كانت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 حدثا فاصلا ليس فقط في الولايات المتحدة و لكن في العالم أجمع، فبعد عدة ساعات من الأحداث في واشنطن و نيويورك اتهم فجأة المسلمون بالواقعة، و سرعان ما علم الأمريكيون المتسمرون على شاشات التليفزيون و الكمبيوتر أن هؤلاء المسلمين ليسوا فقط مجموعة غير منظمة في الشرق الأوسط بل هم أناس كانوا يعيشون في أحياء أمريكية و يعملون في أماكن عمل أمريكية و يذهبون إلى جامعات أمريكية بل هم موجودون حتى مع أبنائهم في المدارس المتوسطة و الثانوية. و كان الناس في كل أنحاء أمريكا يتساءلون : من هؤلاء الأشخاص؟ و ما الذي يؤمنون به؟ وكيف يمكن لدين أن يبرر تدمير حياة الآلاف من البشر؟ ثم فجأة ركزت وسائل الإعلام و كذلك الناس في جميع الولايات المتحدة على دين كان غريبا على معظمهم.
و في اليوم التالي، الثاني عشر من سبتمبر، نبه الرئيس بوش الأمريكيين، بينما كان يلقي خطابه بعنوان ” الحرب على الإرهاب”، إلى ضرورة معرفة أن ليس كل المسلمين إرهابيين و أن الإسلام دين سلام و لا يقبل بالعنف، و أخذ زمام المبادرة لصياغة أحداث اليوم السابق كأفعال لمجموعات يمينية متطرفة داخل دين سلمي و دعا الأمريكيين ألا يتأثروا من المسلمين بالاعتداء عليهم في مدنهم و أحيائهم.
و منذ الحادي عشر من سبتمبر كان هناك فبض من الاهتمام بالإسلام في الولايات المتحدة و الدليل على ذلك زيادة أعداد الكتب و الصحف و المجلات التي ركزت على الإسلام و توجهت العديد من البرامج التليفزيونية لوصف المعتقدات و الممارسات الإسلامية تكاثرت بصورة مفرطة أعداد الدورات الدراسية في الجامعات عن الإسلام و ديانات العالم في العموم. ونتيجة لذلك أصبح المزيد من الأمريكيين يعرفون الأنماط العديدة و المختلفة للتدين الإسلامي، و حقيقة أن هناك متطرفين في كل ديانة و أنه لا يمكن أن يتعرض أتباع ديانة بأكملها للوم بسبب أفعال أقلية منهم.
إلا أن المفاهيم الخاطئة فيما يتعلق بالإسلام ظلت واسعة الانتشار و ظل هناك ميل لدى العديدين بمساواة المسلمين بالإرهابيين.
• الإسلام المعتدل :
ظهرت العديد من الحركات الإسلامية المعتدلة كرد فعل من قبل المسلمين كرد فعل على الإسلام المتطرف و ذلك في جميع أنحاء العالم و هي لا تقبل العنف و نمت حركة بتلك الأوصاف بشكل سريع في تركيا و انتقلت لدول الاتحاد السوفيتي السابق و أوروبا و استراليا و كندا و إفريقيا و حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية و هي حركة كولن، تلك الحركة المستوحاة من الإمام السابق و العالم الإسلامي فتح الله كولن الذي ولد في تركيا عام 1941 و أصبح إماما وواعظا مشهورا و مدرسا و مؤلفا و شاعرا في السبعينات و الثمانينات و انتقل للعيش في الولايات المتحدة عام 1999.
و نشر كولن بعد يوم من هجمات الحادي عشر من ستمبر صفحة كاملة من تصريحاته في النيويورك تايمز، حيث أدان الهجمات و ذكر أن الجناة لا يمثلون الإسلام. و كانت رسالته تدعو للتسامح و الاحترام و الحوار بين الأديان و أكد على ضرورة إنشاء جسور بين العالم الإسلامي و الغرب. و أصر كولن على ضرورة خلق تقدم تكنولوجي و علمي في العالم الإسلامي بوسائل تعليمية.
و كما يصف ” إبراهيم أبو ربيع” فإن كولن يدعو إلى إسلام يكون فيه المسلمون قادرين على المشاركة في العالم دون تحامل أو خوف.
