه استطاع بصبره ومرونته ولين عريكته وبما حباه الله به من لطافة الحس ورقة في الطبع، أن يجذب الجمهور إليه، وأن يتوسّع في نشاطه بِخطوات متّزنة، متنقّلاً من محيط إلى آخر، إلى أن تمكّن من تكوين رأي عام محلي ويكتسب محبين يتجاوبون مع أفكاره ويتعاطفون معه، مما اضطرت معه الإدارة المسؤولة عن الشؤون الدينية، إلى أن تنقله إلى مدينة أخرى، ليعاود فيها القيام بالدور الذي كان يقوم به في موقعه السابق.
وكانت هذه الجهود تتوازى مع نشاط تعليمي تربوي كان يقوم به، يتمثل في إنشاء المدارس بالتبرعات التي كان يقدمها مجموعة من التجّار الذين آمنوا بأفكاره ووثقوا فيه وكانوا دعمًا له في عمله ولا يزالون. وهكذا استطاع أن يتحرك في ثلاثة مجالات حيوية؛
• نشر القيم الإسلامية ومحاربة الرذائل بالحكمة وبالتي هي أحسن من خلال المسجد والمقهى والمنتديات العامة،
• تأسيس النواة الأولى لسلسلة من المدارس المتميزة التي ما لبثت أن انتشرت في مختلف أنحاء البلاد،
• إصدار المجلات والكتب وتعزيز الاختلاط بالمثقفين والصحافيين والتحاور معهم والتأثير فيهم بالحسنى.
وبذلك توافرت له الأسباب لاستقطاب فئات عريضة من الشعب، خصوصًا من الشباب، سواء منهم خرّيجو المدارس التي أنشأها في عديد من المدن والبلدات، أو المثقفون والصحافيون الذين أنقذ بعضهم من جحيم الإلحاد والانحراف، فأصبحوا القاعدة العريضة للبيئة الاجتماعية الجديدة التي أسّسها، والتي احتضنت مشروعه الحضاري العديم المثال، وهو ما يصطلح عليه بـ”حركة الخدمة”.
وكان ذلك مجرد اصطلاح ليس إلاّ، لأن الرجل ومَن معه -وهم قطاع واسع عريض من الشعب التركي من كلّ الفئات- لا يطلقون على أنفسهم هذه الأسماء التي تروَّج عندنا في العالم العربي، من مثل “الحركة الإسلامية”، أو “التيار الإسلامي”، أو “الجماعة الإسلامية”، أو “الحزب الإسلامي”، أو “الكتلة الإسلامية”، إلى غيرها من الأسماء التي كثيرٌ منها مستمد من الأسماء التي تتبنّاها الأحزاب الشيوعية، سواء أكان من يطلقونها على أنفسهم يعون ذلك ويشعرون، أم لا يعون ولا يشعرون.
ومِن هنا تأتي الأهمية البالغة للعمل الكبير الذي نهض به محمد فتح الله كولن -ولا يزال ينهض به- حتى وإن كان قد اختار للدواعي الصحّية، الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو من موقعه ذاك، المربي الحصيف الحكيم لهذه الحركة الفوّارة الدائبة التي غيّرت المجتمع التركي وأحدثت فيه آثارًا إيجابية بالغة العمق، والتي تخدم أهداف التنمية الشاملة المستديمة، وتحمي النسيج التركي الوطني من مخاطر التمزق، وتكسب الدولة التركية قوة ومتانة معنويتين، وتوفر لها الأسباب الموضوعية للامتداد الثقافي والحضاري -الذي يعدّ الامتداد الديبلوماسي جزءًا منه- على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ولم يكن الأستاذ محمد فتح الله كولن ممن يعملون لفائدة نشر الأفكار التي يؤمنون بها وترسيخ قواعد المشروع الحضاري الذي يعملون له، وإنما كان -ولا يزال- رائدًا للحوار بين جميع الأطياف الفكرية والثقافية وأتباع العقائد الدينية في تركيا، استطاع أن يؤسس منتدى متعدد الأطراف للحوار وينشئ جوًّا مناسبًا مشبعًا بالثقة والاحترام المتبادل لهذا الحوار الديني والثقافي والفكري في إطار من الديمقراطية والشفافية والالتقاء حول المصلحة الوطنية العليا. وقد امتدّ هذا الحوار إلى الكنيسة الكاثوليكية، مما فتح الباب أمام محمد فتح الله كولن للِقاء مع بابا الفاتيكان السابق.
فهو إذن، رجل الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات، داخل تركيا وخارجها، ورائدٌ في هذا المجال. ولذلك استحق أن يرشَّح لنَيل جائزة نوبل للسلام، حسب ما ردّدَته بعض المنابر الإعلامية الغربية.
تُرى ماذا سيحدث لو عمل العرب، في هذه المرحلة، بأفكار محمد فتح الله كولن؟!
فتح الله كولن في جامعة محمد الخامس
استضافت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في حي أكدال، خلال الأسبوع الماضي (19 يناير 2012)، ندوة ثقافية حول فكر محمد فتح الله كولن المفكر والفيلسوف التركي، الذي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحث من هناك نَهضة تعليمية ثقافية اجتماعية كبرى تعمّ بلَده تركيا، وتمتد آثارها إلى عديد من دول العالم، من خلال شبكة واسعة من المدارس الراقية المتميزة التي تغطّي مناطق شتّى من العالم، في أوروبا وآسيا وإفريقيا والولايات المتحدة وأستراليا، في تجربة فريدة من نوعها بكل المقاييس ومن جميع جوانبها.
وقد احتفت النخبة المغربية من أساتذة الجامعات والمفكرين والمثقفين والعلماء والأكاديميين، بهذه الندوة الثقافية التي خصصت لدراسة آخر كتاب صدَر للأستاذ فتح الله كولن وتُرجم إلى اللغة العربية، ونشر في القاهرة بعنوان: “ونحن نَبْني حَضارتنا”، يعكس أفكار المؤلف البناءة ذات الوزن الثقيل ورؤاه التجديدية المبدعة، ويعبر عن رؤية في الإصلاح وإعادة صياغة العقل، وفي تجديد البناء على أسس قوية، من خلال مشروع للنهوض الحضاري، ليس له مثيل ضمن المشاريع الإصلاحية الإحيائية التجديدية التي عرفها العالم الإسلامي، منذ القرن التاسع عشر الميلادي وإلى مرحلتنا الحالية.
وقد قامت على هذه الندوة الفكرية المتميزة، مجلة “حراء” التي تصدر باللغة العربية من إسطنبول، وتُطبع في أكثر من عاصمة عربية، ومنها الرباط، وتوزع على نطاق واسع. وهي مجلة راقية يساهم في تحريرها كتّاب ومفكرون وشعراء من الدول العربية، ومنهم مجموعة من الأسماء المغربية اللامعة.
وهذا الربط بين الأستاذ فتح الله كولن ومجلة “حراء”، له أكثر من دلالة ومعنى ورمز؛ فهذه المجلة هي واحدة من عشرات المجلات التي تصدر في تركيا بلغات عديدة، وتوزع في المناطق التي تنتشر فيها هذه اللغات، وجميعها منابر ثقافية فكرية راقية تعبر -بأساليب حكيمة رصينة- عن فكر محمد فتح الله كولن المبدع والمتميز بصورة واضحة، من بين المدارس الفكرية في العالم الإسلامي وليس فقط في العالم العربي، من مدرسة جمال الدين الأفغاني، إلى مدرسة محمد عبده، إلى مدرسة محمد رشيد رضا، فمدرسة حسن البنّا، ومدرسة محمد البشير الإبراهيمي وعبد الحميد بن باديس، إلى مدرسة سيد قطب، ومدرسة مصطفى السباعي، إلى غيرها من المدارس الفكرية الإسلامية. ولذلك فإن هذه المدرسة جديرة بأن تدرس على أكثر من مستوى، وتعرض الأفكار التي تقوم عليها، للنقاش الواسع والتحليل العميق، ويعاد فيها النظر الثاقب، للوصول إلى المنابع التي تستقي منها، وللوقوف على المصادر التي تنبثق عنها، التماسًا للعبر والدروس منها.
لقد انطلق محمد فتح الله كولن في تنفيذ مشروعه الحضاري المتوازن والمتكامل، في الستينيات من القرن الماضي، من الاهتمام بالتربية والتعليم من خلال إنشاء مدارس أهلية بإمكانات بسيطة، سرعان ما انتشرت بين أكثر من مدينة وبلدة وقرية على امتداد الخريطة التركية، يساعده في ذلك الأفراد الذين وثقوا فيه، وآمنوا بفكرته التي كان يدعو إليها في دروسه الدينية وفي خطب الجمعة وفي المواقع التي يتجمع فيه الجمهور، خصوصًا في المقاهي الشعبية والأندية العامة، اقتناعًا منه أن التربية البانية والتعليم النافع المنتج، هما السبيل إلى التنمية والتقدم والتغيير الإيجابي، بطرق مستقيمة، وبمنهج سلمي مستنير، وبأساليب واقعية حكيمة.
كانت تركيا في تلك المرحلة، واقعة تحت هَيمنة نظام عسكري مستبد يمارس سياسة قمعية على شتّى المستويات، أفرزت أوضاعًا اقتصادية متردية فشا فيها الفقر خصوصًا في المناطق القروية وفي المدن الصغيرة، وسادت موجات عالية من محاربة التدين، ونشر الإلحاد والتربص بالمدارس الدينية التقليدية التي كانت قد عادت إلى فتح أبوابها في مطلع الخمسينيات، بعد أن ظلت ممنوعة طوال عهد مصطفى كمال أتاتورك، وفيما تلا ذلك من سنوات القمع في ظل حزب الشعب، إلى أن فشل هذا الحزب في الانتخابات البرلمانية في عام 1950م، وانهزم أمام الحزب الديمقراطي بزعامة عَدْنان مَنْدريس.
بدأ محمد فتح الله كولن حياته العملية واعظًا وإمامًا في المساجد، تابعًا للإدارة الدينية الملحقة برئاسة الحكومة. ولكنه لم يكن واعظًا تقليديًّا، ولا إمامًا من جملة أئمة المساجد في تركيا وفي البلدان الإسلامية الأخرى. لقد كان قدوة وأسوة وشعلة من الحيوية والنشاط، أقبل على القراءة في مختلف فروع الفكر والثقافة والأدب والعلوم والفنون، ونهل من منابع ثقافية وفكرية متنوعة، وجمع بإرادته القوية وعزيمته الصلبة، بين الثقافة الإسلامية في مصادرها التقليدية، وبين الثقافة الغربية في فروعها المتنوعة، فكان إذا تحدث إلى الناس، أفاد وأقنع وأمتع، وأقام بينه وبينهم جسورًا من المحبة والتقارب والتلاقي. وبذلك اجتمعت حوله طوائف شتّى من الشعب التركي، تؤيده في مشروعه، وتؤازره في تنفيذه، وتمنحه ثقتها وترى فيه مثالاً للصدق والجدّية والاستقامة، وتقف إلى جواره في تأسيس المدارس وتجهيزها، وفي تربية الناشئة بطرق بيداغوجية حديثة لم تكن مألوفة عهدئذ.
بدأ بمدرسة واحدة متواضعة، ثم انتقلت هذه المدرسة إلى موقع أكثر ملاءمة، ومن تلك المدرسة انطلق إلى إنشاء العشرات من المدارس التي أصبحت اليوم بالآلاف، إلى جانب الجامعات التي أسسها. وخرج بهذا المشروع التربوي الحضاري، بعد سنوات من التجربة المحلّية التي أعطت ثمارها، إلى آفاق أوسع؛ فعمل على إنشاء مدارس راقية متميزة في عديد من البلدان الآسيوية والإفريقية والأوروبية حيث توجد المجتمعات الإسلامية، ومن هذه السلسلة خمس أو ست مدارس في مدن مغربية. وتعتمد هذه المدارس أرقى المناهج العالمية في تدريس العلوم، وتعليم اللغة الإنجليزية، وتدريس المعلوميات، ويتخرج فيها كل سنة الآلاف من الشباب ذكورًا وإناثًا.
في ندوة جامعة محمد الخامس، تحدث مصطفى أوزجان الذي تربى في رحاب الأستاذ فتح الله كولن منذ أن كان فتى يافعًا، وعمل هو أيضًا واعظًا دينيًّا، إلى أن تفرّغ للخدمة في مشاريع ثقافية وأكاديمية واجتماعية متعددة تعمل في إطار هذا المشروع الحضاري الكبير، تحدث فقال: “إن المفكّر كولن يمتلك مشروعًا ثقافيًّا يحاول إيجاد الحلول للمعضلات المجتمعية، يرتكز على نشر التعليم الراقي على أوسع نطاق، وبأعلى مستويات التطوير والتحديث ومسايرة متغيرات العصر، من خلال رؤية شمولية تتحرر من قيود الواقع وتتطلع إلى المستقبل، دون التفريط في الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية”.
ولم أجد أبلغ في التعبير ولا أوفى بالقصد من التفسير لأبعاد هذا المشروع الحضاري التركي مما قاله مصطفى أوزجان الذي تعرفتُ عليه في مناسبات سابقة، فرأيتُ فيه مثالاً للصدق والجدّ والمثابرة على العمل والإخلاص والوفاء للمشروع الحضاري الذي يرعاه أستاذه كولن.
محمد فتح الله كولن المعروف في تركيا بـ”هُوجَا أَفَنْدي” (الأستاذ المعلّم) الذي هو “الشخصية الأكثر تأثيرًا في العالم”، وفقًا للإحصاء الذي أجرته جريدة “الأيكونُومست الأمريكية”. يقول عنه الدكتور عبد الحليم عويس في أحدث كتاب له صدر باللغة العربية بعنوان “فتح الله كولن: رائد النهضة الراشدة في تركيا المعاصرة”: “والعجيب أن ملايين المسلمين في العالم العربي لا يعرفون صاحب هذه الشخصية النادرة الذي يلقّبه أبناء تركيا بلقب “هُوجَا أَفَنْدي” ومعناه “الأستاذ المعلّم”.. فكيف حصل هذا التناقض بين هذه القمة الشامخة في ميدان الدعوة الإسلامية على المستوى العالمي، وجهل الناس به هذا الجهل المشين؟! إننا نعتقد أن الأستاذ فتح الله كولن يتحمّل قدرًا من المسؤولية حول هذا الأمر، فهو بطبيعته يعمل لله مخلصًا في صمت، لا يسعى إلى الشهرة، ولا يريد أن يتعرف عليه الناس على أنه نجم من النجوم”.
وإذا كان هذا الكلام صادقًا ودقيقًا وموضع تقدير من عارفي قدر المفكر الفيلسوف كولن، فإن صاحبه -يرحمه الله- وقع في المحظور، حين وصف المفكر المجدد المصلح بأنه “إمام النهضة”، ونعَته بـ”الشيخ”، بينما هو أبعد الناس عن هذه الألقاب، إذ ليس هو “إمامًا” للنهضة، بالمعنى الشائع في العالم العربي، وليس هو “شيخًا” بالمفهوم المتداول، فلا شبيه له من بين العاملين في الحقول التي يعمل فيها، في طول العالم العربي الإسلامي وعرضه.
لقد كتبت مرارًا ورددت في مجالس كثيرة، أن المفكر التركي محمد فتح الله كولن لا ينبغي النظر إلى أفكاره وأعماله ومشروعاته من خلال المنظور العربي الذي نعرفه. كذلك فإن حركة “جماعة النور” التي ترتبط ببديع الزمان سعيد النورسي، ليست هي مثل الحركات التي نعرفها في العالم العربي. هذا المفكر هو نسيج وحده، بالمعنى الدقيق للكلمة، وليس بالمعنى المجازي. وكذلك هي حركة “جماعة النور” التي خرج منها هذا المفكر، فريدة من نوعها لا نجد نظيرًا لها عند العرب كافة. ومن الخطأ البيّن أن نعتمد المعايير السائدة عندنا في توصيف النورسي وكُولن، وفي الحكم على هذه النهضة التعليمية الحضارية الكبرى الممتدة عبر الآفاق والمنطلقة من تركيا، وعلى هذه المشروعات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي هي معالم مضيئة للنهضة وللتقدم والتنمية في تركيا اليوم، والتي هي ثمرات من الشجرة المباركة التي زرعها محمد فتح الله كولن في بلده، في زمن القحط الثقافي والجفاف الفكري والجدب الاقتصادي والإرهاب السياسي الذي كانت تمارسه الدولة ضد مواطنيها في تلك الحقبة التي آلى كولن على نفسه أن يتحداها، وأن يمضي قدمًا في تنفيذ مشروعه الحضاري الذي ساهم به في تغيير تركيا من دولة فقيرة مفلسة إلى دولة تحتل اليوم المرتبة العشرين بين الدول المنتجة المصدرة.
إن وصف المفكر الفيلسوف كولن بأنه “الشخصية الأكثر تأثيرًا في العالم” وصف دقيق للغاية. فقد قام بعمل لم يقم به رجال الدولة في بلاده الذين تعاقبوا على الحكم، وأنْجز في الواقع المعيش ما لم ينجزه غيره، لأنه سلك السبل المستقيمة نحو إعادة بناء الإنسان التركي وصياغة النموذج الأرقى للنهضة التركية، من موقعه الذي لم يكن موقعَ زعيم، أو قائد، أو رجل دولة، وبالأحرى “إمام النهضة”، ولكنه موقع مفكر بعيد النظر ومصلح مجدّد صادق ومخلص عميق الفهم للواقع في بلاده وفي بلاد المسلمين عمومًا… رأى أن طريق الانبعاث والنهضة والتقدم والتنمية الشاملة المتكاملة، تبدأ من إعادة صياغة الإنسان بالتربية البانية للعقل وللوجدان، وبالتعليم الذي يفتح الآفاق للولوج إلى عالم المعرفة ولامتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا.
تلك هي بعض من الخصائص التي يتميّز بها المفكر الفيلسوف محمد فتح الله كولن ومجالات تفرّده، والذي احتفت به النخب المغربية في رحاب جامعة محمد الخامس.
رؤية أمريكية في محاورات حضارية..
حول فلسفة تغيير الإنسان
تقول المؤلفة الأمريكية الدكتورة جيل كارول: “لقد عشتُ مع فتح الله كولن من خلال كتاباته أثناء إعداد هذا الكتاب، وما زالت أفكاره تلهمني. وقد عرفت بعد لقائه، لماذا ألهم هذا الرجلُ ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا، ومنحهم الدافع، رجالاً ونساء، لإنشاء عالم جديد. إنه رجل يتمتع بقدر هائل من الروحانية والإخلاص والتعاطف. وهو شيء واضح للغاية في كتاباته وفي شخصيته”.
