هيأت عقود الجهاد والتزكية الصيت الروحي الذائع لـ”محمد فتح الله كولن”، والمكانة الاعتبارية الراسخة بين أوساط المجتمع التركي. فلقد تحول إلى “رمز” بفضل صبره وديناميته وثباته على الطريق، وتكيفه الموفق مع الوقائع، وقدرته على التعامل معها بالحكمة التي مكّنته من النجاة وتحقيق الفاعلية. كما أضحى واجهة حراكية بارزة، ومفاعلاً معنويًّا راسخًا، يؤثر في الأوضاع الاجتماعية ويساهم في توجيهها بفضل رصيده من الإكبار، ومن وجاهة انتزعها بالكدح ومداومة التزكية.

أضحى “كولن” يمثل ظاهرة إصلاحية تسجّل الفتوح باستمرار، وتكسب الأشواط باطراد، وتستقطب الأتباع المتطوعين على الدوام.

كولن.. رقم اعتباري علي خريطة الوطن

أتاحت عقود التمحيص والاحتساب لكولن أن يضحى “قمرًا منيرًا” في سماء تركيا، و”رقمًا اعتباريًّا” على خريطة الوطن.. وما لبث أن تفتّحت له أبواب الدواوين والمؤسسات، وتهيأت له طرق التواصل مع النخبة من رؤساء أحزاب ورموز سياسية متنوعة، ظلّوا يديرون سياسة تركيا ويتداولونها عقودًا متتالية. وصار محاورًا مع القوى التي ظلّت تحاربه وتناهض توجهه الإيماني، وتمكَّن من أن ينشئ مناخ حوار وطني لم تشهده تركيا المعاصرة، وترتب عن ذلك الحوار المثمر، والتواصل المرشَّد، إنشاءُ مؤسسات ثقافية وفكرية عمومية مفتوحة لكل المشارب. وغدا “كولن” يشارك ـ بطريقة أو أخرى في صميم الأداء السياسي لبلاده، رغم إمساكه عن الخوض فيه بصيغته الحزبية السفسطائية المعروفة.

بلغ “كولن” ذلك المستوى من النفاذ والمقامية، بسبب سيرتُه الإيمانية المفعمة بالإصرار، ونهجُه الروحي والبيداغوجي الميمون، وكارزميتُه الصميميّة التي لا مراء فيها.

الصلة بين الداعية الروحي والجماهير

العَلمُ أو الأيقون، حين يستوي اسمًا استقطابيًّا مكينًا، ومرجعية راسخة، يكتسب من الخصوصيات الروحية والاعتبارية ما يجعل منه قوة مؤثرة في المجتمع والجماهير عبر العلاقة السحرية الاستثنائية التي تنشأ بين القطب والفئات. فبأدنى الإيماءات تتحرك الكتل إلى الفعل، وتتنافس وتتفنن في التنفيذ.. وتتحول شخصية القطب في وجدان الناس إلى ماهية عليائية طافحة بالأسرار والمعاني والإيعازات الروحانية.

لقد أرسى كولن منظومة قطاعات نهضوية حيوية متكاملة، شملت حقول التربية والإعلام والاستثمار والخدمات وحتى ميدان البحث العلمي.

إن التفوق الذي يبلغه رجال الدعوة (رجال الله) في ذلك السبيل الشاق من التزكية والشفوف، وطفقنا نقرأه في سيرهم خوارقَ وكراماتٍ، إنما تترجمه هذه العلاقة الإشعاعية التي تصل بين الداعية الروحاني وبين الجماهير. إن الأوساط لا تفتأ تقرأ في سيرته العامرة بالبر والمحامد، المعاني اللدّنية (أي القرب من الله)، الأمر الذي يجعل القلوب تتشرع لمحبته (الداعية)، بل والتناهي في تلك المحبة، فيشتحنون نتيجة لذلك بالقوة، ويستمدون منه، بالتأثر، وبما ينشأ لديهم من قابلية، مدود العزم والنفاذ، وينعكس ذلك على كثير مما يفعلون وينْجزون، وهو ما يجعل معنى البركة والتوفيق يظهر عيانا للناس عن ذلك السبيل.

هيأ كولن مجالا للتفتح الخارجي ومد دينامية الدعوة والخدمة إلى كافة القارات، بما في ذلك تخصيص منح للطلاب الأجانب، سواء من الدول الإسلامية أم من غيرها.

هيأ كولن مجالا للتفتح الخارجي ومد دينامية الدعوة والخدمة إلى كافة القارات، بما في ذلك تخصيص منح للطلاب الأجانب، سواء من الدول الإسلامية أم من غيرها. ويدخل ذلك التوجه في إطار برامج الدعوة وفلسفة التبليغ كما يرسم لها الأستاذ كولن في مرحلة الانفتاح والعولمة.

يري “كولن” أن الانحطاط الشنيع الذي آلت إليه الأمّة كانت علّته انحرافها عن الجادة، وإخلالها بحقوق الله، إذ بمراعاة حقوق الله تـُكفل حقوق العباد، وتستمر شروط جدارتهم بالتكريمية وطيدة.

رؤية كولن لأسباب التردّي الحضاري

أبرز ما تظهر عليه أحوال التردّي الحضاري هي الوصمة الانهزامية الوخيمة التي مني بها المسلم، فأضحى مستكينا، مهين النفسية، عرضة للعسف الأممي، بلا شخصية ولا توق، محصورا في رقعته، مكبل الإرادة، محتلاًّ في موطنه مستسلما للحطة، تطبق عليه حال الغباء حتى لا يكاد يستشعر واقع الكارثة التي يحياها، وإنها لأوضاع تقتضي التعديل والتجاوز. ومن هنا رأت “إحيائية كولن” لزوم استهداف الكيان الداخلي للمسلم، وإعادة بنائه من جديد، على الأسس الأصلية ذاتها التي أنجز بها الأماجد المحمّديون ماضينا الحافل بالعظائم.

————————

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ101-104.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.