و بالرغم من دعوة العديد من صانعي السياسية لدعم الإسلام المعتدل كاستراتيجية لمواجهة الجماعات الإسلامية اليمينية، فإن مصطلح الإسلام المعتدل متنازع عليه بين العلماء و صانعي السياسة و بين المسلمين أنفسهم الذين يجادلون أن المصطلح يستخدم للإشارة للمسلمين الأكثر علمانية و أقل إسلامية من الأغلبية التي تتنوع عبر المجتمعات، و يجادل ” ستيفن كوك”، زميل دوغلاس في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي بأن الاعتدال ” في عين الناظر له و أن صناع القرار يجب أن يركزوا على تحديد أولئك الذين يمكن أن يساهموا في وضع حلول عملية في المنطقة سواء كانوا معتدلين أو لا و على نفس المنوال يدعي جاي تلسون أن تعريفات الاعتدال تعكس الالتزامات الأيديولوجية و السياسية لواضعي التعريف بحيث يعتنق المحافظون رؤى أكثر تشددا وضيقا للاعتدال بينما يرى الليبراليون ظلالا أكثر للقبول ، و بينما يحمل المصطلح هذا القدر من إثارة النزاع، فإنني أستخدمه في عنوان الكتاب للإشارة إلى ” جماعة إسلامية تنوي التعايش بسلام مع الناس ذوي الديانات الأخرى و يدعمون الديمقراطية و يقدرون حرية التفكير و السعي نحو التعليم بينما يقرون بالدور الذي تلعبه كل من العقيدة و الدين .. و في ضمن هذه المتغيرات فإن حركة كولن تعد مثالا قويا على الإسلام المعتدل في العالم المعاصر”.
• الاهتمام الإعلامي الحديث بحركة كولن
لاحظت مؤخرا العديد من الصحف المعروفة واسعة الانتشار كولن و العديد من مشاريعه الخدمية مثل المدارس و المستشفيات و بيوت الطلبة و الأعمال الخيرية الغير الربحية التي كان أساسها أفكاره التي طرحها في خطبه و مقالاته و كتبه واسطواناته الرقمية و موقعه الإلكتروني و الزيارات الشخصية مع أتباعه الذين يأتون إلي إلى بيته في بنسلفانيا لقضاء وقت في صحبته ولأخذ النصيحة منه.
و لقد نشرت فوربس أنالتيكا أكسفورد مقال في (2008/1/18) بعنوان ” كولن يلهم المسلمين في العالم” وأشارت فيه أنه صنع في الحركة القدرة على حشد الموارد الضخمة و التأثير على صانعي القرار، و في مايو (4 / 5 / 2008 ) نشرت النيويورك تايمز مقالة افتتاحية عن أن مدارس كولن في باكستان تقدم ” إسلاما ألطف” من خلال عرض رؤية عن الإسلام بأنه ( معتدل و مرن و يتعايش بشكل مريح مع الغرب و ذلك في حين بقائه بعيدا عنه)، وقامت لوموند الفرنسية بعمل تحقيق صحفي حول إنجازات المدارس التي افتتحها أتباع كولن في ألمانيا مشيرة إلى أن تلك المدارس قد تعاملت مع المشكلات التعليمية لأبناء المهاجرين و يمكن أن تحتذي بها المدارس الألمانية.
و كتبت الهيراليد تريبيون الدولية في (2008/1/18) أن كولن كان إلهاما للمسلمين الذين يشعرون بالانتماء للعالم الحديث و نقلت تلك المقال أيضا مجلة فوربس، و نشرت الأيكونمست ثلاث مقالات حديثة عن الحركة. يقوم مقال (302008/1/) يناقش مشكلات الأكراد في تركيا بتعريف السيد كولن بأنه رجل دين مسلم متحرر فرض على نفسه المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية، و يذكر المقال أن أتباع كولن وزعوا اللحوم على نحو 60 ألف عائلة خلال عيد الأضحى، وقام الأطباء من أتباع كولن بعمل فحوصات و علاج مجاني في المناطق الكردية لتقديم رسالة فجوها أن الأكراد و الأتراك إخوة في الإسلام، و في العدد اللاحق من الإيكونمست (2008/3 /6) نشرت مقالتين عن حركة كولن و المشاريع الخدمية التي توفرها على مستوى العالم، فضلا عن ذلك نشر بالمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس ( سويسرا) تقرير بعنوان ” الإسلام و الغرب : التقرير السنوي لحالة الحوار” و أبرز شبكة كولن من 100 مدرسة في دول آسيا الوسطى كمثال على وجود محاولة قوية لإجراء المزيد من الحوار بين الثقافات.