بهذه العبارات تختم المؤلفة الأمريكية الأكاديمية الدكتورة جيل كارول، كتابها المثير للفضول العلمي “محاورات حضارية: حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني”. أما الفلاسفة الذين تقارن المؤلفة بين نصوصهم ونصوص المفكر الفيلسوف التركي، فهم كونفوشيوس، وأفلاطون، وكانط، وجون ستيورات ميل، وسارتر. وأما الكاتبة فهي أكاديمية من جامعة “رايس” الأمريكية، تعمل خبيرة ومحاضرة متخصصة في مجال الدين والسياسة والمجتمع، وفلسفة الحياة، وعملت مديرة لمركز بحث وتطور التسامح الديني في الجامعة نفسها حتى يونيو 2009م، ولا تزال تعمل عضوًا في هيئة التدريس في كلية الدراسات الدينية في هذه الجامعة، وهي تلقي محاضرات في شتى المراكز العلمية والخدمية، كمعهد “كادم”، ومركز “جانك” للشباب في هيوستن، وسجن ولاية تكساس، بالإضافة إلى عملها كاتبة في مدونة تدعى “تولينك تولرانس” تابعة لجريدة “هيوستن كرونيكل”. وكتابها هذا الذي قدّم له البروفيسور أكبر أحمد (أستاذ كرسي ابن خلدون للدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية بواشنطن) حاز أصله الإنجليزي لقب الكتب الأكثر مبيعًا على موقع الأمازون في فئة الكتب الإسلامية إبان نشره في عام 2007م، علمًا بأنه ترجم إلى اثنتي عشرة لغة عالمية من بينها اللغة العربية.
ينقسم الكتاب الذي يحمل في أصله الإنجليزي عنوان (A Dialogue of Civilizations)، إلى خمسة فصول، تتناول الموضوعات التالية:
• القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية بين كولن وكانط،
• الحرية لدى كولن وميل،
• الإنسان المثالي لدى كولن وكونفوشيوس وأفلاطون،
• التعليم بين كولن وكونفوشيوس وأفلاطون،
• المسؤولية عند كولن وسارتر.
وعلى الرغم من انتماء كونفوشيوس وأفلاطون وكولن إلى خلفيات ورؤى حياتية مختلفة تمامًا، فإنهم يشتركون جميعًا في رؤية أساس واحدة حول بنية الواقع. فالثلاثة -كما تقول المؤلفة- يتحدثون عن رؤاهم للمجتمع الإنساني من منطلق مثالية غيبية تمثل الأساس والمصدر والحقيقة والأصل لكل الواقع الدنيوي. وبعد أن تحلل الرؤية الفلسفية عند كونفوشيوس وأفلاطون، تخلص المؤلفة إلى القول “إن كولن يؤكد على تصوره للحياة الإنسانية في إطار الإسلام الذي يطرح رؤية حياتية تجمع بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ولا تكتسب الحياة الدنيا كمالها ومعناها وأصالتها، إلا عندما نعيش فيها ونحن نؤمن بوجود الله I باعتباره المصدر والأساس للحقيقة. وجميع الكائنات هي في جوهرها مسلمة -بمعنى أنها تسلم وجهها لله- لأنه لا وجود مطلقًا لأي شيء بعيدًا عن إرادة الله وقدرته. وعندما تسير الأشياء في حياتها وأهدافها بالطريقة التي فطرها الله عليها، فإنها تفعل ذلك في خضوع واستسلام لله باعتبارها مسلمة”. وتقول المؤلفة وهي تحلل في استيعاب عميق رؤية كولن المستمدة من الإسلام، “إن الحياة في أكمل صورها لا تكون إلا عندما نعيشها ونحن نؤمن -بعقولنا وليس فقط بالفطرة- بتلك الجنة الأبدية للحياة في خضوع واستسلام لله I”.
وتسجل المؤلفة ملاحظة مهمة في إطار المقارنة بين المفكرين الثلاثة، فتقول “إن أفكار كولن عن العالم الإسلامي، وخصوصًا تاريخ الأناضول ومصيره، تتوازى مع خواطر كونفوشيوس عن الصين القديمة؛ فكلا الرجلين يشير إلى فترة ماضية من العظمة الضائعة التي يجب استعادتها الآن. يشير كونفوشيوس بشكل متكرر، إلى الحكام والأباطرة القدماء وغيرهم من الأجيال السابقة كأمثلة للنبْل وللحكمة اللذين كان ينبغي -وقتها- استلهامهما لو كانت الصين ترغب في استعادة مجدها السابق وتجنّب التشرذم والطغيان. وكولن يتأمّل أيضًا في الماضي المجيد للإمبراطورية العثمانية يوم كانت الحضارة التركية في أوجها، وكان الإسلام كدِين وثقافة يسود العالم سيادة مطلقة. وهو يرى أن عظمة العثمانيين الحقيقية كانت تكمن في التزامهم بالمثل العليا التي تهدف إلى خير المجتمع في حاضره ومستقبله، وأيضًا في جوهرهم الإسلامي الذي جعلهم يقتدون بالخلفاء الأربعة الراشدين، ويرى كولن أيضًا، أن شخصيات بارزة مثل الفراعنة وقيصر ونابليون، وإن كانت تصرفاتهم تسيء إلى سمعتهم، فإن أعمالهم لم تكن ذات طبيعة استمرارية، لأن الدافع في أعماقهم لم يكن المثل العليا من أجل الإنسانية ومستقبلها، بل الطموح الشخصي والطمع وشهوة القوة”.
وتنقل المؤلفة فقرة من كتاب كولن “ونحن نقيم صرح الروح”، يشرح فيها هذه الفكرة حيث يقول: “إن الفخامة والعظمة والحياة الصاخبة لفرعون ونمرود ونابليون وقيصر وأمثالهم، لم تقدم شيئًا باسم المستقبل -مهما كبرت أعمالهم في عيون قوم يحسنون الظن بلا تمحيص- بل محال ذلك، لأنهم وضعوا الحق تحت إمرة القوة، وشدوا الروابط الاجتماعية حول المنافع، وقضوا أعمارهم عبيدًا للنفسانية عبودية لا ترتضي عتقا”. ولا شك أن مَن ذكرهم كولن في هذه الفقرة، لهم أشباه ونظائر في واقعنا المعاصر، خصوصًا في العالم العربي الإسلامي.
وينتقل بنا الكتاب إلى موضوع التعليم، فيبرز كيف أن كولن يضع التعليم والتعلّم في صلب الغرض الأساس من الوجود الإنساني؛ وبتعبير آخر، إن الهدف من حياة الإنسان هو أن يصبح إنسانًا كاملاً، وهذا تمَّ بطلب العلم والمعرفة، و”كولن يضع هذا الأمر ضمن السياق الأكبر للعبودية لله. ويمكن أن نصوغه في سياق أكثر اتفاقًا مع فكر أرسطو، وهو أن غرض كل شيء ووظيفته هي أن يكون هو نفسه بكل كماله واكتماله، وكل شيء بطبيعته مزودًا بالقدرات والعناصر الداخلية التي تجعله هو نفسه بشكل كامل، إذا توافر الإطار الملائم، فالبشر يولدون ولديهم القدرة على أن يصبحوا بشرًا بكل معنى الكلمة. ويعتقد كولن -مثل أرسطو وسقراط وكونفوشيوس وكثيرين غيرهم- أن الآلية الفطرية لتحقيق الإنسانية بشكل كامل، تكمن في قدرتنا على التعلم”. وتستشهد المؤلفة بما قاله كولن في هذا الشأن: “بما أن الحياة الحقيقية بالنسبة للإنسان تكون قائمة بالعلم وبالعرفان؛ لذا فالذين يُهملون التعلم والتعليم يعدّون أمواتًا وإن كانوا على قيد الحياة. ذلك لأن الغاية من خلق الإنسان هي النظر والتأمل وتحصيل المعرفة ونقل ما تعلمه إلى الآخرين”.
وفي الفصل الخامس الذي خصصته المؤلفة للمسؤولية عند كولن وسارتر، تقول “إن كولن لا يرفض سارتر بسبب أفكاره عن المسؤولية، فهما في الحقيقة متّفقان إلى حد بعيد في هذا الموضوع، حتى وإن اختلفا في كل ما عداه تقريبًا؛ فكولن -كمسلم تنطلق أفكاره كلها من سياق إسلامي- يتحدث عن قضايا الخلافة والمسؤولية الإنسانية في هذا العالم بطريقة مشابهة لكل أقوال علماء الدين تقريبًا في الديانات الكبرى التي تنادي بالتوحيد عند التعامل مع تلك الموضوعات”. وتشير المؤلفة إلى أن كولن يناقش الخلافة الإنسانية بالتفصيل في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” بطريقة تبدو أكثر قوة وراديكالية مما في كتاباته الأخرى، حيث ينطلق مع مطلع الكتاب، في مناقشة التدبير الإلهي والإرادة الإنسانية الحرة، مؤكدًا في النهاية على التوازن الدقيق. وتبرز المؤلفة خطوط التشابه بين كولن وسارتر في موضوع الحركية التي يقول عنها كولن: “إن أهمّ شيء وأشدّ ضرورة في حياتنا هو الحركية، فمن الضروري أن نتحمل بعض المسؤوليات بحركية مستمرة وفكر مستمر. إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغماً عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء”.
تأتي أهمية هذا الكتاب من أن مؤلفته الأكاديمية الأمريكية درست جيدًا أفكار محمد فتح الله كولن، في ضوء الفلسفة الإنسانية، فاستوعبت فلسفته التي لها تأثير -سواء أكان مباشرًا أم غير مباشر- على الحياة الفكرية والثقافية -وربما الحياة السياسية أيضًا- في تركيا اليوم. وللأسف فإن هذا المفكر الفيلسوف التركي رائد الدعوة إلى الحوار بين الأديان، يعرف في الغرب أكثر مما يعرف في العالم العربي، بينما معرفته وفهم أفكاره والاطلاع على كتاباته، كل ذلك يشكل مدخلاً لفهم ما يجري في تركيا اليوم القوة الاقتصادية الصاعدة، والنموذج الديمقراطي المتميز في العالم الإسلامي.
مدارس الغد وجامعات المستقبل
في تركيا تجربة فريدة من نوعها، تتمثل في سلسلة المدارس التي فتحت بتشجيع من الأستاذ محمد فتح الله كولن، والتي تعد مهمة لنظام التعليم التركي من ناحيتين؛ الناحية الاجتماعية، وناحية النوعية الجيدة للتعليم. لقد نفثت هذه المدارس -كما يقول الباحث التركي محمد أنس أركنه- الحركة والحيوية في نظام التعليم في تركيا، وكانت -ولا تزال- عاملاً فاعلاً في زيادة الاهتمام بنظام التعليم، سواء في الأوساط المؤيدة لهذه المدارس أو المعارضة لها. وعندما تبيّن نجاح هذه المدارس -التي تبلغ اليوم المئات داخل تركيا وخارجها- في إعداد الطلاب للجامعات، وظهر نجاحُها الباهر في المباريات العلمية العالمية، وانعكست أخبار هذه النجاحات في وسائل الإعلام ووصلت إلى أسماع الرأي العام، توجّه العديد من الأوساط إلى ساحة التعليم، إلى درجة أنه لم يحدث مثل هذا الاهتمام المتزايد بالتعليم في تركيا في العهود السابقة، حتى لقد أصبح من المعتاد الآن وجود برامج خاصة للتعليم في وسائل الإعلام، وخصصت الجرائد صفحات لموضوع التعليم وأخباره، وزاد إقبال العديد من الأوساط على التعليم، بعد أن كانت لا تربطها به أي علاقة. ونما نتيجة لذلك كله قطاع التعليم وأصبح من القطاعات الخاصة المهمة.
وفي دراسة علمية منهجية متقنة مثيرة للانتباه، اطّلعتُ عليها أخيرًا، يبرز الباحث محمد أنس أركنه، أن هذا الاهتمام البالغ والمتزايد بالتعليم في تركيا، قد تم بواسطة المدارس التي شجّع على فتحها فتح الله كولن، وبفضل النجاحات التي حققتها. وانعكست هذه الحركة الاجتماعية على مستوى التعليم في تركيا، ورفعت من مستواها. وبينما عدّت بعضُ الأوساط هذه المدارسَ كنذر خطر على المستقبل، نظرت إليها أوساط أخرى بأنها نذر خير، وعدّتها أوساط أخرى نشاطات تستهدف الربح. وسواء أكانت الدوافع أيديولوجية أو سياسية أو ربحية، فقد زاد الإقبال اجتماعيًّا على إنشاء المدارس، ويعد هذا -طبعًا- تطورًا إيجابيًّا في البلد.
زرتُ إحدى هذه المدارس، خلال زيارتي الأخيرة لإسطنبول، حيث شاهدت على الطبيعة، صورة حيّة للتجربة التركية الرائدة في التأسيس لتعليم بالغ الجودة، يأخذ بأحدث المناهج التربوية والطرق التعليمية، ويقتبس من التجارب الناجحة الراقية في الدول المتقدمة في هذا المجال الحيوي. المدرسة التي زرتُها تحمل اسم “مدرسة الفاتح”، وهي مؤسسة تعليمية متكاملة، تضم جميع مراحل التعليم، من رياض الأطفال، إلى التعليم الثانوي في شعبته العلمية. وتدرس العلوم في هذه المدرسة باللغة الإنجليزية، ويختار التلاميذ المنتسبون إليها من خلال مباراة يشارك فيها الآلاف، من الصفوة الأولى المتقدمة في الدراسة، والتي أظهرت قدرات عالية في استيعاب المواد العلمية. ومما يذكر عن هذه المدرسة التي وجدتُها آية في النظام والنظافة وفي الفن المعماري الرائع وفي تكامل الأدوار، أن ثلث التلاميذ الأتراك الذين يشاركون في المسابقات “الأولمبيات” العلمية العالمية، هم من أبناء هذه المدرسة، إذ يشارك ثلاثون تلميذًا من مجموع المدارس في تركيا في هذه المسابقات، يكون من بينهم عشرة من مدرسة الفاتح، والباقي من مدارس أخرى تعتمد المنهج نفسه وتسير في هذا الاتجاه.
ولكن ما هو الجديد الذي تتميّز به هذه المدارس التي أصبحت ظاهرة تعليمية علمية ثقافية اجتماعية مثيرة للاهتمام؟ منذ سنوات، وأنا أحرص على الإجابة عن هذا السؤال. وقبل أيام قليلة فرغتُ من قراءة كتاب صدرت ترجمته العربية بقلم الأستاذ محمّد أنَس أَرْكَنَه وبترجمة الأستاذ أورخان محمد علي رحمه الله تحت عنوان “فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية” الصادر عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة، فخرجت بمعلومات وافية عن هذه التجربة غير المسبوقة. ووجدت المؤلف يقول: “لقد جلب فتح الله كولن مفهوم التضحية إلى نظام التعليم، لأن التعليم سياق طويل المدى وصعب، فهو يستلزم تضحية جدّية وتحمّلاً وصبرًا على الآلام والمشاكل. والتضحية كانت أهمّ عامل في نجاح هذه المدارس؛ فهناك الآلاف من الذين هرعوا إلى خدمة التعليم بكل شوق وبكل رغبة، وأدّوا هذه الخدمة ناذرين أنفسهم لخدمة الإنسانية، وراضين بالعيش بكل تقشف وزهد. كان مثل هذا الأمر قد غاب تمامًا عن نظام التعليم في تركيا من زمن بعيد”.
وهذا الكلام لا بد له من شرح بالنسبة للقارئ غير التركي. ولذلك أتابع النقل عن المؤلف الذي يشرح أبعاد الفلسفة من وراء هذه المدارس، فيقول: “لقد كان من الصعب جذب المربّين والمعلمين إلى المناطق الفقيرة. ومع أنه تم وضع نظام مضاعفة الرواتب في بعض هذه المناطق الفقيرة، إلا أنه لم ينفع كثيرًا، وبقي ميل هؤلاء ورغبتهم في البقاء في جو المدنية في المدن الكبيرة. ولكن هذه الصعوبة لم تكن موجودة في هذه المدارس، بل تم إرسال المربّين والمعلمين إلى أرجاء الدنيا، وإلى مناطق بدائية محرومة من العديد من الحاجات العصرية، بل أُرسلوا حتى إلى مناطق تحتدم فيها المعارك، وإلى مناطق خطيرة لا يتوفر فيها عنصر الأمان.. ومع كل هذه المخاطر فقد هرع المربّون إلى هذه المناطق متوكلين على الله ومسلّمين أمورهم ومستقبلهم له. كأن هؤلاء الذين توكلوا هذا التوكل يبرهنون عمليًّا على مدى حاجة نظام التعليم إلى التضحية والفداء”.
ويستمر الأستاذ أنس قائلا: “ولا شك أن صانع هذه التضحية ونذرِ النفس لخدمة الإنسانية، هو فتح الله كولن. ولكن ما الذي جعل هذا الرجل -الذي سبق أن وصفتُه في مقال سابق بـ”الرجل الظاهرة”-وهو عالِم دين وخرّيج مدرسة دينية تقليدية، مدفوعًا إلى ولوج ساحة صعبة ومتعبة، وذات نفَس طويل مثل ساحة التعليم؟! ما الذي دعا شخصًا حساسًا مثله يتعرض يوميًّا لأزمات قلبية وأزمات مرض السكر، إلى ولوج هذا الطريق الطويل المتعب؟!”، هكذا يتساءل المؤلف، ثم يستطرد: “هناك من يسرد هذه الأسئلة بغيظ فيقول: ماذا يعمل شخص متديّن في ساحة التعليم؟ فإن كانت مهنته هي الوعظ، فلْيعمل في ساحة الوعظ. ولماذا يقوم شخص مختصّ في العلوم الإسلامية بالولوج إلى ساحة التعليم والتربية وهي ساحة علمانية؟ كانت هذه الأسئلة المطروحة حول شخصيته وحول مشروعه في التعليم والتربية، متداولة كثيرًا طوال أعوام التسْعِينات في القرن الماضي من قِبل وسائل الإعلام التركية، ومن قِبل أناس عديدين ينتسبون إلى قطاعات مختلفة. وهي أسئلة أجاب عليها الأستاذ فتح الله في العديد من اللقاءات الصحَفية التي أُجريتْ معه”.