و في أغسطس 2008 طلبت مجلة السياسة الخارجية من القادة للتصويت على أشهر مفكر عالمي وفاز فتح الله كولن بأغلبية ساحقة ربما بسبب ملايين الأصوات من أنصاره الذين قرأوا عن الاستطلاع في “زمان” و هي صحيفة تركية يقرأها العديد من الأشخاص في الحركة، و من المثير للإهتمام أن أشهر عشر مفكرين في القائمة كانوا مسلمين و ذلك ربما لأن نتائج التصويت مع أنصار كولن لم يصوتوا فقط لقائدهم و لكن لمسلمين آخرين في الاستطلاع، و بينما كان هذا الاستطلاع غير علمي في شروط العينة العشوائية للمصوتين فلقد أوضحت النتائج الشبكة القوية التي توحد الملايين من أنصار كولن.
و منذ 2005 أصبح مئات الأمريكيين مطلعين على حركة كولن نتيجة للمشاركة في رحلات الحوار بين الأديان إلى تركيا التي يرعاها مجموعات كولن المحلية تلك التي يرعاها مضيفون ممثلون لكولن في تركيا و نشأت تلك الرحلات في هيوستن و تكساس و انتشرت في أنحاء الولايات المتحدة و يتعرف المشاركون في الرحلات التي تتراوح مدتها من 8 – 10 أيام على المواقع التاريخية و الثقافية و الدينية في تركيا و توفير فرصة للتفاعل مع عائلات مسلمة محلية و العديد منهم أعضاء في حركة كولن . و ليس الغرض من تلك الرحلات بأي شكل من الأشكال التعبئة للحركة، بل هي رحلات يتم تنظيمها للترويج للحوار بين الأديان بين الجماعات الدينية في الولايات المتحدة و تركيا، و بما أن من يقود تلك الرحلات هو أتباع كولن فهم ينظمون العديد من حفلات العشاء في منازل الأتراك المسلمين أعضاء حركة كولن وزيارات للعديد من المدارس و المستشفيات المدعومة من الحركة لذلك فالناس في تلك الرحلات يكونون على دراية تامة بحركة كولن.
نظرا إلى أن الحركة تعتمد على القاعدة الشعبية و لا تتسم ببيروقراطية مركزية لذلك فمن المستحيل تحديد عدد الأشخاص المشاركين و الأعضاء بها على وجه الدقة، و لكن التقديرات تفيد 10 -10% من 70 مليون تركي مرتبط بالحركة و من 8 – 10 مليون عضو في جميع أنحاء العالم و موجودين في 100 دولة في خمس قارات ، و كذلك من المستحيل إحصاء المشاريع العديدة و المتنوعة التي تعمل وفق أفكار كولن و أقامها أعضاء في الحركة، و لكن أفضل التقديرات تفيد أن هناك أكثر من 1000 مدرية موجودة في خمس قارات في 100 دولة حيث يقيم أعضاء الحركة بالإضافة إلى 6 من أفضل للمستشفيات و جامعة خاصة واحدة و مئات من بيوت الطلبة و الدورات التحضيرية لامتحانات الجامعات الوطنية في تركيا و منظمة إغاثة عالمية و منظمات محلية لأعضاء الحركة في جميع أنحاء العالم الذين يمولون رحلات حوار بين الأديان إلى تركيا و إفطارات رمضان و مؤتمر كولن و أحداث الحوار بين الأديان في المناطق الإقليمية و المحلية.
• كولن و حركته كجاذبي صواعق
و بسبب نجاح و ازدهار حركة كولن في تركيا و في جميع أنحاء العالم ظهر منتقدي كولن و حركته الذين يعارضون الحركة بشدة و يخافون من نتائجها على تركيا ، وهم خائفون من أن يحاول كولن أن يستولي سياسيا على تركيا كالذي فعله آية الله الخميني في السبعينات في إيران و غير النظام الذي أطاح بجهود الشاه التحديثية ووضع مكانه حكومة إسلامية محافظة، و يخاف النقاد أيضا من أن تأخذ الحركة تركيا إلى الرجعية التي تضع حدا لمحاولات تركيا في الحداثة و الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، و يعتقد النقاد أن خلف تلك المخاوف يكمن الغرب و خاصة الولايات المتحدة الأمريكية الذين يقومون بتمويل المشروعات الخدمية في الحركة خاصة المدارس و المستشفيات، و توسيع الإمبراطورية الإعلامية لتؤسس لحضور الإسلام المعتدل في الشرق الأوسط كعلاج لإرهاب الإسلام المتطرف، و باختصار أصبح كولن جاذبا للصواعق، مما خلق اضطرابا هائلا ليس فقط في تركيا و لكن في الدول التي هاجر إليها أتباعه.