قام فتح الله كولن طوال سنوات عديدة سواء في مواعظه أم في مجالسه أم في مقالاته العديدة التي نشرها بالتطرق بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى مشاكل التعليم. ويكاد يكون هو الشخص الوحيد -كما يقول المؤلف- الذي تناول في تركيا هذا الموضوع تناولاً حرَكيًّا وأوصله إلى الجماهير الواسعة. فلا نعرف أحدًا آخر قام بشرح أهمية التعليم حتى في مواعظه للجماهير الذين كانوا يحضرون للجامع لسماع مواعظه وهم من عامة الناس ومن الكسبة وأصحاب الحرف. لأن موضوع التعليم كان منحصرًا في التاريخ القريب، في أوساط المثقفين والمفكرين والساسة، ولم يكن في استطاعة جماهير الناس الاشتراك في النقاشات الدائرة حوله، لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر، لأن الاقتناع السائد كان أن نظام التعليم موضوع مهم جدًّا وخاص جدًّا إلى درجة لا يمكن معها السماح لجماهير الشعب لبيان الرأي حوله. ولم يدُر بخلدهم أبدًا أن من الممكن أن يقوم عامة الناس بالتبرّع من أموالهم للتعليم دون انتظار أي مقابل. وبتعبير آخر: لم تكن الجماهير الواسعة تشغل أي مكان في المشاريع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهؤلاء المثقّفين والساسة، فهم كانوا ينظرون إلى المجتمع بأنه عبارة عن جماهير جاهلة لا دور لها سوى تطبيق الأوامر الآتية لهم من فوق. وما قام به فتح الله كولن -كما هو واضح- هو هدْم هذه النظرة، لأن هذه النظرة هي التي جعلت التعليم والسياسة والدولة غريبة عن الشعب التركي وأنشأت كادرًا نخبويًّا، وولّدت هذه النظرة. ولكن فتح الله كولن كان يرى أن الشعب التركي الذي قاد معركة الاستقلال في جوّ من الفقر والحرمان، قادر على الاشتراك في حل أهمّ مشاكل البلد، وأنه يستطيع الاستعانة به في هذا الموضوع. لذا كانت محاولته هذه فريدة في بابها لا نجد لها مثيلاًً في تاريخنا القريب.
يقول المؤلف في تحليل عميق لأبعاد هذه التجربة، “إن فتح الله كولن يرى أن مشكلة التعليم والتربية ليست موجودة في تركيا فقط، بل هي موجودة -وبشكل حاد وجذري- في المدَنية المعاصرة. وبلغ من اهتمامه بضرورة التعليم والتربية، حتى كاد أن يجعلها من أسس الإيمان. لأن من أهم أسباب القلَق والضياع في المجتمعات الغربية -في رأيه الذي عبّر عنه في مؤلفاته وأحاديثه الصحافية- تمزق وحدة العقل والقلب في الفكر العلمي وفي النظام التعليمي. وما لم تحقق الوحدة في النظام التعليمي والتربوي، وتؤسس العلاقة الفطرية والطبيعية بين الإنسان والكون والله -كما يرى فتح الله كولن- فلا يوجد أي أمل ولا أي فرصة للخروج من هذا القلق والضياع.
ويرى هذا المفكر المجدّد الذي يكاد يكون غير معروف على نطاق واسع في العالم العربي للأسف، “أنه منذ عدة عصور أبعدت الفلسفة الوضعية نظام التفكير الحديث ونظم التعليم والتربية، وجميع العلاقات الإنسانية والاجتماعية والفكرية، عن جميع المقدسات، وأبعدتها عن الدين. ونتجت عن هذا جميع مظاهر الأزمات الأخلاقية والعمومية التي تعاني منها المجتمعات الحالية. لذا فإن من الأمور الجديدة التي قدّمها فتح الله كولن في موضوع نظام التعليم والتربية، هي هذه النظرة الشاملة للعلاقة بين الإنسان والكون والله. أي السعي من أجل وحدة العقل والقلب”.
ومع انطلاق هذه المدارس من هذا المنطلق، استطاعت تجاوز هذه الفلسفة الوضعية التي تعد من أهم مشاكل نظام التعليم والتربية. ومع أن هذه المدارس دون شك لا تركز على العلوم الدينية، لكنها تضع وحدة القلب والعقل في مركز وفي وسط نظامها التعليمي ومنظومتها العلمية والفكرية. وبتعبير آخر: فهي تسعى إلى أنموذج إنسان ومجتمع يحترم تاريخه وتقاليده وجذوره الإيمانية وهويته الاجتماعية، مع فكر علمي حديث، ومنفتح على كل جديد، يثق بنفسه وبمستقبله”. لذا لم تكن هذه المدارس بأطرها النشطة الموفقة والمعاصرة ناجحة في تركيا فقط بل في كل بلد عملت فيه. وهي بلدان كثيرة تكاد تغطي قارات العالم.
لقد رأيت هذا الحلم الجميل وقد تحقق في “جامعة الفاتح”، إحدى كبريات الجامعات التركية التي ينتمي طلاّبها إلى أربع وسبعين جنسية. وهي من الجامعات الراقية، تقع في موقع جميل وسط الحدائق الغناء، وتضم طلاب النخبة في مختلف التخصصات. هذه الجامعة هي مصنع للعقول المفكرة المنتجة ومحضن للإبداع والتجديد في حقول العلم والمعرفة. تناولتُ غدائي في المطعم الجامعي وسط الطلاب وموظفي الإدارة. وكان معنا مدير العلاقات العامة. وكانت ترافقني زوجتي وهي من أسرة التعليم. وانتابني شعور بالفخر والاعتزاز لوجودي في جامعة الصفوة التي توازي الجامعات العالمية الراقية، ووسط الطلاب من جنسيات عديدة.
إن الرؤية المستقبلية للأستاذ فتح الله كولن إلى مدارس الغد وجامعات المستقبل، تتجسد في جامعة الفاتح وأخواتها من الجامعات الأخرى، كما تتمثل في مدارس الفاتح، وفي المئات من المدارس التي تمتدّ عبر مناطق العالم. حقًّا إنها تجربة فريدة مثيرة للاهتمام ذات أفق مستقبلي، تستحق الدراسة والتأمل من لدن صنّاع القرار السياسي التعليمي في العالم الإسلامي.
نفحات قرآنية من نسمات تركية
مؤلف الكتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي جعلته أول ما أقرأ من كتب في هذا الشهر الكريم، مفكر وفيلسوف من تركيا، هو الأستاذ محمد فتح الله كولن، وفّقه الله توفيقًا ملموسًا، في تطبيقه في الواقع المعيش، على نحوٍ بالغ الإبهار يستحق كل تقدير.
كان أول عهدي بالقراءة لكتابات الأستاذ محمد فتح الله كولن، قبل سنتين؛ حيث بدأتُ أقرأ مقالاته الافتتاحية التي ينشرها في مجلة “حراء” الراقية التي هي أول مجلة تصدر باللغة العربية في تركيا. ثم قادتني قراءتي لمقالات “حراء” إلى كتاب “النور الخالد: محمد r مفخرة الإنسانية” الذي صدرت طبعته العربية في مجلد ضخم من 757 صفحة ترجمه من التركية إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي. قرأتُه بتأثّر شديد وانجذاب طاغ، فإذا بي أمام كتاب في السيرة النبوية ليس كالكتب التي قرأتُها في هذا الموضوع، سواء منها كتب التراث الإسلامي، أو الكتب التي أصدرها المؤلفون المحدثون من نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. وجدته نمطًا فريدًا في فهم السيرة النبوية، والتعمق في وقائعها وأحداثها، وفي تحليل موضوعاتها ودروسها، وتقديمها إلى القارئ في أسلوب مقنع مبهج ينفد إلى القلب والعقل بتلقائية.
ينهج الأستاذ محمد فتح الله كولن في كتابه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي ترجمه من التركية إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي، وقدم له الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ نهجًا جديدًا غير معهود في الكتابات الإسلامية. فهو كما قال الدكتور سعاد يلدرم في تقديمه له: “فهم خاص للقرآن الكريم”. فالكتاب حول تفسير القرآن، فهو يتناول بعض الآيات -حسب تسلسلها في المصحف- ويشير إلى الدقائق الموجودة فيها. ويتبين من النظرة الأولى أن المؤلف ملمّ إلمامًا جيّدًا بالتفاسير القديمة والتقليدية، ولكنه يفتح مجالات أخرى، و”يقدح شرارات ويومض ومضات تفسيرية دون المساس بأي مقياس من مقاييس علم التفسير أو الإخلال به”، حسب تعبير الدكتور سعاد يلدرم. وهذه الشرارات والومضات هي التي أسمّيها “فتوحات إلهية” حَبَا الله بها هذا المؤلف الذي أشهد صادقًا أنه طراز فريد ونسيج وحده بين جمهرة المؤلفين في مثل هذه الموضوعات الإسلامية، على كثرتهم وتعدّد مدارسهم وتنوّع مشاربهم.
يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن في المقدمة التي كتبها لكتابه هذا: “القرآن هو الضوء اللامع للكلمات والحروف في عالم الأزل والأبد. هو صوت الملكوت الذي يخاطب فكر الإنس والجن. وعندما يتحول إلى لؤلؤة خارقة الجمال داخل صدفة لامعة، يرى فيه أبطال البلاغة والأدب جمالاً لا يبهت وحسنًا لا يزول”. ويبدو لنا منهج المؤلف ونَفَسُه الإيمانيُّ المشرق، في تفسيره قوله تعالى: •فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ # وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح:7-8) على هذا النحو: “تقدم هذه الآية الكريمة للمسلم فلسفة حركية مهمة ودستورًا للحياة. أجل يجب أن يكون المؤمن في حركة دائبة في كل حين؛ في حركة عندما يعمل، وفي حركة عندما يرتاح. وبعبارة أخرى عليه أن ينظّم نفسه وفق خطة لا يوجد فيها أي فراغ في حياته. صحيح إنه كإنسان يحتاج إلى الراحة، لذا من الطبيعي أن يرتاح، ولكن يجب أن تكون هذه الراحة راحة نشيطة وإيجابية؛ فمثلاً من يتعب من القراءة والكتابة يستطيع أن يرتاح بالنوم أو بتغيير وتبديل الجو كأن يقرأ القرآن أو يصلي أو يلعب الرياضة أو يتسامر أو يمزح مع الآخرين المزاح المقبول شرعًا…إلخ. وعندما يتعب من هذا يرجع مرة أخرى إلى القراءة، أي يكون في حركة مستمرة ودائبة، يترك مشغلة من المشاغل لمشغلة أخرى. أي يستريح وهو يعمل، ويعمل وهو يستريح”.
ويقول في تفسير مطلع سورة البقرة: “إن كلمة •هُدًى الواردة في الآية الكريمة •ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(البقرة:2) هي بصيغة المصدر، وتحمل معنى أن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى الهداية وإلى الهدف المنشود وراءها دون جهده الخاص. وبتعبير آخر فإننا إذا أخذنا التنوين أيضًا بنظر الاعتبار، نعلم بأن هذا الكتاب -الذي لا توجد فيه ذرة واحدة من الشكّ والريبة- هو مصدر الهداية للمتّقين.. لـ”المتّقين” فقط؛ لأن نفوسهم خلتْ من الشبه والريب، وتوجّهت قلوبهم وأرواحهم لتقبل الحق ورعاية سنن الفطرة الإلهية وشريعته الغراء، وصفتْ نفوسهم واستعدت لقبول الهداية والاستفادة منها دون أن يمنعهم عن ذلك فكر أو حكم مسبق”. ثم يضيف المؤلف فيقول: “ولكن كلمة •هُدًى الموجودة في آخر الآية •أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ(البقرة:5) مذكورة بصيغة المصدر، أي أن الله تعالى قد يتكرم على عباده بالهداية دون وجود علاقة السبب والنتيجة التي خلقها الله وجعلها من أسباب الهداية. وباب التقوى هو الباب الذي يوصل وينفتح على هذا الكرم والعطاء. والمرتبة الأولى لمثل هذه التقوى هو الإيمان والمعرفة الحقة، والمرتبة الثانية هي الوصول إلى مرضاة الله تعالى”.
وعند تفسيره للآية الخامسة والثلاثين من سورة النور •اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(النور:35)، يفيض المؤلف في بيان أخّاذ، في شرح البعد الإيماني في هذه الآية الكريمة وتبيان المعاني الدقيقة التي تنطوي عليها، فيقول: “الله تعالى هو الذي أظهر الوجود للعيان، وأخرج الكون بوجهه الحالي إلى الوجود وجعله معرضًا أمام البصائر وكتابًا يقرأ، وهو الذي أعطى النور للأبصار والانشراح للقلوب. بدون نوره لا تبصر العيون، ولا تدرك البصائر، وتختلط الأوهام بالعلوم والفرضيات بالحقائق، وينقلب الوجود كله إلى فوضى لا معنى لها، فلا تحصل هناك فلسفة علوم في الأدمغة، ولا ضياء معرفة في الصدور، ولا يمكن التوصل من نقطة اللقاء بين الآفاق والأنفس من العلم إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى الإحساس العميق بالعبودية، إلاَّ بالله تعالى نور السماوات والأرض، ونور مَن في السماء والأرض، منوّر الأنوار Y”.
ويواصل المؤلف شرح هذه الآية الكريمة واستخلاص قانون الحياة منها، فيقول: “بهذا النور يتحقق وجود الشمس أو الشموس في السماء، والألوان وصور الجمال على الأرض، وتنمو البصيرة والإدراك في القلوب، والمعرفة والمحبة والعشق والشوق، والتفكير والتحليل والمنطق في العقل وفي الدماغ. والذين يهتدون إلى الحقيقة عن طريق الاستدلال يهتدون بفضل هذا النور”.
ويقف المؤلف عند الآية الثالثة والخمسين من سورة فصلت •سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(فصلت:53)، فيشير إلى أن الآية تذكر أولاً بأن الآيات الدالة على صدق هذا القرآن وكونه حقًّا لا مراء فيه، ستظهر الواحدة بعد الأخرى في الآفاق وفي الأنفس، وأن التناغم الموجود بين الآفاق والأنفس يشير إلى الله تعالى ويعلن عنه، وتبشّر المؤمنين الذين كانوا آنذاك في ضيق شديد، بأن قلوب أهل مكة ومن في خارجها ستنفتح، وسينتشر نور الإسلام في الشرق وفي الغرب، وأن الروح المحمّدي سيفرش جناحه على العالم، وتوميء إلى أن الجو خارج مكة سيكون أفضل وأكثر ملاءمة لهم”.
ويضيف مستخلصًا الدرس والعبرة والمغزى من هذه الآية، فيقول: “إن أسلوب هذه الآية يفتح أمامنا أفق تفكير واسع جدًّا، ويهيّئ لنا إمكانية رصد الحقائق. وكما هو معلوم فإن الأدلة المقدمة لإثبات الحقيقة تنقسم إلى مجموعتين: الأدلة الآفاقيةالمستقاة من الكون وما يتعلق به من حوادث، أي الأدلة من خارج النفس؛ ثم الأدلة المتعلقة بالعالم الداخلي للإنسان من فكر وحس وحدس، والتقييم الشخصي لها”.
وينبغي أن نتذكر دائمًا أن المؤلف يكتب باللغة التركية، ولكنه يقرأ بالعربية ويتبحّر في التراث العربي الإسلامي. وهذا الفيض من إشراقاته وإشاراته وومضاته، هو من أثر الفهم المستنير المتعمق للقرآن الكريم والحياة الطويلة في ظلاله الوارفة. وقد صدرت للمؤلف خلال الفترة الأخيرة، مجموعة من المؤلفات في ترجمتها العربية عن دار النيل في القاهرة، تحت يدي منها الجزء الأول من كتاب “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح” بترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي الذي ترجم “كليات رسائل النور” لسعيد النورسي في عشرة مجلدات كبيرة، و”طرق الإرشاد في الفكر والحياة”، و”حقيقة الخلق ونظرية التطور”، و”ترانيم روح وأشجان قلب”.
حقًّا إنها نفحات قرآنية منعشة للروح من نسمات تركية مبهجة للوجدان مغذية للفكر.
قراءة إيمانية جديدة للقرآن الكريم
لا أعرف أحدًا -حسب علمي- من غير العلماء العرب، صدر له تفسير للقرآن الكريم في هذا العصر، سوى أبو الأعلى المودودي من باكستان، ومحمد حسين الطباطبائي من إيران، وسعيد النورسي من تركيا. هؤلاء الثلاثة هم مفسرو القرآن الكريم في القرن العشرين، من غير المفسرين العرب. مع الملاحظة أن الأول كتب تفسيره باللغة الأوردية وكان ينشره في مجلته “ترجمان القرآن”، والثاني كتبه باللغة العربية ثم ترجمه إلى الفارسية والإنجليزية وعنوانه “الميزان في تفسير القرآن”، والثالث كتبه باللغة العربية ثم ترجم إلى اللغة التركية وعنوانه “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز”، وتُرجم أيضًا إلى لغات أخرى. أما تفسير أبو الأعلى المودودي فلا أعلم أنه ترجم إلى اللغة العربية.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن المفسرَين الأول والثاني قد كتبا تفسيرًا جامعًا للقرآن الكريم، بينما كتب المفسر الثالث (سعيد النورسي) تفسيرًا موجزًا في غاية الإيجاز، ولكنه دقيق وعميق وبليغ.
هذا في عصرنا الحاضر.. أما في الماضي، فإن جلّ المفسرين لكتاب الله كانوا من غير العرب، الطبري والبيضاوي والقشيري والزمخشري والرازي، وغيرهم.
لكن هناك مفسرًا ثانيًا من تركيا، صدر له تفسير لآيات بينات من القرآن الكريم، في كتاب صدر باللغة التركية، ثم ترجم إلى اللغة العربية، وهو كتاب “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” لمؤلفه الأستاذ محمد فتح الله كولن. ويتميّز هذا المفكر بمنهجه في التأمل في كتاب الله وفي التحليل وفي الرؤية الثاقبة إلى الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا كان الأستاذ محمد فتح الله كولن لم يكتب تفسيرًا بالمعنى العام، فإنه نظر في آيات من القرآن الكريم نظرات عميقة، فاستخرج منها معانيَ جديدة لم يسبق إليها، وانتهى إلى خلاصةٍ مبتكرة فيها عمقُ الفكر وشفافية النظر ورقّة الوجدان ونفاذ البصيرة، بحيث يمكن القول إنه قرأ القرآن الكريم قراءة إيمانية جديدة هي غير القراءة الجديدة التي يقول بها رهطٌ من المفكرين الذين هم أبعد ما يكونون عن روح القرآن.
يفسر الأستاذ محمد فتح الله كولن الآية السابعة والسبعين من سورة القصص •وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(القصص:77)، فيقول: “فُهمت هذه الآية الكريمة من قِبل الكثيرين على أنها تشير إلى طلب الدنيا على الدوام. ولكن من يعرف شيئًا قليلاً من اللغة العربية، يعرف خطأ هذا الرأي. فمن يدقّق في سياق الآية وبدايتها يَرَ المعنى الآتي: تقول الآية •وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل •وَابْتَغِ هنا يعني شيئًا أكثر من (وَاطْلُبْ)، لأنه يعني: اطْلُب واسْتَعمل ما أتاك الله من قلْب وحسّ وشعور وإدراك وصحّة ومال وولد… إلخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية •وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا لموازنة المسألة. أجل علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء. إذن فتناولُ الشق الثاني فقط من الآية وتوجيهُ الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط، خطأ فاحش”.
ويمضي في استخراج معنى آخر من هذه الآية الكريمة، فيقول: “ويمكن النظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى: اطلبوا الدنيا حسب قيمتها، واطلبوا الآخرة حسب قيمتها. يمكن أن يكون هذا قاعدة من القواعد. إذن فالقرآن يعطي الإنسان بهذه الآية مقياسًا، ويطلب منه استعماله؛ ويجب أن نفهم الآية بهذا المعنى، لأن الدنيا حسب القلوب المطمئنّة كيَوم عرفات، والأيام الماضية للدنيا بالنسبة للعيد كيَوم عرفات. أما العيد الحقيقي فوراء الأفق، بل وراء وراء الأفق. لذا يجب المحافظة على هذا التوازن وصيانته، وعيشُ يوم عرفة حق عيشه. ومن يفقد يوم عرفة في الحج يستطيع إدراكه بعد عام واحد، ولكن من يفقد يوم عرفة الآخرة -عندما نشبّه هذا اليوم بالحياة الدنيا- وفاتَه ذلك اليوم، فلن يستطيع إدراكه مرة أخرى”.
وعندما يتأمل المؤلف في الآية العاشرة من سورة الحشر •رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا(الحشر:10)، يفيض قائلاً: “يجب أولاً أن نعلم جيّدًا بأن الدار الآخرة والجنة هما المكانان الأصليان اللذان يطرح فيها الغل والشر من القلوب. ولو أخرجت هذه المشاعر -التي هي من أسس الامتحان- من القلوب في الدنيا، لانْقلب الإنسان فطرة إلى ملَك من الملائكة. بينما خلق الله الإنسان في هذه الدنيا بماهية قابلة للخير وللشرّ أيضًا. ولو فرضنا المستحيل وأخرجت هذه المشاعر من قلب الإنسان في الدنيا، لنبتت هذه المشاعر في القلب مرة أخرى في يوم من الأيام كما ينبت الشَّعر أو الأظافر من جديد، لأنها لصيقة بفطرة الإنسان. لهذا السبب فبدلاً من صيغة الدعاء “نَزَع”، ورَدَ التوجّه لله تعالى الفاعل الحقيقي بصيغة •وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا. إذن، فالواجب الملقى على عاتق الإنسان هنا هو التوجه بالدعاء القولي والفعلي لله تعالى ومحاولة التخلص من هذه المشاعر التي تعد مثل الأشواك المعنوية المستقرة في القلب. وبهذه الوسيلة يستطيع التطهر من المشاعر السيئة ويكون أهلاً للجنّة ويقبله الله تعالى في رضوانه”.
ثم يستطرد بعد هذه الإشراقات المضيئة، في بيان الدروس المستخلصة من هذه الآية الكريمة، فيقول: “وكأن هناك رسالة موجهة إلينا في هذه الآية الكريمة تطلب منا أن نعيد نظرتنا بالنسبة للسلف الصالح، أي قبول التابعين للصحابة، وقبول تابع التابعين للتابعين. أي تدعونا للتصرف باحترام تجاه أرباب القلم وأرباب الكلام من رجال الحركة والفكر الذين تركوا في حياتنا الدينية وفي مشاعرنا وأفكارنا وعقيدتنا -بل حتى في التفسير وعلم الكلام والفقه- أثرًا لا يمحى وميراثًا كبيرًا لنا”.
ويفضي هذا الاستنتاج بالكاتب إلى الوقوف وقفة متأنية عند الآية العاشرة من سورة الحجرات •إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(الحجرات:10)، والآية الواحدة والسبعين من سورة التوبة •وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ(التوبة:71)، فيقول: “إن الذين توجد بينهم رابطة الإيمان ورابطة الإسلام عليهم أن يتحابّوا ويحترموا أسلافهم، بل ويغضّوا النظر عن بعض تقصيراتهم المحتمَلة، وأن يدعوا بالخير لمن سبقوهم، وألا يحملوا -على الإطلاق- أي حقْد أو غلّ أو عِداء تجاههم. والذين يدّعون انتسابهم إلى الرسول r عليهم ألا يفكروا وألا يتكلموا إلا بخير وألا يتصرفوا إلا بخير، تحقيقًا للآية الكريمة •وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(المائدة:2)”.
هذا التوجيه الروحي الشفاف هو الطابع المميز لكتابات الأستاذ محمد فتح الله كولن، وهو البذرة الطيبة التي زرعها فيه أستاذه بديع الزمان سعيد النورسي، وهو المنهج الذي يسير عليه المؤلف في خدمة الإيمان والقرآن، بالأسلوب الحكيم الذي لا أبالغ إذا قلتُ إنه أسلوب فريد من نوعه في العالم الإسلامي.
ومن هنا يأتي نجاح خدّام رسائل النور في تركيا وفي غيرها من بلدان العالم.
تأملات وجدانية في آيات قرآنية
إذا كانت قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان من فضائل الأعمال وعظائم الطاعات، فإن التدبّر في كتاب الله والتأمل في آياته والتماس الدروس والعبر والعظات من أولئك الذين أكرمهم الله بأن أتاهم حظًّا من العلم الذي ينفذون به إلى أعماق المعاني القرآنية، من الواجبات التي يحرص المؤمن على القيام بها في هذا الشهر الفضيل.
وأواصل في هذا المقال، القراءة في كتاب الأستاذ محمد فتح الله كُولَن “أضواء قرآنية في سماء الوجدان” الذي كتبه باللغة التركية وترجمه الأستاذ أورخان محمد علي إلى اللغة العربية، وصدر عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة.. لنعيش في أجوائه مع تأملاته الإيمانية في آيات قرآنية، حيث نجده يؤكّد “أن الدين هو روح الحياة، وأن إعلاء كلمة الله أقدس الوظائف، وأن صرْف الحياة وإفناءَها في هذا السبيل، هو السبيل لطرق باب الحياة الأبدية والوجود الأبدي، وبمقياس وضع رضا الله تعالى كغاية من الغايات، ستهب في المقابل عنايته ورعايته وحمايته، وأن هذه العناية والرعاية معروضتان في كل زمان ومكان وبنسبة مقاربة للعناية المذكورة للصحابة y، كلما توفّرت شروط هذه العناية وظروفها وأسبابها، وأن مَن كان مِن المؤمنين في مثل هذا المستوى من الإيمان والتسليم والتوكل، يستطيع التصدّي حتى لنيران نَمْرُود بصدر مفتوح وبقلب مطمئنّ، بل ربما قلَب تلك النيران بردًا وسلامًا”. جاء ذلك في معرض تفسيره التأملي العميق للآية الرابعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران •ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(آل عمران:154).
بهذه الروح المشبعة بالإيمان المشعة بأنواره، يبرز المؤلف في كتابه هذا، تأثير هذه الآية الكريمة في نفوس المؤمنين، فيقول: “كان طلاب النور عندما يتعرّضون لأيّ أذى أو ظلم وتعسف، يذكّرهم الأستاذ بديع الزمان -سعيد النورسي العارف بالله المصلح المفكر المربي- بضرورة تكرار هذه الآية وتفسيرها. وكشخص مثلي استفاد من درس الأستاذ النورسي، لنقرأ هذه الآية مرّة أخرى ولنأخذ منها الدرس الواجب أخذه”.
ويواصل تأملاته في الآية السالفة الذكر متعمقًا في معانيها، فيقول: “وفي مقابل الحياة الهادئة المطمئنة لهؤلاء، هناك زمرة تشارك هؤلاء الظروف نفسَها، غير أنها لا تتنفّس الأجواء نفسَها. لذا نراها منكبّة على متطلبات أهواء أنفسها، فتنعكس الشبهات الموجودة في مشاعرهم وأفكارهم لترسم لهم سبل حياة مليئة بالتناقضات المخجلة. لذا لا يرى هؤلاء وجه الراحة والاطمئنان أبدًا، بل سيعيشون حالة تذبذب، تكون رؤوسهم مملوءة بالأفكار الجاهلية، وحتى لو آمن هؤلاء، فإن أفكارهم حول الاطمئنان إلى الله تعالى ستكون مشوبة بسوء الظن، والآية الكريمة •وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ توضّح حالية اليأس العكرة في مشاعر هؤلاء وما يعانونه من تردد وإحباط”.
وحين يفسر الآية التسعين بعد المائة من سورة آل عمران أيضًا •إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(آل عمران:190)، يفيض المؤلف في التعبير عن الواقع الذي يعيشه المؤمنون في هذا العصر، فيقول: “يعد مثل هذا التأمل الشامل من أهمّ نواقصنا… أجل! تأمل يجدد إيماننا ويحفظه حيًّا على الدّوام. فكما ينتفض الجسم إن صببتَ عليه قطرة ماء باردة لم يألفها، كذلك علينا العثور في مرصاد الفكر والتأمل، على ما يجعل إيماننا ينتفض، ويجعلنا نشاهد تجلّيات أسماء وصفات المالك الحقيقي I للأشياء وصاحبها والمؤثر الحقيقي فيها، وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل هذه”.
ويستطرد المؤلف قائلاً: “ولكن الشعور والسماع والفهم وتقييم الروح والمعنى والصوت والنفس واللون والزينة واللغة والشوق الذي يسري جميعها في السماوات والأرض وما بينهما، لا يكون متيسرًا للجميع، تبدو هناك الحاجة إلى من يستطيع إدراك هذا الغنى وسبر غوره في الألوان وهذا التناغم في الأصوات والموسيقى، ثم تقييمه من قِبل فئة المثقفين من •لأُولِي الأَلْبَابِ الذين لم تفسد عقولهم بالأخطاء والانحرافات، ولم تفسد لديهم المعايير والمقاييس بالأهواء النفسية.. نحتاج إلى •لأُولِي الأَلْبَابِالذين يستطيعون سبر غور السماوات والأرض بجميع صفاتها التي يذكرنا بها مفهوم المكان، وما يتطلبه خلق ما فيها من الأشياء والكائنات من توجه الإرادة والاختيار من جميع نواحيها انطلاقًا من مبدإ تناسب العلية للوصول عن طريق المنطق والتحليل والتركيب إلى المسبب الكامل وإلى صاحب القدرة الكاملة Y”.
ويبيّن الأستاذ محمد فتح الله كولن الأسباب التي تجعل فئة من الناس لا تدرك عمق هذه المعاني الإيمانية، فيقول: “لقد خلق روح كل إنسان وعقله بحيث يستطيع فهم هذا وإدراكه فطريًّا، ولكن العوائق من أمثال الكبرياء وتجاوز الحدّ والخطأ في زاوية النظر، تمنع رؤية الهدف بكل وضوح. وحتى لو بلغ الإنسان ذروة العلم، فلن يستطيع الخلاص من القرارات الخاطئة ما لم يستطع الخلاص من هذه العوائق”.
لقد وقفتُ طويلاً أمام قول المؤلف: “… وأن نقضي الأيام الباقية من حياتنا في دائرة رضا الله تعالى وفي ضوء هذا النور المتولد من عملية التفكير والتأمل”. وأحسب أن الأستاذ محمد فتح الله كولن يدعونا جميعًا إلى وقْفة تأمل للذات ومراجعة للنفس للارتقاء بها إلى مستوى رضا الله تعالى والعيش في كنف رحمته التي وسعت كل شيء. وهي دعوة نحتاج إليها في هذا الوقت، وفي كل وقت، كما نحتاج إلى •لأُولِي الأَلْبَابِ الذين يملكون البوصلة للاهتداء بها إلى سبل السلام، والذين يأخذون بأيدي الناس ليسلكوا بهم طريق الحق والخير والفضيلة والأمان والسلام. ولستُ أشكّ في أن المؤلف وأستاذه الكبير سعيد النورسي، من هذه الطائفة التي أكرمها الله تعالى بخصال فريدة سامية وسجايا حميدة راقية نحن أحوج ما نكون إليها.
ويشرح المؤلف الآية الحادية والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة •وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(البقرة:251) شرحًا عميقًا يلفت النظر ويشرح له الصدر، فيقول: “يوجّه الله تعالى أنظارنا في هذه الآية الكريمة -علاوة على أمور عدة- حول وجود ميزان وتوازن ومقياس في عالم الإنسان كوجوده في عالم الطبيعة والبيئة. فكل شيء قد وضع له نظام ومقياس معين وقواعد معينة. لذا ومن أجل تأمين مثل هذا التوازن لحساب الإنسانية ومن أجلها، يهْدينا الله تعالى إلى سواء السبيل ويخلق في جوانحنا الميل نحو الكفاح في هذا السبيل. ذلك لأن هذه النتيجة يجب أن تتحقق بيَد الإنسان في دائرة الأسباب، وإلاَّ أصبحت الدنيا مكانًا لا يطاق فيه العيش مثلما ذكرت الآية الكريمة”.
وبعد أن يشرح معاني الفساد في الآية الكريمة ويبيّن أسبابه، يتحدث عن ضرورة مواجهة الفساد بهذا المنهج الحكيم الذي أرى أنه يشكل في حد ذاته برنامجًا لمحاربة الإفساد بكل صنوفه وللتمكين للإصلاح بكل مدلولاته، فيقول: “لذا كان من واجب أهل العقل والإيمان والعرفان القيامُ بإنقاذ العالم إن كان الفساد قد استشرى فيه، فإن لم يكن العالم قد فسد، بذل الجهد من أجل استمرار الصلاح إن كان هناك أي احتمال لحدوث الفساد ومجيئه، والقيام بالسيطرة على أنصار الشغب والفوضى والفساد وعدم إفساح المجال للمزيد من الفساد. ولا يكون هذا إلا بفتح دور العلم والتربية والتثقيف، وفتح مراكز الإرشاد والتوعية، وتكوين المؤسسات الضرورية في هذا المجال، ووضع البدائل العديدة في هذا الصدد، وسدّ كل منافذ وثغرات الفتنة والفساد، وعدم السماح بفتح أي باب محتمل للفتنة، ولينزل فضل الله تعالى وكرمه على من يستطيع تنفيذ هذا. إن النجاح في تنفيذ هذا وتطبيقه سيكون وِسام فخر ووسام فضيلة لا يقدر بثمن على صدور القائمين به”.
ومن خلال رؤية شمولية ونظر سديد إلى الواقع الإنساني، يضع المؤلف الآية الكريمة في الإطار الذي يشمل مجمل العلاقات الإنسانية في هذه المرحلة من التاريخ، فيقول: “أجل! إن لم يتم تطويع بعض المشاعر المركوزة في طبيعة الإنسان -لغايات وحكم معينة- وترويضها بوساطة المبادئ الدينية وقيمها، فإن الإنسان لن يكون بعيدًا عن التخريب وعن الظلم والاعتداء. فإن لم يكن هناك أناس قد طوّروا مشاعرهم الإنسانية بالإيمان والإسلام وأصبحوا جنودًا للحق وللنظام ناشرين الأمن والطمأنينة، كانت الدنيا عالمًا للمتجاوزين حدودهم والمعتدين، وساد الظلم والذلة فيها. أما من ناحية العلاقات والتوازنات الدولية، فإن الأمن والثقة بين الدول وبين المجتمعات تكون مفقودة، وتصبح الأمور في يد الدول الغالبة والمفسدة”. ويصف المؤلف هذه النتيجة التي ينتهي إليها العالم بأنها “هزيمة للإنسانية وتقلبها في أحضان الفساد والفوضى”، ويقول: “إن في مثل هذا الجو لا يمكن الحديث عن العيش كإنسان ولا عن العلم ولا عن الفن ولا عن الإيمان، ولا يبقى هناك أمن أو ثقة، لا في الأمة ولا في المجتمع. وإذا ساد مثل هذا الجو الذي تسود فيه الفوضى، يصبح الناس ذئابًا، ويرى القوي أن الحق بجانبه على الدوام، ويضع القوانين حسب أهوائه، أي يحاول أن يقيم عالمًا تسُود فيه فلسفة عرجاء ومشاعر أنانية”.
أرأيتم كيف يغوص الأستاذ محمد فتح الله كولن في بحر معاني الآيات القرآنية من خلال تأملاته الإيمانية ليخرج لنا اللآليء والجواهر.
أنوار القرآن تضيء العقل والوجدان
“القرآن نور متبلْور في القلوب، ومنبع نور للقلوب، ومعرض حقائق، ولكنه لا يعرفه على حقيقته سوى القلوب التي تستطيع حدس كل جمال الكون عند رؤيتها لزهرة واحدة، ومشاهدة طوفان من رؤية قطرة واحدة”. هكذا يعرّف الأستاذ محمد فتح الله كولن القرآن الكريم في كتابه “الموازين أو أضواء على الطريق” الذي كتبه بالتركية وترجمه إلى العربية الأستاذ أورخان محمد علي، وصدر عن دار النيل للطباعة والنشر” في القاهرة. ففي تأمّلاته النورانية في القرآن الكريم، يقول المؤلف: “استطاع الإنسان بفضل القرآن أن يصل إلى مرتبة سامية، وهي مرتبة مخاطبة الله تعالى. والإنسان الذي يعي وصوله إلى هذه المرتبة، إن حلف أنه استمع بلسان القرآن الكريم إلى الله وأنه تحدث معه، لا يكون حانثًا في حلفه”.
ويقول عن فضائل القرآن ومكارمه في عبارات مشرقة: “القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعلّم الإنسان معنى الإنسان وماهيته والحق والحكمة وذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى، وذلك بأدقّ ميزان. وليس هناك كتاب يماثله في هذا الميدان أبدًا. ولو طالعت حكم الأصفياء والأولياء وفلسفة الفلاسفة الباحثين عن الحق، لعرفت ذلك بنفسك”.