و في 2007 رفضت هيئة المواطنة و الهجرة منح الإقامة الكاملة المعروفة بالبطاقة الخضراء لكولن الذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ تسع سنوات ورفضت أيضا الاستئناف الذي رفعه لإعادة النظر في الحكم ووجدت المحكمة أن الحجج القائمة على أن كولن ” أكاديمي موهوب بشكل فذ” غير كافية لمنحه الإقامة الدائمة كعالم في الولايات المتحدة. و في حجج المدعي العام أن مصادر تمويل كولن و حركته من المملكة العربية السعودية و إيران و الحكومة التركية و المخابرات العامة الأمريكية و قدر محامو وزارة الخارجية الأمريكية الأموال المتورطة في ذلك 25 مليار دولار، و في 16 يوليو 2008 ألغت المحكمة الفيدرالية القرار الأصلي بناء على نقص الأدلة الكافية، و أمرت وزارة الأمن الداخلي بالموافقة على عريضة كولن للحصول على البطاقة الخضراء، و في أكتوبر منحت البطاقة الخضراء رسميا له من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
و قبل ثماني سنوات تحديدا في الحادي و الثلاثين أغسطس2000 اتهم النائب العام التركي نوح ميتي يوكسل كولن بتنظيم حركة لتغيير الحكومة العلمانية – التي أسسها أتاتورك عام 1932 عندما أصبحت تركيا جمهورية – إلى حكومة دينية، و بعد سنوات من جلسات الاستماع في المحكمة و التحقيقات و تقديم وثائق عديدة للمحكمة، و تحديدا في مايو 2006 رفضت محكمة أمن الدولة القضية ضد كولن وبرأ من أي اتهامات.
و من هو ذلك الرجل الذي حصل على مثل هذا الاهتمام الإعلامي و القضائي و أيضا من أتباعه و ناقديه؟ هل هو غاندي مثلما يقول بعض أتباعه ، أم الخوميني مثلما يخاف ناقوده؟ هل ينبغي أن يعظم و يحتذى به أم يحتقر ويدان كطاغية؟ ما هي حركة كولن التي يتبعها الآن ملايين الأتباع حول العالم و التي تحصد كل هذه الموارد المالية، وتثور الشكوك أن بعض الحكومات وراء الحركة؟ و من أين يأتي المال لبناء وصيانة مئات المدارس في أكثر من 100 دولة وستة من أفضل المستشفيات الخاصة و أكبر صحفية من حيث عدد القراء و أكبر بنك إسلامي في تركيا و منظمة إغاثية تنفق أكثر من 16 مليون دولار سنويا للمساعدة في إغاثة الكوارث؟ و لماذا يمثل رجل تركي واحد يبلغ من العمر70 عاما و يعاني من صحة ضعيفة، و يقيم في الولايات المتحدة، لماذا يمثل جاذب الصواعق بهذا الشكل ولكل هذا القدر من الكراهية اللاذعة و الخوف من جانب المواطنين الأتراك؟ و ما الذي جعل حركة كولن ناجحة منذ أكثر من ثلاثين عاما من وجودها و ما الذي يفسر حقيقة أن الحركة تتوسع حاليا ويزيد عدد المشاركين فيها من الأتراك و غير الأتراك حول العالم؟
و الهدف من هذا الكتاب تقديم فتح الله كولن و الحركة التي ألهمها إلى القارئ بالإنجليزية و الإجابة على التساؤلات المذكورة أعلاه و ذلك بتجميع معلومات خلال رحلات ميدانية إلى تركيا و مقابلات مع أتباع كولن في هيوستن بولاية تكساس، و بناء على محادثاتي مع زملائي و طلابي بالإضافة إلى الجماهير في محاضراتي، اتضح أن كولن و حركته غير معروفين لدى معظم الأمريكيين. غير أن و بينما يركز الاهتمام الإعلام المتزايد على هذه الحركة و يشارك المزيد من الأمريكيين في رحلات حوار الأديان إلى تركيا و فعاليات التي يرعاها أنصار كولن فإن هناك اهتماما متزايدا بهذه الحركة التركية الإسلامية المعتدلة الآخذة في الازدهار.