إن المؤلف يدرك إدراكًا عميقًا الأهدافَ التي يسعى إلى تحقيقها أعداء القرآن -وهم كثر-، فيقول موضّحًا هذا الأمر: “الذين يرون القرآن منبعًا للأساطير والخرافات، هم الذين ورثوا هذا الهذيان الأحمق من عصر الجاهلية العربية قبل أربعة عشر قرنًا. والحكمة والفلسفة الحقيقية تسخران من هذه النظرة”. ثم يستطرد في كشف نوايا مَن يهاجم القرآن -وقد نشطوا في الفترة الأخيرة- متحديًا إياهم قائلاً: “ويا ليت الذين يهجمون على القرآن وعلى تعاليمه، يستطيعون تقديم أي شيء بديلاً عنه لصالح النظام البشري وأمنه وسعاته. والحقيقة أن مِن الصعب جدًّا فهْم سبب هذا التمرد وهذا العناد ضد القرآن في الوقت الذي تتخبط فيه جميع الحضارات والمدنيات المخالفة لتعاليم القرآن وتعاني الويل والثبور وتتجرع الآلام، كما تعاني جميع القلوب الخالية من نور القرآن أزمات نفسية حادة ومؤلمة”.
والمؤلف يضع يده على مفصل الصراع المحتدم اليوم -كما كان محتدمًا طيلة القرون الماضية- بين المؤمنين بالقرآن وبين المحاربين له بشتى الأساليب. وقد ظهر منها اليوم أسلوب في غاية الدهاء والمكر والخداع، وهو “محاربة القرآن من الداخل”، من خلال التأليف في موضوعات قرآنية من مثل “مدخل إلى القرآن”، و”فهم القرآن”، و”قراءة معاصرة للقرآن”، و”القرآن والكتاب”، و”تاريخ القرآن”، و”القرآن والتأويل”، و”تاريخانية(؟) القرآن”، إلى آخر هذه العناوين التي تنتشر اليوم ويروج لها على نطاق واسع.
يقول الأستاذ محمد فتح الله كولن: “الذي يؤمن بالقرآن يؤمن بمحمد r، والذي يؤمن بمحمد r، يؤمن بالله تعالى. فمَن لا يؤمن بالقرآن لا يؤمن بمحمد r، ومن لا يؤمن بمحمد r لا يؤمن بالله تعالى… هذه هي أبعاد الإسلام الحقيقية”.
وقياسًا على هذه الحقيقة الإيمانية، أقول إن من وضع كتابًا في الفلسفة مخصصًا للمدارس الثانوية يكفر فيه بالله تعالى وينكر الوحي ويشكك في مبادئ الإيمان، وهو الكتاب الذي اعتمد في مدارس الدولة لمدة ثلاث عشرة سنة، كيف نثق فيه ونقبل منه اليوم أن يكتب لنا عن مدخل القرآن وعن فهم القرآن؟!
لقد وجدتُ الأستاذ محمد فتح الله كولن متفائلاً بحكم إيمانه القوي الثابت الراسخ. وأنا أشاركه هذا التفاؤل، فهو يقول: “أنا أرى بأنه في المستقبل القريب ستشاهِد الإنسانية بنظرات ملْؤها الإعجاب والتقدير، كيف أن شلالات مختلف العلوم والفنون تتّجه نحو القرآن وتصبّ فيه. عند ذلك سيجد العلماء والباحثون والفنّانون أنفسهم في البحر نفسه. ليس من المبالغة أبدًا النظر إلى المستقبل بأنه سيكون عهد القرآن، ذلك لأنه الكلام الذي يرى الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد”. فقطعًا ويقينًا أن المستقبل للقرآن الكريم، وإن الإنسانية ستؤوب إلى القرآن طال الزمن أم قصر. نقول هذا عن يقين مطلق وإيمان كامل لا تزيده الأيام إلاّ رسوخًا ووثوقًا. والمؤلف يعبر عن هذا اليقين في جميع مؤلفاته.
ففي كتابه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”، يذهب الأستاذ محمد فتح الله كولن مذهبًا جديدًا في تفسير الآية العاشرة من سورة الأنبياء: •لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(الأنبِياء:10)، فيقول: “إن هذه الآية الكريمة تشير لمخاطبيها آنذاك بالوضع الذي سيتبوّأونه في المستقبل، وتقول: إنكم ستشغلون في المستقبل موقعًا مشرفًا لن تستطيع أمّة أخرى بلوغه، وإن هذا القرآن سيحفظ لسانكم ولغتكم من الضياع والسقوط، ويبقى مرجعًا لكل مَن يريد فهْم دينه. نجد هذا المعنى في كلمة •ذِكْرُكُمْ، وهي كلمة لا تفيد معنى الموعظة فحسب، بل تشمل أيضًا معنى بقاء ذكركم، وعدم نسيانه، وعدم زواله”. وهذا معنى عميق وفهم مستنير للآية الكريمة، اهتدى إليه المؤلف المفعم قلبه بنور القرآن، المشرق قلمه من نور القرآن، فجاء شرحه لها وتأمله فيها، مشبعًا بنسائم القرآن مضمخًا بعطره الفواح.
ويبلغ المؤلف مستوى راقيًا من الإبداع البياني في شرحه للآية السابعة والثمانين من سورة الأنبياء •فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(الأنبياء:87)، فيقول: “إذا تناولنا هذه الآية نراها تعلن عظمة الله ووحدانيته بكل قوة •لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. (…) وهنا أمر أشار إليه بديع الزمان سعيد النورسي، وهو كون •لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَجملة مشيرة إلى مستقبلنا. أجل!.فلو تناولنا الموضوع ضمن قاعدة “الانطباق مع مقتضى الحال”، فإن الله تعالى وحده هو الذي يستطيع أن ينقذنا -سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع- من الظلام إلى النور، وأن يوصلنا إلى شاطئ السلامة. ويكون هذا بشعار •لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الذي يحتوي على جميع أنواع التوحيد”. ويختم المؤلف شرحه هذا بقوله البليغ: “ولكن يجب هنا الإشارة إلى أمر آخر، وهو أن النبي يونس u نادى •لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ بسبب الظرف الخاص المحيط به، أما نحن فنقول •لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ بدلاً من •لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ بسبب الظروف المحيطة بنا..”. وهذه سباحة في بحر معاني القرآن لاستخراج اللآلئ من أعماقه، على نحو يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل ربطًا يحمل على التأمل في واقعنا المعيش.
لقد صدق المؤلف حينما قال في كتابه “الموازين”: إن “الذين يَحُولون دون فهْم المسلمين لقرآنهم والتعمق في معانيه، يكونون قد حالوا بينهم وبين روح الدين وبين لب الإسلام وجوهره”. وأعرف رهطًا من هؤلاء الذين يمتهنون الكتابة في الصحف والمجلاّت ويصدرون الكتب تباعًا، وشغلهم الشاغل هو الحَوْل بين المسلمين وبين التعمق في فهم كتاب الله وتدبّره على النحو الذي يملأ قلوبهم بأنوار القرآن. وفي فترة سابقة كان جل هؤلاء ممن هم من غير جلدتنا، أما اليوم، فقد تواطأ هؤلاء مع أندادهم من البلدان الغربية، وصاروا من عتاة خصوم القرآن وإن تحت شعار “القراءة الجديدة للقرآن” أو “الفهم المستنير للقرآن”. والغريب أن لا أحد يتصدى لهم بالعلم وبالفكر وبالحجة والمنطق، عدا قلة محدودة من الغيورين على دينهم تقوم بواجبها في هذا الصدد في حدود ضيقة.
الرقائق التركية في التلال الزمردية..
نحو حياة القلب والروح
من الكتب الجديدة الجيدة والمتميزة التي صدرت أخيرًا في تركيا، كتاب للمفكر المجدّد المصلح المربي القدوة الأستاذ محمد فتح الله كولن، بعنوان “التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح”، ترجمه من اللغة التركية إلى اللغة العربية، الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وصدرت الطبعة الرابعة للجزء الأول عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة خلال السنة الحالية، وقدم له الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ. وعلمت من المترجم أنه يعمل في ترجمة الجزء الثاني.
إن “هذا الكتاب مرآة للروح تنعكس على صفحاته، وتعكسه على الآخرين، والروح لا جهات لها، فمِن أين أتَيتها فقد أتيتها، وكذلك من أين دلفتَ إلى هذا الكتاب، فقد دلفت إلى الكتاب كله، وإلى روح صاحب الكتاب”، بهذه الكلمات الجامعة المعبرة الموحية، يقدم أديب إبراهيم الدباغ الكتاب إلى القارئ. وأشهد أني قرأتُ الجزء الأول من هذا الكتاب مرّتين؛ المرة الأولى كانت في شهر مارس الماضي في طبعته الثانية، والمرة الثانية كانت أثناء زيارتي الأخيرة إلى إسطنبول مع الأسرة في الأسبوع الأخير من شهر يوليو عام 2011م. ولديَّ في مكتبتي الطبعتان الثانية والرابعة. وكنت قد قرأت كتبًا أخرى للمؤلف خلال السنَتين الماضيتين، أذكر منها كتابه القيم الذي لم أقع على مثيل له “النور الخالد: محمد r مفخرة الإنسانية”، وكتابه “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”، وعناوين أخرى. وقد بلغ عدد المؤلفات التي صدرت للمؤلف باللغة العربية حتى الآن، أربعة عشر كتابًا، منها “سلسلة النور الخالد” التي تقع في سبعة أجزاء.
ولكن “التلال الزمردية” نسيج وحده، ليس فقط من بين مؤلفات الأستاذ محمد فتح الله كولن، وإنما من بين الكتب التي صدرت باللغة العربية فيما أعلم، إذ لا أعرف كتابًا في المكتبة العربية المعاصرة ينحو هذا المنحى وبهذا المستوى من العمق والشفافية والوهج الروحي والتألق الفكري. ولذلك احتفيتُ بالكتاب، واستمتعتُ به، وأفدتُ منه، ووجدت فيه ما لم أجده في غيره. ولا غرو فالمؤلف خرج من تحت معطف بديع الزمان سعيد النورسي، العارف بالله المصلح المنقذ للإيمان المجدّد للروح الذي كان له التأثيرُ القويُّ في تنشئة الأجيال التركية على الإيمان والتمسك بالقرآن والسنة، في مرحلة النكوص والتراجع التي عاشتها تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى منتصف القرن العشرين، في ظاهرة لم يعرف بلد عربيٌّ إسلاميٌّ مثيلا لها على الإطلاق. والغريب أن المؤلف محمد فتح الله كولن لم يلْتق بسعيد النورسي، ولكنه قرأ “رسائل النور” بتعمّق وتأمل وتمعن وتبصّر وتدبر وتفكر، فنذَر حياته ليترجم رسائل سعيد النورسي إلى الواقع المعيش، وإلى ممارسات ومبادرات وسلوكيات، وإلى منهجٍ تجديديٍّ في الحياة التركية أصِفه دائمًا بأنه فريد من نوعه على صعيد العالم الإسلامي كله بدون منازع.
يرسم المؤلف في هذا الكتاب المثير للتأمل، طريق ارتقاء القلب الإنساني في معارج المعرفة الإلهية التي هي أرقى معارف الإنسان قاطبة، وكل معرفة دونها هي مدينة لها، وظل من ظلالها، وأثر من آثارها. وقد استعان المؤلف في رسم معالم هذه الطريق بتجاربه الذاتية، وبتجارب جمهرة من فضلاء مَن سلك هذه الطريق نفسها من عظماء العارفين بالله الملتزمين بكتاب الله وسنّة رسوله r. ولقد وفّق الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ في تلخيص الكتاب واستخراج زبدته في تقديمه الرائع الشيّق. كما وفّق المترجم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، في ترجمة الكتاب إلى لغة عربية جميلة آسرة استوعبت أدقّ المعاني وأرقّ الرؤى وأعمق التأملات وأطيب النفحات وأزكى الفتوحات التي فاضت بها روح المؤلف. وليس ذلك بغريب على المترجم البارع المتقن لعمله الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، فهو الذي قدم للقارئ العربي “كليات رسائل النور” لسعيد النورسي في عشرة مجلدات ضخمة. وإليه يعود الفضل في تعريف القراء العرب ببديع الزمان سعيد النورسي الذي كان نسيج وحده وآية من آيات الله في القرن العشرين. والقارئ لهذا الكتاب يشعر كما لو أنه يحلّق في سماء النورسي، ويرتشف من ينابيعه التي تطفئ الظمأ وتشفي الغليل؛ فمؤلف “التلال الزمرّدية” ينتقل بالقارئ عبر ستة وأربعين فصلاً، من مقام إلى آخر، يبدأ بالغوص في معاني التصوف الذي يخصص له ثلاثة فصول، ثم ينتقل إلى التوبة والإنابة والأوبة في فصل قائم الذات، ثم يعبر بالقارئ إلى المقامات التالية: المحاسبة، التفكر، الفِرار والاعتصام، الخلوة والعزلة، الحال والمقام، القلب، الحزن، الخوف والخشية، الرجاء، الزهد، التقوى، الورَع، قبل أن يصل إلى العبادة والعبودية والعبودة التي يجمعها في فصل واحد. ومن هنا يبدأ في الكلام الدقيق العميق عن المراقبة، والإخلاص، والاستقامة، ويجمع في فصل واحد بين التوكل والتسليم والتفويض والثقة، ثم يأتي مقام الخلُق، ويليه مقامات التواضع، والفتوّة، والصدق، والحياء، والشكر، والصبر، والرضا، والانبساط، والقصد والعزم (في فصل واحد)، والإرادة والمريد والمراد (في فصل واحد)، واليقين، والذكر، والإحسان، والبصيرة والفراسة (في فصل واحد)، والسكينة والطمأنينة أو الاطمئنان (في فصل واحد)، والقرب والبعد (في فصل واحد)، والمعرفة، والمحبّة، والعشق، والشوق والاشتياق (في فصل واحد)، والجذبة والانجذاب (في فصل واحد)، والدهشة والحيرة (في فصل واحد)، والقبض والبسط (في فصل واحد)، ويجمع في آخر الفصول بين الفقْر والغنى.
في فصل التوبة والإنابة والأوبة، يقول المؤلف إن “التوبة هي تجديد الإنسان لنفسه باستمرار، أو رجوعه إلى صفائه الأصلي وانسجامه مع فطرته الذاتية، بعد تعرضه لتشوهات طبْعية وداخلية، تحتوي كل مرتبة من مراتبها على أمثال الأمور الآتية:
1-الندَم من أعماق القلب،
2-تذكر الأخطاء السابقة بارتعاش ورعدة،
3-إزالة المظالم ونصرة الحق،
4-إيفاء الواجبات والتكاليف الفائتة حقَّها وإمعان النظر مجددًا في المسؤوليات،
5-ملء الخواء الذي أحدثته الأخطاء والزلات في الروح، بالعبادة والطاعات واغتنام التضرعات في جوف الليالي،
6-بالنسبة للخواصّ وأخصّ الخواص؛ التحسر والبكاء على الحياة التي تمضي دون ذكر وفكر وشكر، والتأوّه والأنين وجلاً مما يمكن أن يتسرب بقصدٍ شيءٌ مما سواه تعالى في الشعور والفكر”، ويقول في هذا السياق في عبارات عميقة منعشة للروح منيرة للعقل: “إن الذي لا يئنّ ولا يتوجّع من الخطأ مهما كان مستواه في أثناء التوبة، ولا يرتعش نادمًا من عثرات يمكن أن تحدث، ولا يشعر باشمئزاز ولا يتملّكه الازدراء نحوها، ولا يرتعد من احتمال وقوعه تحت خط الاستقامة مرة أخرى -رغم كل شيء- نتيجةَ بُعده عن الله سبحانه، ولا يحاول التخلص مما وقع فيه من أخطاء وزلاّت في عبوديته لله وتخلقه بالعبودية.. إنه يكون كاذبًا في تَوبته”.
ويقسم المؤلف الصوفيّين إلى مجموعتَين رئيسَتَيْن، الأولى “المنطلقون في مدار العلم بحثًا عن الوصال بأجنحة المعرفة”؛ والأخرى “السالكون لتحرّي الذوق والوجد والكشف فحسب”. ويشرح قائلاً: “المجموعة الأولى، وهم الذين يحلّقون في الذرى بـ”لا حول ولا قوة إلا بالله”، فيقضون حياتهم بأجنحة العلم والمعرفة في سفَر لا نهاية له، في آفاق “السير إلى الله”، و”السير في الله”، و”السير عن الله”. فكل ما يشاهدونه من تبدل وتغيّر وتكوّن في الوجود، يقدم لهم مئات من الرسائل من القدرة والإرادة الإلهيتين، وكل حادثة تهمس لهم بنغمات مختلفة بألسنة متباينة. أما المجموعة الثانية، فهم الباحثون عن الكشف والكرامة والذوق والوجد والتواجد. لذا يمكن أن يعيشوا “البُعدَ” في إقليم “القرب”، لذهولهم أحيانًا عن الهدَف، رغم أنهم جادّون في سيرهم وسلوكهم وزهدهم”.
ويفصل المؤلف المفكر المتعمق كلامه بدقة أكثر، فيقول: “إن الطريق الأول، هو طريق أصحاب الولاية الكبرى السائرين في ظل ريادة القرآن الكريم؛ أما الطريق الثاني تتقدم فيه أحيانًا الرغَبات والمشاعر والترقّبات، رغم أن مداره في الأساس القرآن الكريم والسنة النبوية. لهذا فهو طريق أقلّ أمْنًا من الأول”.
وفي مقام المحاسبة الذي هو من أجلّ المقامات ومن أصعبها أيضًا، يقول المؤلف في عبارات دالة: “المحاسبة كالقنديل في عالم المؤمن الداخلي، وكالناصح الأمين في وجدانه، يميز بها الخير عن الشر والحسن عن القبح، وما يحبّه الله عما لا يحبه. وبريادة ذلك الناصح الخيّر وإرشاده، يقتحم ما لا يقتحم من عقبات ويبلغ هدفه دون مبالاة بالعوائق”. ثم يزيد في التدقيق (والترقيق أيضًا) فيقول عن المحاسبة: “إنها في مواضيع الإيمان والعبودية والتوفيق والقُربية ونيل السعادة الأبدية تدور بمحض العناية الإلهية والرحمة الإلهية، وهي الخصم اللدود للأمان التام مثلما هي لليأس. إنها مفتوحة كليًّا على السكينة والاطمئنان، كما تتمَحور على الخوف والقلق والاضطراب. ففي ربوع القلوب المخضلة بالخشوع، المتفتحة للمحاسبة، ترجّع دائمًا صدى أنين “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبَكَيتم كثيرًا” (متفق عليه)، وفي إقليمها حيث تعيش الطمأنينة والمهابة مندمجة، تدوّي انكسارات الأفذاذ الذين أقضَّت المسؤولية ظهورهم بـ”لوددتُ أنّي كنتُ شجرة تعضد” (رواه الترمذي)، وهم يشعرون كل آن كأن قوله تعالى: •حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ(التوبة:118). ففي كل جزء من أجزاء دفاعهم يرنّ •وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ(البقرة:284)، وتنطلق ألسنتهم بصراخ “يا ليتني لم تلدني أمي”.
ثم يخلص المؤلف إلى القول الفصل في هذا المقام، بأن المحاسبة بهذا القياس أمر صعب عسير. ولكن الذي لا يحاسِب نفسه بهذا المستوى لا يمكن أن يستثمر الزمان، فلا يتميّز يومُه عن أمسه ولا غده عن يومه. فمَن يهدر الزمان فلن يبدي فعالية وكفاءة أخرويةألبتة.
إن الأستاذ محمد فتح الله كولن يعلّمنا -في هذا الكتاب- كيف نشحن النفس بقوى الإيمان وطاقاته في مواجهة محن الزمان، وهو يريد من المسلم أن يكون عظيم النفس، هائلاً في عظمته، مهيبًا في سموّه، خارقًا في قوة روحه، وأن يظل تعطّشه إلى الحياة متأجّجًا في قلبه، وإذا ما خانته نفسه رجع إلى الله متضرّعًا. والمؤلف يجمع في كتابه بين العشق والإشراق والعرفان والتصوف القائم على القرآن والسنة، وبين الشعر والفلسفة وعلوم شتى في براعة آسرة.
نفحات روحية تهبّ من تلال تركية:
في مقامات الإخلاص والصبر والرضا والمحبة
مؤلف كتاب “التلال الزمردية” الأستاذ محمد فتح الله كولن، الذي نواصل رحلتنا الروحية معه، “قرأ لعمالقة التصوف الكبار، من عرب وفرس وترك، وكان له من وجدانه الشاعري، وحسّه المرهف، خير مِعْوَان على ذلك، فشرب من الكأس نفسها التي شربوا منها، وخاض البحار نفسها التي خاضوها، وعانى ما عانوا، وَوجَدَ مثل وجدهم، واتّقدتْ شمعةُ المحبّة في قلبه كما اتقدت في قلوبهم، وسكب الغزير من الدموع كما سكبوا، فأنَّ وحنَّ، وفاض وَجْدهُ، والْتهب شوقه، وعلا نشيجُه، واحترق قلبه، إلاَّ أنه ظل مُمسكًا بمِيزان الشريعة ليفرّق بين مقبولها ومرفوضها”.
هكذا يقدم الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ، مؤلفَ هذا الكتاب القيّم إلى القارئ العربي، بهذه العبارات المؤثرة المبللة بندى الحب والمضمّخة بعطر الشوق وبطيب الوجد الصوفي، ناقلاً عن المؤلف قوله الفصل الذي يحدد معالم الطريق إلى الله على هدي القرآن والسنة: “ففي أمثال هذه المواقف، فالحذر واليقظة وموازين السنة النبوية هي الأساس. أما رجال الحق الذين غلب عليهم الحالُ وهم مخمورون بحظوظ المشاهدة، فقد يتلفظون بأمور مخالفة لهذه الحقيقة. ففي أمثال هذه المواقف، ينبغي البحث بإنصاف عن نياتهم وعدم الاستعجال في إصدار الحكم عليهم”.
ويتبدَّى لنا هذا المسلك في شرح المؤلف لمقام الإخلاص، فيقول: “الإخلاص وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوبَ الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيرًا، والضحل عميقًا، والعبادات والطاعات المحدودة غيرَ محدودة، حتى يستطيع الإنسان بوساطتها أن يطلب أغلى ما في سوق الدنيا والآخرة، ويتمكن بفضلها أن يقابل بالاحترام والتوقير رغم كثرة الطالبين”. وينقل محمد فتح الله كولن كلامًا جميلاً لأبي يزيد البسطامي يعمق الشرح الذي أتى به: “لقد بذلتُ ما بوسعي، فعبدت الله ثلاثين سنة، ثم سمعت هاتفًا يقول: «يا أبا يزيد، إن خزائن الله ملأى بالعبادات، إن كنتَ تبغى الوصول إليه تعالى، استصغرْ نفسك في باب الحق، وكن مُخلصًا في عملك»، فانتبهت”.
ويتعمق المؤلف في شرح مقام الصدق، فيقول: “الصدق هو أن يصون الفردُ تكاملَ عمله وسلوكه، وأن يقول الحق حتى في مواطن الهلكة، التي لا ينجيه إلاّ الكذب، لئلا يقع في مباينة السر والعلانية والظاهر والباطن. إن أدنى مراتب الصدق هو استواء السر والعلانية، والباطن والظاهر في الأحوال كلها، تليها مرتبة الصدق في الشعور والتفكر والتصور والنيات”. ويستطرد قائلاً: “الدعوات والتوسلات إنما تقبل وتستجاب بقدر أدائها بالصدق. حيث تبلغ عرش الرحمة كأنها مقترنة بالاسم الأعظم. نعم، الصدق يؤثّر كتأثير إكسير الاسم الأعظم”. ويختم هذا المقام بقوله: “إن أعظم الصدق هو الرضى بربوبيّة الله سبحانه وبدين الإسلام نظامًا إلهيًّا، وبسيّد الأنام r مرشدًا ورائدًا. فالطريق إلى الإنسان الحق يمرّ من تحمّل هذه المسؤولية الثقيلة والعسيرة جدًّا”.
وينبغي أن نستحضر دائمًا، ونحن نواصل الرحلة الروحية مع محمد فتح الله كولن، أن الرجل لا يكتب من برج عاجٍ، وليس هو بدرويش منقطع عن الدنيا، وإنما هو صاحب دعوة وحركة ومشروع إصلاحي تجديدي له تأثيره الملموس داخل بلده تركيا وخارجه في أقطار شتى من العالم.
لقد تعوّدنا أن نقرأ مثل هذا الكلام لرجال زهدوا في الدنيا، وانعزلوا في أماكن تنأى بهم عن المجتمع الذي ينتمون إليه. ولذلك فإننا مع المؤلف نعيش حالة مغايرة تمامًا، فهذا الصوفي الشاعر المفكر، هو رجل إصلاح وتجديد في الفكر، وفي السلوك، في الشعور والتصور، وفي المعاملة والممارسة. وهنا السرُّ الذي يجعل من الأستاذ محمد فتح الله كولن نسيج وحده -كما سبق أن قلت في مناسبات كثيرة- ويجعل حركته المجتمعية التجديدية، حركة فريدة من نوعها على صعيد العالم الإسلامي قاطبة، ويجعل من تلامذته ومحبّيه، نماذج مشرقة فاعلة ومؤثرة في محيطها.
في مقام الصبر يحلّق المؤلف في أجواء الإيمان واليقين والشوق إلى الله تعالى. فيقول:
“لقد بحث الصبر ضمن ستة أقسام من حيث كيفيته وتحققه:
1-الصبر لله، لأجله تعالى، وهو أولى مراتب الصبر،
2-الصبر بالله، أي العلم بأنه تعالى هو المصبِّر(بكسر الباء المشددة)، وهو أسبق بخطوة من الأولى،
3-الصبر على الله، بعدم الاستعجال تجاه التجليات الجمالية والجلالية للحق تعالى، قائلاً: “لله في كل شيء أسرار وحِكم”،
4-الصبر في الله، أي استواء القهر واللطف في الطريق إلى الله (لا يفرّق بين حال النعم والمحنة). لهذا الصبر ميزة خاصة، ويسبق الأقسام الأخرى،
5-الصبر مع الله، أي البقاء معه تعالى مع مراعاة أسرار المقام الذي هو فيه من حيث خصوصية المعية والقرب،
6-الصبر عن الله، وهو صبر عشّاق الحقيقة، الذين عزموا على التحمّل عن الوصال وهم بين الخلق”.
أما “الرضا، فهو عدم اهتزاز قلب الإنسان للبليّات التي تصيبه، ومقابلة تجليات القدر بارتياح ضمير.. وبتعبير آخر، بقاء جهاز الفؤاد والوجدان في سكون واطمئنان مما يتألم منه الآخرون ويمتعضون منه”. والرضا، إلى ذلك كله، هو “ارتياح القلب واطمئنان النفس بقضاء الله وتقديره ومعاملاته بتحمّل آلامها وشدائدها وغموضها حسب تقلبات نفوسنا”. يقول محمد محمد فتح الله كولن في هذا المقام: “وإذا أخذنا الأمر من زاوية الأسباب، فالبلوغ إلى مرتبة الرضا يتطلب الجد في معاملات العبد مع ربّه U، وأخذ النعم التي تغدق عليه من دون طلب وسائل شكر وتحدثًا بالنعمة، والتعالي على أنواع الحرمان برحابة صدر، وأداء حق مسؤولياته بانشراح تام حتى لو كان يتقلب تحت قبضة الاستيحاش والانفراد والانقباضات، وقبول أوامر الحق سبحانه ونواهيه بسرور وحبور، كأنها دعوة إلى “ليلة زفاف”… وأمثالها من الأسس. إلا أن أهم ركن للرضا من حيث المبدإ، هو توجه الفرد إلى الله في قيامه وقعوده بشعوره وفكره وسلوكه، والانتباه له والانشراح به، وإنشاؤه وسائل متجددة كل يوم للوصول إلى معرفة أعمق للألوهية”.
ويبلغ المؤلف درجة عالية من الشفافية في شرحه لمقام الرضا، حيث يقسم هذا المقام إلى “خمسة أقسام:
1-عدم الانزعاج من أي حكم وتقدير مصدره الألوهية والربوبية،
2-تلقّى كل ما يرِد من الله بانشراحٍ وسرور،
3-الارتياح إلى رياح القدَر أينما هبّت،
4-المحافظة على ضبط موازنة القلب وتوازنه حتى تجاه أفجع الحوادث وأشدها،
5-عدم التوجع من المصائب متفكرًا بتقدير الله في لوح الحقيقة المحفوظ”.
والمقصود هنا التفكير في تقدير الله، وليس “بتقدير الله” حسب التعبير الذي استخدمه المترجم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. والتدقيق هنا ضروري حتى يستقيم المعنى، لأن التفكير يكون “بالعقل” في أمر من الأمور.
ولقد وجدتُني أربط الصلة بين كلام المؤلف في هذا المقام، وبين حياته الحافلة بالعمل المخلص المتقن المحكم الدؤوب، من أجل خدمة المجتمع والنهوض به على أساس من الأخلاق والقيم والقواعد الإسلامية، ودونما تزمّت أو تشدد، أو تهور أو اندفاع أوتنطع. فحياة الأستاذ محمد فتح الله كولن، صورة لمقام الصبر، ولمقام الرضا، والحركة التجديدية الإصلاحية الإنمائية التي يديرها بحكمته المشهود له بها، نموذج للعمل الجاد الهادف إلى الارتقاء بالإنسان وبالمجتمع وبالبيئة على جميع المستويات.
من المقامات الرفيعة التي يعرض لها المؤلف في هذا الكتاب، مقام “الانبساط، وهو التوسع، والانتشار، والتعمق في الداخل، واستعلاء المرء على طبائعه، وانفتاح القلب للجميع، وإرضاؤهم، بطيب اللسان وطلاقة الوجه، ضمن إطار الحدود الشرعية. أما مِن حيث العلاقة مع الله سبحانه، هو هَيمنة حالة من مزيج الخوف والرجاء على ذات الإنسان بحيث إن ذوي القلوب الواصلة إلى هذا المستوى، يكتمون أنفاسهم في هيبة الحضور، ثم يطلقونها بنشوة نَسائم الحضور وبهجة سروره، فكلّما شهقوا اقشعرّوا، وكلما زفروا انشرحوا”، حسب التعبير الذي استخدمه المؤلف. “والانبساط ضمن ارتباطنا به سبحانه، هو استنشاق هبّات نسائم الانبساط، والعيش بالخوف والرجاء معا في الروح، بحال يفوق الأحوال. فالخوف والرجاء اللذان هما من أحوال النفس، عنوانان على علاقة المبتدئين بالله في ارتباطهم به سبحانه. أما الانبساط الذي هو حال العارفين حقًّا، فهو بُعدٌ آخر لحياة القلب وحال خاصة بأرباب القلوب”.
ويغرق المؤلف في بحر المحبّة من دون أن يفقد طوق النجاة، وهو هنا القرآن والسنة. فيقول في إحدى تجلّياته المنعشة للروح المنيرة للبصيرة: “المحبة الحقيقية إنما تتحقق بتوجه الإنسان بكيانه لله إلى المحبوب سبحانه والبقاء معه، وإدراكه له وانسلاخه من جميع الرغبات الأخرى ومن جميع الطلبات، بحيث إن قلب البطَل الذي ظفر بهذه الحظوة، ينبض كل آن بملاحظة جديدة تخصّ الحبيب.. وخياله يجول في إقليمه الساحر.. ومشاعره تتلقى كل لحظة رسائل متنوعة منه.. وإرادته تحلق بهذه الرسائل.. وفؤاده يسرح في متنزهات الوصال…”.
و”المحبة الحقيقية ليست على مستوى واحد لدى الجميع من حيث تعلقها بالمحبوب، فهنالك:
1-محبة العوام، وهي محبة تتردد بين الهبوط والصعود.. فهؤلاء يرون رؤى الإحسان تحت ظل الحقيقة الأحمديّة، ويشاهدون علامات تخص بزوغ فجر المعرفة.
2-محبة الخواص، فهم كالعُقبان المحلّقة في أجواء عالم المحبة، يثرون عمرهم دومًا بالعمق والخصب بامتثال الأخلاق المحمدية في عالم القرآن المنور، من دون أن يطلبوا عوضا ماديًّا كان أو معنويًّا.
3-محبة خواص الخواص، فهم كالغيوم المحملة بالأمطار في السماء المحمدي، بهذه المحبة يستشعرون الوجود، وبها يحيون، وبها يبصرون، وبها يتنفّسون”.
هكذا “تجد الفئة الأولى في بابه سبحانه، الرحمة والعناية الخاصة بها، بحلم؛ وتصل الفئة الثانية إلى أفق إدراك الصفات الجلالية والجمالية، وتنجو من الثغرات البشرية وظلماتها؛ بينما الفئة الثالثة تتنور بنور وجوده سبحانه، وتنتبه إلى حقيقة الأشياء، وتربط علاقات مع ما وراء الأستار”.
بهذا العمق والشفافية يكتب عن المحبة التي يختزلها في العبارات التالية: “إذا نُسبت المحبةُ إلى الحق سبحانه فهي إحسان، وإذا أسندت إلى الخلق فهي خضوع وطاعة وانقياد”.
وإن مما يزيدنا تقديرًا لهذا المؤلف الملهَم أنه لا يكتب من صومعة منعزلاً عن تيار الحياة المتدفق، وإنما يكتب للناس الذين يحبّونه، ويثقون به، ويعملون معه من أجل تطبيق هذه القيم والمبادئ والأفكار في الواقع المعيش. وتلك إحدى تجليات الأستاذ محمد فتح الله كولن الذي وصفته في مقال سابق، بأنه “الرجل الظاهرة”، أو “الرجل المؤسسة”، أو “الرجل القدوة” في زمن عزّت فيه القدوة.
ما حقيقة حركة محمد فتح الله كولن؟
يتصدَّر اسم “محمد فتح الله كولن” عناوين الأخبار في الصحافة العالمية عن الأحداث الجارية في تركيا. ويأتي اسمه مقرونًا باسم “رجب طيب أردوغان” رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية. فمَن هو محمد فتح الله كولن؟ هل يقود حركة عابرة للقارات كما تصفه الصحافة؟ وهل هو زعيم سياسيّ، أم هو مفكّر إسلامي وعالِم دين وداعية مصلح يعمل لنشر الإسلام ولتصحيح العقيدة وللتمكين للثقافة الإسلامية؟ وهل حركة محمد فتح الله كولن حركة إسلامية تربوية ثقافية اجتماعية إصلاحية، أم هي حركة سياسية تسعى إلى الحكم في تركيا؟ هل محمد فتح الله كولن يظهر للناس على حقيقته، أم أنه يتظاهر بغير حقيقته؟ هل هو قائد تيار عريض له أنصاره الذين يعدُّون بالملايين وله أهداف يعمل على تحقيقها، ويسعى إلى جذب الأنصار لدعمها والتمكين لها، أم هو قطب صوفي غامض -كما يصفه بعضهم- ينتمي إلى إسلام صوفي غير واضح المعالم؟
تلك هي الأسئلة التي تتردد في الإعلام الغربي بصورة عامة، كما تتردد بأساليب مختلفة في الإعلام العربي ومن زوايا متعددة، وغالبًا ما يتم ذلك بدون فهم حقيقي لما يجري في تركيا من أحداث يبدو أنها لن تهدأ في المدى القريب.
محمد فتح الله كولن (بالكاف وليس بالغين، ومعناها البسّام، الضحاك) شخصية فريدة من نوعها، حقيقةً لا مجازًا. لا يوجد له نظير في العالم العربي بل في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. هو نمط فريد من بين المفكرين الذين يؤمنون بالقيم الإسلامية ويسعون إلى تفعيلها في المجتمع. ولا أحب أن أستخدم تعبير “المفكرين الإسلاميين”، فهو مفكر ذو رؤية إسلامية وصاحب رسالة إنسانية، عرف دينه وعصره وحاجة مجتمعه إليه، فانطلق يعمل في بيئة لم تكن مواتية، ولكنه وُفّق -بذكائه وفطنته وبصدقه وبتفانيه- في تذليل الصعاب، وفي إقناع الناس المحيطين به بأفكاره البنّاءة، وفي شَقِّ طريقه نحو الأمام.