• الأطر النظرية:
و هناك إطاران نظريان يعينان على تفسير أسباب نجاح حركة كولن في كل من تركيا و العالم، أولا : نظرية تعبئة الموارد و تلقي الضوء على الموارد البشرية و المالية التي تمكن حركة ما من أن تنمو و تحقق أهدافها، ثانيا : نظرية الالتزام التنظيمي التي تركز على الاستراتيجيات الحركية لحث الأعضاء على الالتزام بتوفير الموارد الضرورية، و نتائج مثل هذا الالتزام لبناء الولاء للحركة و بالتالي للتأكيد على حيويتها و نموها.
نظرية تعبئة الموارد
تعبئة الموارد هي نظرية اجتماعية تركز على الاهتمام بأنواع الموارد الضرورية اللازمة لاستمرار و نمو الحركات الاجتماعية. و تركز النظرية القديمة على الجانب النفسي الاجتماعي للمشاركين في الحركة الذين يعدون ساخطين على جانب أو أكثر في المجتمع، و تنظر نظرية تعبئة الموارد، و التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، إلى الحركات الاجتماعية باعتبارها شبكات من الأشخاص القادرين على جذب أنواع و كميات من التمويل و الجهد البشري لتحدث تغييرا في المجتمع، و طبقا لنظريات تعبئة الموارد فهناك دائما استياء في أي مجتمع يكفي لتوفير دعم للحركة على مستوى القاعدة الشعبية، و لتركيز و تنظيم الاستياء في صورة حركة اجتماعية فمن الضروري لمجموعة أساسية من الاستراتيجيين المتمرسين العمل على تنظيم أنفسهم لاستغلال هؤلاء الأشخاص الساخطين و تحفيزهم على جذب الأموال و الأنصار و جذب الاهتمام الإعلامي و التحالف مع من في السلطة و عمل هيكل تنظيمي.
و تفترض هذه النظرية أنه و بدون تلك الموارد لن يكون للحركة الاجتماعية تأثير، و أن المعارضة و السخط وحدهما لا يكفيان لخلق التغيير الاجتماعي من خلال الحركة الاجتماعية، و لو أن المصادر المالية والبشرية لم تتوفر لدعم أهداف الحركة فإنها في نهاية المطاف سوف تنهار أو تندمج مع حركة أخرى أكثر نجاحا في توفير المصادر، و لذلك فنظرية تعبئة الموارد تتعامل بصفة خاصة مع ديناميات و تكتيكات نمو الحركات الاجتماعية و انحدارها و تغيرها.
تتفق معظم نظريات تعبئة الموارد على أن الموارد الآتية ضرورية لنجاح الحركة الاجتماعية : و القوة العاملة، فإن توفر تدفق كاف و مستمر من المال يجعل من الممكن دفع الرواتب ودعم العاملين بالحركة و توفير المكاتب و الحواسب الآلية و ماكينات الطباعة …إلخ، و التي هي ضرورية لتظهر و تعلن رسالة و أهداف الحركة، و تنشر الإعلانات و اللوحات و المواقع الإلكترونية و غيرها من وسائل الإعلام و ذلك لتعبئة المشاركين المحتملين و تمويل المشاريع و الفعاليات التي ترعاها الحركة.
و سوف تستخدم نظرية تعبئة الموارد في الفصل الرابع خاصة، و عنوانه ( شبكة الحلقات المحلية) و الفصل السادس بعنوان ( إمداد الطاحونة بالماء : تمويل مشروعات كولن الخدمية) لتأطير و تحليل الآليات التي يتم من خلالها جمع الموارد اللازمة لنمو و نجاح الحركة.
نظرية الالتزام التنظيمي
ارتباطا بمسألة الحصول على الموارد التي تحتاجها الحركة لتنجح يطرح سؤال حول تشجيع الأعضاء على المشاركة، فلماذا يلتزم ملايين الناس اتجاه الحركة من حيث إعطاء الوقت و الجهد و المشاركة المعنوية و المالية لتحقيق أهداف الحركة؟ فالالتزام يتضمن ربط مصير الفرد بنجاح أو فشل الجماعة، و عادة ما يتم فحص هذا من حيث المزج بين الخصائص الشخصية و التنظيمية التي تزيد الرغبة في بذل مستويات عالية من الجهد ليبقى الفرد عضوا في المنظمة لقبول أهدافها و قيمها الرئيسية و تقدير المنظمة على أنها تستحق الجهد.