لقد نشأ محمد فتح الله كولن في بيئة كان الدينُ فيها محاصرًا من الدولة ومن المجتمع المثقف، أو لنقلْ من النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية.. وكان العمل في تلك المرحلة -من أجْل نشر الرسالة الإسلامية في وسط الجمهور الواسع- جريمةً يعاقِب عليها القانون. تلقّى تعليمه في حضن أمّه التي كانت على دراية بالعلوم الدينية، قبل أن يختلف إلى إحدى المدارس الدينية ليتلقى علومه على الشيوخ الأتراك، وليظهر نبوغه المبكر في حفظ القرآن الكريم، وفي دراسة اللغتين العربية والفارسية، فضلاً عن اللغة التركية لغة الوطن. وكانت الفارسية إلى ذلك العهد، لغة الفكر والأدب والشعر والثقافة العامة. فلفت إليه الأنظار في صِباه المبكر وفي يفاعته وفي شبابه الغض. ولما التحق بسلك الوعاظ الدينيين الموظّفين في الدولة، كان مثالاً للإمام التقي وللمربي الذكي والناصح الأمين والداعية الفطن الذي يعرف ماذا يقول وكيف ومتى يدعو إلى الله.
كان يتطلع إلى إصلاح المحيط الذي يعيش فيه من خلال وسائل التربية والتعليم.. وساعده في ذلك نفر ممن كانوا يثِقون في إخلاصه وصدقه من مختلف الفئات. فنشأت الحركة البانية للمجتمع، المنقذة من الجهل، الهادية إلى الإيمان، الداعية إلى الفضيلة، الحاثة على الإخلاص في العمل لمصلحة المجتمع. نشأت هذه الحركة بوسائل بسيطة وبإمكانات متواضعة. وعرفت هذه الحركة بـ”الخدمة”. يقول مصطفى يَشِيل (رئيس وقْف الصحافيّين والكتاب في تركيا): “الخدمة مشروع مدَني، تضع الإنسان في محور نشاطها، وتستهدف خدمة الإنسان، ولا تبتغي من وراء ذلك إلا مرضاة الله تعالى. وهي تؤمن بالتنوّع والتعدد الثقافي، ولا تنظر إلى الاختلاف الثقافي والديني على أنه مثار صراع وصدام.. كما تعتمد على الروح التطوعية في كل أنشطتها.. فهي أحد أركان المجتمع المدني في تركيا والعالم أجمع. وأودّ أن أؤكّد أن “الخدمة” لم يكن لها أيّ هدف سياسي أبدًا، ولم تضع في برنامجها حتى اليوم خطة لتأسيس حزب سياسي والصعود إلى السلطة، وهي تقف على مسافة واحدة من الأحزاب السياسية كافة دون تفضيل أحد على آخر”.
ويضيف شارحًا طبيعة هذه الحركة: “كما أن “الخدمة” لا تنحاز إلى أي حزب من الأحزاب السياسية بصورة جماعية، كذلك لا توجّه أي فرد من أفرادها إلى حزب بعينه، ولا يقدم لأحد أي اقتراح أو توجيه في هذا الصدد. ذلك أن الذين ملَؤوا قلوبهم بحبّ هذه الخدمة، قد تكون لديهم ميول ونزوع إلى أحزاب مختلفة. ولبّ القول إن الخدمة تركت موضوع التصويت في الانتخابات لإرادة المنتخبين الحرة”.
إن الأسلوب أو المبدأ الذي تتبنّاه “الخدمة” وتتبعه في تعاملها مع المجموعات البشرية والقضايا الإنسانية، طوال حوالي 60 عامًا من ظهورها إلى العلن، هو التزام العملِ الإيجابي البنّاء بعيدًا كل البعد عن جميع أنواع العنف والشدة، والتحركِ في إطار الحقوق والقوانين. ولم تقف “الخدمة” في يوم من الأيام إلى جانب الصراع، بل آمنت بإمكانية حل القضايا والمشاكل كافة -في أي مجال أو بقعة كانت- عن طريق الحوار والتصالح والاتفاق. فذلك هو المنظور والفكرة والأسلوب الذي بنت عليه “الخدمة” مسيرتها وحركاتها وسكناتها، كما يقول رئيس وقْف الصحافيّين والكتاب في تركيا الذي يضيف موضحًا البعد الخارجي لحركة محمد فتح الله كولن: “الخدمة باعتبارها حركة مدنية، تعقد علاقات مع كافة البلدان على طول العالم وعرضه على الصعيد المدني، وتنظم مختلف البرامج مع المجتمعات الفكرية والمؤسسات المعنية بالنشاطات التعليمية، وكذلك تقوم بتطوير العديد من المشاريع الثقافية مع شتى المنظمات المدنية. ومن الطبيعي أن تكون أمريكا من بين هذه البلدان شأن البلدان الأخرى في شرق العالم وغربه”.
ولم تكن “الخدمة” -يقول مصطفى يَشِيل- في يوم من الأيام تابعة لإرادة أي بلد في الخارج، كذلك هي لا تتبع لإرادة أي مؤسسة أو منظمة في الداخل.. فهي حركة مستقلّة لا تخضع لإرادة وسيطرة أي دولة أخرى في العالم. هي تتميز باستقلاليتها التامة من كل النواحي، من حيث مواردها ومنهجها في الفكر والعمل ومسيرتها في هذا الدرب، ومن حيث برامجها ومشاريعها المختلفة. وتلك الاستقلالية الشاملة هي أهم ميزة تتميز بها الخدمة.
ويتبادر إلى الذهن سؤال لا أتردد في طرحه؛ “هل يسير محمد فتح الله كولن على النهج الذي رسمه بديع الزمان النورسي؟”. وجاهة السؤال تأتي من طبيعة المدرسة الفكرية التي أسّسها النورسي والتي تقوم على أساس النأي عن السياسة وعدم الخوض في الشؤون السياسية من قريب أو بعيد. وهو الأمر الذي قد يبدو متعارضًا مع الحركة التي أسّسها محمد فتح الله كولن الذي يعدّ أحد النبغاء من تلاميذ رسائل النور التي كتبها النورسي وبث فيها أفكاره وتأمّلاته وتوجيهاته ونظراته في الإنسان وفي الحياة وفي المجتمع. والواقع أن حركة “الخدمة” -التسمية جاءت من خدمة القرآن والإيمان لا تقطع صلتها بالمجتمع، لأنها في النهاية حركة اجتماعية تخدم أهدافًا تنموية تربوية بالمفهوم الشامل. فهل يمكن اعتبار الاهتمام بمثل هذه القضايا ضربًا من السياسة البانية للإنسان وللأوطان وليست السياسة الهادمة للكيان وللفكر والوجدان؟!
لنتابع التصريحات التي أدلى بها رئيس وقْف الصحافيّين والكتاب في تركيا (والذي هو الأستاذ فتح الله رئيس شرف له). يقول في معرض حديثه عن العلاقة بين حركة “الخدمة” وحزب العدالة والتنمية، وهي القضية المثارة حاليًّا في وسائل الإعلام: “حركة “الخدمة” لم تجمعها في أي وقت من الأوقات “مصلحة مادية” بحزب العدالة والتنمية”، وخلال الفترات التي ساروا فيها معًا في طريق واحد. أي إن هذه العلاقة ليست لها صلة مثلاً بمناقصات تجارية أو أي شيء من هذا القبيل، كما أنه من الخطأ الحديث عن منفعة مشتركة بين الجانبين. وليس لحركة “الخدمة” أيّ حسابات أو أهداف تتعلق بنصيب لها من السلطة. إن كل ما تنتظره “الخدمة” من الحكومة أيّ حكومة هو الارتقاء بالبلد، وترسيخ قواعد الديمقراطية ودعائمها، وتحقيق النهضة والاستقرار للشعب، وزيادة حقوق المواطنين وحرّياتهم. وقد حصل حزب العدالة والتنمية على دعم القاعدة العريضة من محبي “الخدمة” حينما سعى لتحقيق مطالب الشعب. ولكن في الوقت الذي حدث فيه انخفاض في تحقيق نسبة هذه المطالب، وفرض قيودًا على حقوق المواطنين وحرياتهم، وتحولت الحكومة من مؤسسة تحتضن الجميع إلى مؤسسة تنظر إلى كل شيء من وجهة نظرها الضيقة وتقصي من حولها؛ شهدنا جميعًا كيف أن هذه التطورات أفضت إلى نشوب مشاكل كبيرة في فترات معلومة”.
عدتُ إلى كتاب “المثنوي العربي النوري” لسعيد النورسي هذه الأيام، لأعيد قراءة المقدمة الضافية التي كتَبها محمد فتح الله كولن للطبعة الجديدة. فوجدته يقول: “دعا بديع الزمان إلى القراءة والتفكر، وإلى السعي والحركة لينقذ أفراد الأمة من ضنك العزلة، وليشكل مجتمعًا سليمًا معافًى، وأمّة متينة البنية، وأكّد على التعليم الذي رآه ضرورة قصوى لرفع الوطن والإنسان إلى الذروة التي أشار إليها؛ فدعا إلى نشر المعارف بكل أشكالها في كل مكان، وإلى نشر التعليم والتربية، إذ كان يرى اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون وكافة مرافق المجتمع في تعبئة عامة للتعليم.. فبالمعارف وحْدها يمكن تحقيق الوحدة العقلية والفكرية، إذ كان يرى أن العقول إن لم تتآلف مع بعضها فلا يمكنها أن تقطع معًا شوطًا كبيرًا في الطريق. ويجب أن تتّحد الضمائر والمشاعر أولاً لكي تتّحد القلوب والأيدي فيما بعد. والطريق إلى مثل هذه الوحدة يكون بتناول الحياة حسب مبادئ الدين وقيمه، وحسب الكتاب والسنة وطريق السلَف الصالح واجتهادهم، على أن تفسر الأمور الجديدة والمستحدثة حسب إدراك العصر وضروراته”. ذلك هو النهج الذي اتّبعه محمد فتح الله كولن وسار معه فيه أنصاره والمتعاطفون المؤيّدون في داخل تركيا وخارجها.
إن قراءة هذا النص من المقدمة، الذي يُجيب عن الأسئلة التي افتتحتُ بها المقال، يجعلنا نقف على حقيقة حركة محمد فتح الله كولن.
فتح الله كولن يترجم أفكار سعيد النورسي
من خلال شبكة واسعة من التعليم الجيّد
أظهر تصنيف جامعات العالم لسنة 2013-2014 ما كان مستورًا من أوضاع التعليم العالي في العالم العربي. فهذا التصنيف يضمّ سبعمائة (700) جامعة، ويظهر أن أول 150 مركزًا لا تضمّ أي جامعة عربية أو في دولة عربية. وقد احتلت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن المركز 216. وضمن أول عشر جامعات، هناك أربع جامعات بريطانية. هذا التصنيف يدعو إلى وقفة طويلة أمام الأوضاع التي تعاني منها الجامعات في العالم العربي والتعليم العالي بصورة عامة.
إن ضعف التعليم العالي وفشله وفساده أيضًا، هو تراكم للضعف العام والفشل التام والفساد المستشري في التعليم العمومي منذ مراحله الأولى. فتلك هي النتيجة التي انتهت إليها البحوث الميدانية التي قامت بها اليونسكو والإيسيسكو، كل منهما في دوائره الجغرافية. فعلى صعيد العالم الإسلامي، تحتل دولتان (المغرب) من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي البالغ عددها سبعًا وخمسين (57) دولة، المركز المتقدم في تصنيف الجامعات، هما تركيا وماليزيا. وواضح أن التقدم في هذا المضمار يعكس التقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية كافة.
كانت هذه النتيجة حاضرة في ذهني وأنا أزور بعضًا من المؤسسات التعليمية في تركيا. فقبل سنتين زرتُ جامعة الفاتح في إسطنبول التي تعد من أرقى الجامعات التركية، وطلاّبها يحرزون النتائج المتقدمة في الأولومبيات الطلابية العالمية في العلوم والرياضيات. وفي الأسبوع الماضي، زرتُ في مدينة قُونْيَة (في وسط تركيا) مؤسسة ثقافية فكرية تربوية تحمل اسم “الأكاديمية القرآنية”، وهو اختصار للاسم الكامل “حسن حُسين وارول الأكاديمية القرآنية”. ولما سألتُ عمن يكون صاحب هذا الاسم، علمتُ أنه أحد خدّام القرآن الكريم ممن عملوا في مجال تشجيع الدراسات القرآنية ونشر الثقافة القرآنية وخدمة كتاب الله. واختيار هذا الاسم لهذه الأكاديمية القرآنية هو من الأستاذ محمد فتح الله كولن، الراعي الحكيم لحركة تعليمية ثقافية اجتماعية إعلامية واسعة النطاق تعم المناطق التركية كافة، وتمتدّ إلى بلدان أجنبية كثيرة. ويقول الأستاذ كولن: “إن هذه المؤسسات من عند الله، ليست منّا. وربّنا استخدَمنا في إعلاء دينه”.
ولقد شدّتني الأكاديمية القرآنية هذه بما شاهدتُ فيها من تجهيزات حديثة وفصول دراسية منظمة وقاعات للمحاضرات والاجتماعات وغرف لسكن الطلاب والدارسين الوافدين من المدن التركية الأخرى، والمكتبة الحافلة التي قضيتُ وقتًا طيبًا في تفقدها، فدهشت لما تحتويه من ذخائر وأمّهات الكتب والمراجع والموسوعات ودوائر المعارف من التراث ومن الإنتاج الحديث والمعاصر. وجلست إلى بعض الطلاب مع مدير الأكاديمية وأحد أساتذتها الذي كان يتكلم معي بعربية جيّدة، وهو أحد تلامذة الأستاذ محمد فتح الله كولن الذي أخذوا عنه مباشرة، وتشرّبوا أفكاره، ويعملون بتوجيهات منه على تنفيذها.. فغمرتني الروح الطيبة التي تسري فيهم وتقود خطاهم على طريق العلم والمعرفة والخدمة القرآنية، كما يعبرون ويحسنون التعبير.
والمدهش أن الأكاديمية القرآنية هذه لها فرع مماثل له في البناء والتجهيزات خاص بالفتَيات. وهو الأمر الذي يؤكد أن هذه الحركة شاملة لجميع أفراد المجتمع التركي ذكورًا وإناثًا. ومما لفت نظري عند الخروج من الأكاديمية بعد أن صلّينا المغرب، وُجود لوحة كبيرة الحجم في إطار جميل معلّقة عند المدخل سجلت فيها أسماء الأشخاص الذين تبرّعوا لتشييد هذه الأكاديمية وتجهيزها. وجميع هؤلاء المتبرّعين هم من خدّام رسائل النور للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي؛ ذلك أن حركة محمد فتح الله كولن هي الترجمة العملية لرسائل النور. والغريب أن الرجلين اللذين أحدثا هذه الحركة في طَوْرَيْها النظري التأصيلي والعملي التنفيذي، لم يلتقيا، ولكنهما يلتقيان روحيًّا وفكريًّا، ويتكاملان؛ فالأول هو الباني المؤسس لمدرسة رسائل النور الذي لم يكن يملك إلا كتابة رسائل النور وبثها في المجتمع ونشرها في الآفاق لإحياء الإيمان، بل لإنقاذ الإيمان الذي كان -ولأكثر من ربْع قرن- مهدّدًا بالإلحاد في عهد غلوان الحركة الأتاتوركية وعنفها وشراستها؛ والثاني هو من تبنَّى أفكار الأول ونذر حياته لتنفيذها في الواقع المعيش انطلاقًا من نشر المعرفة الصحيحة والوعي الرشيد وبناء الإنسان من خلال إنشاء شبكة واسعة من المدارس، بدعم ممن وثقوا فيه، واطمأنّوا إليه، والتفّوا حوله، وشجّعوه على المضيّ قدمًا في طريق تنفيذ مشروعه الحضاري الرائد.
في طريقي إلى قُونْيَة قرأتُ للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قوله: “إن عدوّنا هو الجهل والفقر والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق”. كما قرأت له ما يزيد هذا القول إيضاحًا: “كل مؤمن مكلَّف بإعلاء كلمة الله، وأعظم وسيلة لإعلاء كلمة الله في زماننا هذا، هو الرقيّ المادي، إذ الأجانب يسحقوننا تحت حكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع، ونحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية (التكنولوجيا) الجهلَ والفقر والخلاف الذي هو ألدّ أعداء إعلاء كلمة الله”.
ولا بد أن نلاحظ أن صاحب هذا الكلام النفيس لم يكن زعيمًا، ولا قائد حركة، ولا مسؤولاً عن جماعة، ولا خائضًا في بحار السياسة. كان مفكرًا عبقريًّا مبدعًا للأفكار الخلاقة صادق الإيمان، صادق الإخلاص لربّه، صادق النية في إصلاح أحوال بلده وأوضاع المسلمين عمومًا، بالكلمة، وليس بأي شيء آخر. ولذلك كان تأثيره في بيته ومحيطه تأثيرًا قويًّا نافذًا ممتدًّا ضاربًا في الأعماق، وكانت أفكاره بمثابة برنامج عمل للمستقبل. فلقد عاش النورسي مطارَدًا، مضطهدًا، منفيًّا، مسجونًا، واقفًا أمام المحاكم العسكرية يواجه تهم الإخلال بالأمن العام، ولم يكن يخل بالأمن العام ولا بالأمن الخاص، ولكنه كان ينشر دعوته الصادقة بالحكمة وبالحسنى، وبالوعي السليم، وبالفهم العميق لطبيعة المعركة الشرسة التي كان يخوضها.
وتلك هي الأفكار التي تصدَّى الأستاذ محمد فتح الله كولن لتنفيذها ونذر حياته لها، دون تدبير مسبق مع صاحبها؛ فهو لم يلتق به كما أسلفت، ودون استناد إلى هيئة سياسية تدعمه أو تؤازره، وإنما باعتماد على الذات، بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وبالصدق مع الله أولاً وقبل كل شيء، ثم مع النفس ومع الناس المحيطين به الذين يحبونه ويضعون ثقتهم فيه، وهم كثر لا حصر لهم.
كنت أحمل معي في زيارتي لمحافظة قُونْيَة التركية كتاب “المثنوي العربي النوري”، وهو المجلد السادس من “كليات رسائل النور” للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، راجعه وحقّقه الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. فقرأتُ في المقدمة الضافية التي كتبها الأستاذ محمد فتح الله كولن تحليلاً معمّقًا مثيرًا، مفصلاً للمدرسة الإيمانية الفكرية التي أسسها النورسي، والتي منها استفادت هذه الحركة التعليمية الواسعة التي تبهر الأنظار وتخلب الألباب. كتب كولن يقول: “لو أن بديع الزمان حظي بدعم بضْع مئات من المثقفين وهو ينشر رسائله في أرجاء البلاد، ووجد منهم سندًا لأفكاره، فلربما كنّا من أغنى الأمم وأكثرها مدنية، ومن أقدرها على حلّ المشاكل التي تعرض لها، ولكنّا دخلنا المرحلة الحالية منذ ذلك الوقت، أي منذ بداية القرن العشرين، ولَمَا جابهتنا المشاكل الحالية العديدة. ومع كل هذا فنحن نحمل أملاً كبيرًا، لأننا نرى أن الذين ينظرون إلى أمّتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية، هم على خطأ كبير. صحيح أننا تأخّرنا مثل غيرنا من الأمم الأخرى وضعفنا، فليس في وسع أحد إنكار هذا، ولكن ليس في وسع أحد أيضًا أن ينفي قدرتنا على النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية، فقد بدت أنوار اليقظة والانتباه تلتمع في أرواحنا كأمة بدلاً من روح الكسل والخمود، إذ بدأ دفء الحياة ونبض النشاط والحيوية يتسلل إلى أرواحنا التي كانت قد ضعفت نتيجة الميل إلى الكسل والإخلاد إلى الأرض.. إذن فلا شك أن أيام الربيع المشرقة الخضراء على الأبواب”.