و يظل بحث عالمة الاجتماع “روزابيث” في أواخر الستينات و بداية السبعينات حول الالتزام داخل مجتمعات الولايات المتحدة بيانا هاما حول الديناميكيات التنظيمية التي تولد التزام الأعضاء، و هي كانت مهتمة بكيفية حفاظ المجموعات على تماسكها وركزت عل المتطلبات التنظيمية التي تؤثر على الأفراد لكي يشعروا أن مصلحتهم الذاتية لا يمكن أن تتميز عن المجموعة، أي شعورهم بالالتزام، و قالت إن الشخص الملتزم بعلاقة أو جماعة يراها تعبيرا عن نفسه أو أنها تكمل بعض الأجزاء الأساسية فيه، بحيث تكون أهداف الجماعة كتغذية لإحساسه بنفسه.
والشخص الملتزم و في و معني ولديه إحساس بالانتماء و الشعور أن الجماعة امتداد له و أنه امتداد للجماعة.
و باختصار توفر نظريتا تعبئة الموارد و الالتزام التنظيمي عدسة يمكن من خلالها مشاهدة حركة كولن و شرح لماذا هي مزدهرة، و توفر تلك الأدوات النظرية مع تحليل السياق التاريخي و السياسي التي تأثرت بهما حركة كولن في تركيا فضلا على فهم المفاهيم التركية الإسلامية في العطاء و حسن الضيافة، توفر نظرة داخلية بالمعتقدات و القيم و الديناميكيات الاجتماعية التي تدفع بالحركة للشهرة القومية و العالمية.
• الأسئلة البحثية
و بناء على نظريتي تعبئة الموارد و الالتزام التنظيمي التي تم شرحها أعلاه هناك ثلاثة أسئلة رئيسية توجه البحث المذكور في هذا الكتاب :
1- من وجهة نظر سوسيولوجية : ماهي آليات الالتزام التنظيمي التي تشرح لماذا أثارت حركة فتح الله كولن حماسة ملايين الأتراك داخل بلدهم بالإضافة إلى البلاد التي هاجروا إليها؟
2- بأي الطرق تشارك الديناميكيات المالية في تمويل المشاريع الخدمية للترويج للمشاركة و الحماسة و الالتزام عند أتباع الحركة؟ و كيف يتم تحفيز الأنصار للتبرع؟
3- ما هي الاتفاقات المالية المتعلقة بالمؤسسات المرتبطة بحركة كولن و بأي الطرق يتحمس الأتباع لتمويل المشروعات المستوحاة من كولن؟
تصميم البحث الذي ولد المعلومات المذكورة في هذا الكتاب نتجت من خلال الأسئلة البحثية المذكورة أعلاه، و لقد قررت زيارة المؤسسات المستوحاة من كولن و مقابلة كل من الإداريين و موظفي تلك المؤسسات بالإضافة إلى ذلك فقد قابلت مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين يدعمون الحركة ماليا و بعملهم التطوعي، و حيث أن التحفيز للخدمة يبدأ داخل الحلقات المحلية التي تتميز بها الحركة، فقد ركزت بشكل خاص على تلك المجموعات.
كما أنه من المهم تحديد ما الذي لا يتضمنه تصميم البحث كتأكيد على ما هو مدرج، هذه هي الحالة نظرا للموضوع الأيد ولوجي الذي يركز عليه الكتاب بشكل كبير، فهناك العديد من النقاد للحركة في كل من تركيا و الأتراك المهاجرين. وبينما تحدثت مع بعض هؤلاء النقاد فلم أدر المقابلات بناء على عينة عشوائية أو ممثلة في المقابلات. و حيث أن المنظور النقدي ليس جزءا من الهدف الأصلي للبحث فهذا الكتاب لم يقيم الحركة من وجهات نظر مختلفة، و علاوة على ذلك لم أقدم التقييم الناقد للدور التاريخي و السياسي لحركة كولن ف المجتمع التركي، و بالأحرى فمعلوماتي مقيدة بالأسئلة البحثية الثلاثة المذكورة أعلاه، و قد تمت الإجابة عليها من خلال مقابلاتي مع أنصار الحركة.
و هذا الكتاب تحليل سوسيولوجي لحركة كولن مبني على التدريب الذي حصلت عليه كعالمة اجتماع، و بينما يعرض الفصل الثاني ” الإسلام والدولة في التاريخ التركي” موجزا لتاريخ العلاقة بين الإسلام و الدولة طوال التاريخ التركي لم يكن الهدف عملا تاريخيا و لكنه تعريف للقراء الغربيين بالمعالم المهمة للتاريخ التركي لتوفير السياق لتطور حركة كولن مع التركيز على العلاقة بين الدين و الدولة. و يعرض الفصل الخامس ” ثقافة العطاء التركية الإسلامية” تعريفا موسعا يهيئ القارئ الغربي للإطار العام للمفاهيم التاريخية و الدينية التي توفر خلفية لتمويل المشروعات الخدمية لحركة كولن و تبين أن كولن يلجأ إلى سمات تلك الثقافة لتحفيز أتباعه للمشاركة في خدمة المحتاجين.
• مصادر البيانات في هذا الكتاب:
خلال الثلاث سنوات الماضية قضيت ثماني أسابيع في تركيا من خلال أربع زيارات مختلفة و كل واحدة استمرت أسبوعين. ووفرت تلك الزيارات فرصة للتعامل مع كل من ثقافة البلد و الثقافة الفرعية لحركة كولن.
و خلال تلك الزيارات استطعت زيارة ما يقرب من ثمان مدارس مستوحاة من كولن في اسطنبول و أنطاليا و أزمير و بورصا و أنقرة و قونيا و أورفا، و أيضا قابلت أطباء و إداريين في أربع مستشفيات مستوحاة من كولن في تلك المدن بالإضافة إلى زياراتي لأعمال تجارية مرتبطة بالحركة مثل مؤسسة الصحفيين و الكتاب و تليفزيون المجرة و صحفية زمان ووكالة إغاثة ( هل هناك من أحد) و كانت الزيارتان الأوليان جزءا من رحلات حوار بين الأديان قمت بها مع اثني عشر شخصا من الولايات المتحدة،و تمت استضافتنا للطعام و الحوار في ما يقرب من عشر بيوت تركية مسلمة مرتبطة بالحركة. و لقد وفرت تلك الزيارتان السياق العام و الألفة مع المنظمات الحركية و مع أناس في الحركة تحسبا لزيارتي الثالثة التي ركزت فيها على البحث بوضوح و على المقابلات الشخصية.
و في أبريل 2008 قضيت أسبوعين في إسطنبول وبورصا و مودانيا لأجري مقابلات رسمية مع الإدارة العليا في المؤسسات المرتبطة بكولن بهدف توثيق التاريخ التمويلي و هيكل المنظمة، وركزت على كيفية البدء في المنظمة أو المشروع الخدمي و التكاليف المرتبطة بالمشروع الأصلي و مصادر التمويل، و التاريخ التمويلي للمحافظة على المشروع مع مرور الوقت و الوضع المالي الحالي بما يتضمن النفقات و مصادر الدخل، و كنت فضولية بشكل خاص بشأن الدعم الحكومي للمشروعات ليس فقط بالمال و لكن بالأرض، و المباني، و التسهيلات الضريبية، و تضمنت مقابلاتي المؤسسات و المشاريع المرتبطة بكولن مثل :
1- بنك آسيا.
2- محطة المجرة التليفزيونية ( سمنيولو).
3- صحيفة زمان.
4- مؤسسة الصحفيين و الكتاب.
5- جامعة الفاتح.
6- المستشفيات : مستشفى سما باسطنبول و مستشفى بكر ببورصا.
7- ثلاث مدارس مستوحاة من فكر كولن.
8- وكالة الإغاثة ” كمسي يوك مو”.
ولقد سجلت كل المقابلات بإذن من الأشخاص المعنيين و كتبت في وقت لاحق لتسهيل التحليل.