إن هذا الكلام الدقيق الذي ينبض بالصدق وبحرارة الإيمان والحماسة للعمل وبالتفاؤل، يستشف منه أن حركة الأستاذ فتح الله كولن المبدعة هي الامتداد الطبيعي لدعوة بديع الزمان سعيد النورسي، إذ نقلتها من طور إلى آخر، وبثت فيها روح العصر، وذلك من خلال شبكة واسعة من التعليم الجيّد، تتضافر من أجل إنشائها جهود طائفة مؤمنة بأفكاره من التجار المخلصين والقادرين الأوفياء الذين ينفقون أموالهم بغْية نيل رضا الله ثم تحقيق التقدم لأبناء شعبهم في تجربة نادرة غير مسبوقة لا نعرفها ولا عهد لنا بها نحن العرب في بلداننا على كثرة الأغنياء القادرين منا.
وأشهد أن أنوار اليقظة والانتباه التي أشار إليها كولن في المقدمة المتميزة التي كتبها لكتاب الأستاذ سعيد النورسي، هي التي تشع اليوم من فوق المئات من المؤسسات التعليمية والثقافية والأكاديمية والإعلامية التي أنشأها كولن لـ”النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية”. أما “أيام الربيع المشرقة الخضراء على الأبواب”، فهي أيام الربيع الحقيقي، ربيع التقدم العلمي والرقي الثقافي والازدهار الاجتماعي والنمو الاقتصادي الذي فاق كل المعدلات، لا الربيع الوهمي الافتراضي الخادع المشكوك في أمره الذي زعم بعض العرب أنه المنقذ من الاستبداد والفساد والتراجع، فإذا الأيام تكشف أن الاستبداد زاد، وأن الفساد تضاعف، وأن التراجع ماضٍ في التفاقم، وأن العرب يقفون أمام أبواب المجهول.. نسأل الله اللطف.
لقد رأيت في مدينة قُونْيَة حركة تعليمية ثقافية تثبت أن تركيا في نهوض حقيقي، وأنها آخذة سبيلها إلى التقدم الحقيقي. فمن خلال “الأكاديمية القرآنية” وعدد لافت للانتباه من المدارس والمعاهد العليا ومساكن الطلاب والطالبات والفرص المواتية المتاحة لهم للدراسة المتفوقة وللتعليم الجيّد الراقي، من خلال ذلك علمتُ أن الأستاذ فتح الله كولن عرف طريقه، وأن ما كتبه عن الأستاذ النورسي في المقدمة المشار إليها، هو برنامج عملٍ وطنيٍّ متكامل من أجل النهوض الحضاري والتقدم الاقتصادي وإعادة بناء الإنسان التركي من أجل صناعة المستقبل.
إن هذه الحركة النهضوية الفاعلة المبدعة المؤثرة المنتجة التي يرعاها بحكمةٍ بالغة الأستاذ فتح الله كولن تعمّ جميع المدن التركية كما أسلفتُ. وإن ما شاهدتُه في قُونْية ليس إلا مثالاً واحدًا يدل على خصوصية هذه الحركة التي تجعل من التعليم الجيّد الراقي والمتفوق سبيلاً إلى النهوض والتقدم في المجالات كافة.
وذلك هو سرّ تفوّق الجامعات التركية على غيرها من الجامعات في البلدان العربية والإسلامية الذي يتطلب منا أن نقف عليه، وندرسه للاستفادة من هذه التجربة الرائدة إذا أردنا حقًّا أن نصلح تعليمنا العالي، وأن نسلك سبيلنا نحو النهوض الحضاري والتقدم الاقتصادي والرقيّ العلمي والازدهار الثقافي.
لما عدتُ إلى تصنيف جامعات العالم لسنة (2013-2014م) بعد زيارتي لـ”قُونْيَة”، تخفف عني الشعور بالأسى والحزن، وامتلأتْ نفسي ارتياحًا واطمئنانًا، لِما وقفت عليه في تركيا من نهضة تعليمية عالية المستوى، ومن تقدم مشهود تشهده الجامعات التي يزيد عددها عن مائة وستين جامعة منها أكثر من سبعين جامعة تابعة للقطاع الخاص في بلد تعداد سكانه خمسة وسبعين (75) مليون نسمة.
فتح الله كولن..
المفكر وداعية الحوار والسلام الذي يواجه العاصفة
محمد فتح الله كولن مؤلف الكتابين “النور الخالد: محمد r مفخرة الإنسانية” و”التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح” اللذين بلغ فيهما الذروة في الإبداع والإشراق والإقناع، ربما تختلف صورته عنه في الحوار الذي أجرته معه “بي بي سي” البريطانية، ونشرت وقائعه في موقع “الملف التركي” على الإنترنيت. كما أن محمد فتح الله كولن مؤلف الكتابين “ترانيم روح وأشجان قلب” و”الموازين، أو أضواء على الطريق” هو غيره في الحوار الذي أجرته معه صحيفة “وول ستريت” الأمريكية. في هذه الكتب الأربعة، وفي غيرها من مؤلفاته، تطالعنا صورة المفكر المنظر المصلح داعية الحوار والسلام باني النهضة ورافع قواعد الانتعاش الروحي والعودة إلى الجذور والأوبة إلى الذات. كما تتجلى للقارئ المتمعن في هذه الكتب، صورة الكاتب المبدع والشاعر المرهف الإحساس والمثقف الموسوعي الجامع بين الأصالة الحامية للذات وبين المعاصرة المنفتحة على العصر. بينما يبدو فتح الله كولن في حواره مع “بي بي سي” و”وول ستريت” مفكرًا، قائد حركة، حادي ركب، رائد نهضة، منفتحًا على الدنيا، خائضًا في الشؤون السياسية على المستويين الوطني التركي والدولي الإنساني، معارضًا حكيمًا لبعض السياسات التي ينهجها الحزب الحاكم في تركيا، على نحو غير معهود في المعارضين السياسيين للاختيارات السياسية والاجتماعية التي تعتمدها حكومات بلدانهم؛ فهو هنا في هذين الحوارين، معارض من طراز متميز، رفيع المستوى، راقي الفكر، حصيف العقل، يعرف كيف يختار مفرداته بدقة، فلا يطيش له سهم ولا يجمح به فرس، كما تقول العرب.
هل هذا تناقض؟ هل هذا ظهور بمظهرين؟ هل هذا كيل بمكيالين؟ أستبعد شخصيًّا أن يكون مؤلف “النور الخالد” و”التلال الزمردية” وغيرهما من المؤلفات الراقية، يتناقض في أقواله، وفي أفكاره، وفي مواقفه. أستبعد ذلك تمامًا وعلى وجه الإطلاق، استنادًا إلى ثقتي المطلقة في هذا المفكر المجدّد الجسور الذي قرأت طائفة من كتبه، والذي أواظب على قراءة مقالاته الافتتاحية التي ينشرها في مجلة “حراء” التي تصدر من إسطنبول وأتابعها بانتظام، وقرأت سيرة حياته المبهرة التي كتبها المرحوم الدكتور فريد الأنصاري وقرأت كتبًا أخرى عنه. ولكن هذا هو ما يمكن أن نسمّيه “تكاملاً نظريًّا” أو لنقل “ترابطًا تنظيريًّا” بين المفكر المنظر الفيلسوف الشاعر المبدع، وبين القائد الفكري والزعيم الروحي وصاحب الدعوة وربّ المشروع والراعي للنهضة في بلده وفي خارج بلده، بقدر كبير من التفتّح والوعي والرشد والحكمة والإحساس العميق بالمسؤولية. ذلك أن فتح الله كولن لا يعزل نفسه عن مجرى الحياة لائذًا بذاته يطلب الخلاص لها، ولكنه يعيش عصره، ويمدّ جسوره إلى العالم من حوله، ويحيا مع أهله في الوطن ويشاركهم همومهم وآمالهم وآلامهم، على الرغم من البعد الجغرافي، ويندمج في أحداث العصر ويتفاعل مع قضايا الساعة، ويتابع، ويراقب، ويرصد بعقل راجح التطورات التي تحدث، ويوجّه بمحبة فياضة أنصاره ومحبّيه وتلامذته من كل الفئات والمستويات وفي مختلف المواقع، نحو إعلاء صرح الروح، وتزكية النفس، وإقامة البناء النهضوي، وإنجاز التغيير الذي يحقق التقدم المادي والرقي الاجتماعي والرخاء الاقتصادي للمجتمع. وهذه الصورة للمفكر ولزعيم الحركة ولقائد معركة البناء الحضاري، غير معهودة في المجتمعات العربية، ولذلك يبدو الأمر وكأن ثمة تناقضًا، أو تضاربًا، أو اختلافًا بين الصورة والأصل.
لقد وجّهت سهام الاتهام من الحزب الحاكم في تركيا إلى الأستاذ فتح الله كولن للنيل منه ولم تنقطع حتى الآن، فقيل إنه يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من خلال الموقف الذي اتخذه من القضية التي باتت تعرف بـ”مَاوِي مَرمَرَة”. وفي ردّه على “بي بي سي” قال: “أما إظهار الحركة -حركة خدمة- كأنها موالية لإسرائيل، وكأنها تفضّل إسرائيل على أمّتها، فلا يمكن أن يأتوا بشيء يدلّ على ذلك. ولكنهم يُسندون ادعاءاتهم إلى سفينة “مَاوِي مَرْمَرَة”. فعقب حوار أجري معي سألوني كما تسألون الآن: ما تَقيِيمكم للموضوع؟ قلت: حبّذا لو استُخدمت الدبلوماسيةُ إلى حدّها الأخير ولم يُلْجَأ إلى العنف. لأن ذلك سيؤدّي إلى مشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى. لا أدري كيف رفعت الجريدة كلماتي إلى المانشيت. فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفت إلى جانب آخرين ضد إخواننا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديتُ الملاحظات نفسها. في رأيي ينبغي أن تستخدم الدبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناس إلى الجبهة لتسفك دماؤهم وتزهق أرواحهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذ، وأعتقد أن إلصاق تلك التهمة مرتبط بموقفنا ذاك”.
واتهم كولن من طرف قادة الحزب الحاكم في بلاده أيضًا، ولا يزالون يتهمونه، بأنه ينحاز إلى الإبقاء على الأزمة الكردية ويعارض السعي لإيجاد تسوية لها. ولكنه ردّ على سؤال من “بي بي سي” حول هذه المسألة، فقال: “يمكن التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، لا نرى في ذلك بأسًا، لكن بشرط الحفاظ على مكانة الدولة ووقارها. فقد قالوا عن “عبد الله أُوجَلاَن” قاتل الأطفال، وإرهابي، ثم لما اعتقلته الدولة اعتقلته بوصفه إرهابيًّا. وأتت به إلى تركيا. ومحاكم تلك الأيام حكمت عليه بالسجن. ولم تكن الحكومة الحالية موجودة آنذاك. الحكومة السابقة سجنتْه. نحن لم يكن لدينا تحركات ضدّهم. ولكن هؤلاء يتصرفون ضدّنا، لاسيما في هذه الأيام. والحكومة الحالية في تركيا أعتقد أنها لكي تضمن مستقبلها في المنطقة، تحاول أن تستدرج أبناء المنطقة إلى جانبها، فتظهر تعاطفًا وتعاونًا معهم، وتسعى إلى أن يدفع الفاتورة ما سمّوه “الجماعة” أو “الجامعة” أو “الحركة”. أنا لم أدْل بأيّ تصريح في هذا الأمر، لكنهم أعلنوه إرهابيًّا في وقت ما، والغريب أنهم لجأوا إلى تشويه سُمْعتنا وروّجوا أننا ضدّ عملية السلام. ولكن مقاربتنا لحل المسألة كانت مختلفة، فنحن ارتأينا أن يكون الحلّ من خلال التربية والتعليم وتأسيس روح التوافق والاتفاق والاستثمارات الاقتصادية من أجل إزالة الفقر في المنطقة. وسارت الأنشطة -التي تقوم بها جماعة الخدمة- في ذلك الاتجاه بالفعل”.
كما وجّه إلى كولن الاتهام بأنه هو من حرك إشهار قضية الفساد ضد الحكومة. فقال في ردّه على (بي بي سي): “ليس من الصحيح التسليم بأن جميع من تعرضوا للتصفية، ومن نقلوا إلى مواقع أخرى، هم من “الخدمة”. أحسب أن بين هؤلاء الرجال يساريّين وديمقراطيين ووطنيين وقوميين. وليس بمقدورنا أن نرفع إعلانات للناس نقول لهم فيها “حذار ثم حذار.. إياكم أن تتعاطفوا معنا، إياكم أن تحبّوا خدمتنا وحركتنا”. وكما قلت من قبل، لا أعرف واحدًا في الألف من هؤلاء الذين شتّتوهم في الشرق والغرب. ولا أبالغ في ذلك، لأن الله سيحاسبني على ما أقول”.
ويُتّهم كولن بأن جماعته تعادي العلويّين (النُّصيريين) في تركيا. ولكنه ردّ على سؤال في حواره مع “بي بي سي” حول الموقف الذي تتخذه الجماعة من تلك الطائفة فقال: “أعتقد أنه ليس كلّ العلويين يفكرون كذلك [كان السؤال عن التوجّس السائد في أوساط الطائفة من التعرض لموجة قوية من ذوبان الهوية]. بل يبدي بعضهم تقديره لمبادرة مشروع “المسجد مع دار الجمع” التي أطلقتها “الخدمة”، لا سيما بعض العلويين المعروفين في تركيا، مثل البروفيسور عز الدين دوغان. معرفتنا تعود إلى سنوات عديدة، والتقينا مرارًا. ذهبتُ إلى بيته لزيارته. وهو كذلك جاء لزيارتي. لقد آمنّا بأن هذه المبادرة مهمّة جدًّا لتأسيس الوحدة والتأليف بيننا وبين إخواننا العلويين. فالعلويون في تركيا يحترمون تقاليدنا. كما أن لهم مراسم وطقوسًا خاصة بهم تشبه مراسم “السماع” لدى مولانا جلال الدين الرومي. وينبغي أن لا ننظر إلى هذه الفروق كأنها أسباب للنزاع، بل ينبغي احترامها”.
ويُتهم فتح الله كولن دومًا بأن الجماعة قد اخترقت سلكَيْ الشرطة والقضاء. وحول سؤال من “بي بي سي” عن الأسباب التي تجعل حركة الخدمة تشجع بشكل قوي تلاميذها على ولوج هذين السلكين، أجاب بقوله: “دعونا أولاً نصحح طرح السؤال. إنني أتحدث فقط عن دعوتي الخاصة التي وجّهتها للشعب التركي بشكل عام. لقد اعتقدتُ دائما أن التعليم هو أفضل وسيلة لتنشئة الأفراد وبناء قاعدة صلبة للمجتمع. يبدأ كل مشكل اجتماعي مع الفرد، ويمكن حَـلـه على المدى الطويل على مستوى الفرد. أما الحلول التي تعتمد على المنطق التنظيمي، أو المؤسّساتي، أو السياسي، فمصيرها يكون دائمًا الفشل، خصوصًا إذا أَهملتِ (هذه الحلول) الفردَ. ولذلك كانت دعوتي في الأول والآخر للتعليم. وهذا ما شجّع كثيرًا من الناس الذين اتفقوا مع أفكاري على إنشاء مؤسسات تعليمية مختلفة. فكانت هناك بيوت الطلبة، ومراكز التحضير للامتحانات، ومدارس خاصة، ومراكز دعم مجانية. وقد مكّنت هذه المؤسسات شرائح مجتمعية واسعة من الحصول على تعليم رفيع الجودة، الشيء الذي كان ولحدّ الآن متوفرًا فقط لقلة محظوظة. لقد شجّعتُ الشعبَ التركيَّ على أن يمثل في جميع أوجه مجتمعه وفي مختلف مؤسسات بلده، لأنه من المهم جدًّا أن تَعكِس هذه المؤسسات تنوع المجتمع. لكن اختيار المسار المهني يكون بيد الطلاب وأولياء أمورهم، وقد تؤثر بعضُ العوامل كفرص العمل المتاحة أو فرص الترقي المهني على اختياراتهم. ثم إنني لست متأكدًا من مدى تأثير دعوتي الخاصة للتعليم على اختيارات هؤلاء الطلبة. كما أنه ليس لديّ تقييم دقيق حول الاختيارات المهنية التي اختارها خريجو مدارس “الخدمة”. ولكن على عكس ما قد يَتصوّر البعض، فالملاحظ تاريخيًّا وعمليًّا، أن التخرج من إحدى مدارس الخدمة كان يعتبر سببًا محتملاً للتمييز السلبي للالتحاق بالمجالات التي ذكرتْ (الشرطة والقضاء)..”.
وفي هذين الحوارين مع (بي بي سي) و(وول ستريت)، أجاب الأستاذ فتح الله كولن عن أسئلة كثيرة، فألقى الضوء على الوضع العام في تركيا، وفضح جوانب من الخلل السائد في بلاده، ولكنه لم يمس (غريمه) رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي بكلمة نابية. ولكنه أبان عن أفكار إصلاحية تجديدية وعن إرادة قوية للبناء الحضاري، في إطار التوافق والاتفاق والاحترام المتبادل للمبادئ الديمقراطية التي هي اليوم “قيم كونية” حسب تعبيره في حواره مع صحيفة “وول ستريت”.
هذا المفكر المجدّد داعية الحوار والسلام الذي أصبح اسمه يفرض نفسه في تركيا وفي غيرها، يقف اليوم في ساحة الصراع بين الحق والباطل، يواجه العاصفة برباطة جأش، وجسارة قلب، وصلابة موقف، مما يجعله شخصية جديرة بمراجعة أفكاره وتحليل مواقفه ومتابعة أخباره.