و بالإضافة إلى ذلك أجريت مقابلات مع قطاع عريض من المشاركين في الحركة و كانت بعض تلك المقابلات وجها لوجه مع أشخاص يساهمون بالمال و الوقت في المشروعات الخدمية و البعض الآخر مع مجموعات حلقات محلية مختلفة لأعضاء الحركة، و قابلت مجموعتين من رجال الأعمال من أكبر الداعمين لمشروعات الحركة واحدة في اسطنبول و الأخرى في بورصا و كل رجل أعمال مشارك في هذه المجموعات يتبرع على الأقل بمليون دولار سنويا للمشروعات الخدمية. و أجريت مقابلات مع مجموعات من حلقات الأطباء و مهندسين محليين بالإضافة إلى مجموعتين من العمال ذوي الياقات الزرقاء ، ووفرت تلك المقابلات نظرة داخلية على كمية الأموال التي ساهم بها الأفراد في المجموعات المهنية المختلفة بالإضافة إلى الأسباب المحفزة على العطاء و المكافآت المرتبطة بالمشاركة في الحركة.
وفي مارس 2009 عدت إلى تركيا مع مجموعة من العلماء الاجتماعيين المتخصصين في الدين من الولايات المتحدة الأمريكية و كندا. و كانت تلك أول رحلة لهم لتعريفهم بحركة كولن و تركيا، وزرنا المدارس و المستشفيات المستوحاة من كولن و المنظمة الإغاثية، فضلا عن تشاركنا وجبات في ثلاث بيوت مختلفة لمسلمين، مما ولد العديد من الملاحظات و النقاشات حول الحركة و كان من المفيد لي سماع تعليقات و تأملات زملائي من علماء الاجتماع عن الجوانب المختلفة للحركة و لقد اطمأننت أن ملاحظاتي و استنتاجاتي السابقة في مجملها مدعومة بتحليل زملائي المهنيين.
فما هو سبب استحواذ حركة كولن على الالتزام و الحماس من ملايين الأتراك داخل بلدهم أو في الدول التي هاجروا إليها؟ و أيضا لماذا جذبت الحركة غير الأتراك في المناطق التي هاجر إليها الأتراك حيث يعملون أو يدرسون؟ وسواء قيست من حيث أعداد الأعضاء و الامتداد العالمي أو التزام الأعضاء، فإن حركة كولن مزدهرة، فما هو تفسير هذا النجاح؟ فمن جانب يركز هذا الكتاب على الإجابة على تلك الأسئلة، و يعرض الفصل الثاني ” الإسلام و الدولة في التاريخ التركي” نظرة عامة على التاريخ في تركيا منذ أواخر الإمبراطورية العثمانية إلى الحاضر من منظور العلاقات بن الدين و الدولة. و تلك الخلفية التاريخية السياسية ضرورية لفهم السياق المجتمعي الذي تربي فيه كولن وطور أفكاره التي طرحها في خطبه و كتاباته، و في الفصل الثالث ” فتح الله كولن : حياته و معتقداته و الحركة التي ألهمها” أقدم للقارئ فتح الله كولن بوصف قصة حياته و التأثيرات الفكرية و الروحانية التي وقعت عليه، و المعتقدات و القيم التي تبناها و تطور الحركة التي ألهمها، و في الفصل الثالث و الرابع و الخامس استخدمت عدسة نظرية الحركة الاجتماعية و بخاصة من وجهة نظر نظرية تعبئة الموارد و نظرية الالتزام التنظيمي لوصف العديد من المشاريع الخدمية التي هي ف قلب الحركة، فالفصل الرابع ” شبكة الحلقات المحلية” و الفصل الخامس ” ثقافة العطاء الإسلامية التركية” يركزان على المفاهيم الثقافية و الدينية القابعة في عمق المجتمع التركي التي توفر التحفيز و الإلهام وراء الأعمال الخيرية لحركة كولن، و يدعم تلك المشروعات الخدمية الضخمة العمل التطوعي و المساهمات المالية من ملايين الأعضاء في جميع أنحاء العالم بما يشمل كلا من رجال الأعمال الأغنياء الذين يترعون بجزء كبير من ثرواتهم للحركة، و العاملين بأجور صغيرة الذين يقدمون تضحيات كبيرة بالتبرع بدولارات قليلة كل شهر للمساعدة في المشاريع الخدمية، و الفصل السادس ” تمويل مشروعات كولن الخدمية” يحلل الدعم المالي خلف الحركة و نتائج العطاء للأعضاء الملتزمين، و أخيرا في الفصل الأخير ( الملخص) أعود إلى الأسئلة البحثية الثلاث التي طرحتها في المقدمة، و ألخص النتائج الرئيسية في الكتاب التي تجيب على هذه الأسئلة.