مهداة إلى أولئك الفتيان الشجعان، الآتين من كل مكان، إلى أرض “داغستان”، ليقيموا فيها معاهد العلم والعرفان، ويُعلوا منارات الهدى والإيمان.
لو أصغيتم بآذان أرواحكم في سجوّ الليالي وفي هدوات الأسحار، لسمعتم هتاف أربعين صحابيا يرقدون فوق روابي هذه المدينة وهم ينادونكم قائلين:
انتظَرناكم طويلا.. سألنا عنكم الغادين والرائحين من ملائكة السماء: أين فِتيان الإيمان، متى يقدم حمَلة القرآن؟ الشوق إليكم أضنانا.. والحنين للقياكم عذبنا .. وها أنتم اليوم هنا.. فلأرواحنا أن تسعد، ولوَحشتنا أن تأنس، ولغربتنا أن تتأسى بكم في هذا القفر الموحش المجدب من صحاب الإيمان، والممحل من أشقاء الروح والوجدان.
لا نقول لكم أحرقوا كل شيء يغريكم بالعودة من حيث أتيتم كما فعل طارق بن زياد من قبل، ولكنا نقول: أحرقوا وجودكم كله، وأشعلوا النار في أرواحكم، ثم انثروا حبات هذا الوجود المحترق فوق هذه الأرض، فلا تغادروها – إذا غادرتموها- إلا لتعودوا إليها، لأنها صارت جزءً من وجودكم وقطعة عزيزة من كيانكم.
تتساءلون ما هذه النار التي آنستم وجودها في هذا المكان من بعيد، والتي جذبتكم للمجيء إلى هنا. ونحن نقول لكم: إنها قبس من نور عظيم كنا قد حملناه في أفئدتنا إلى هذه الأرض، ولكنها اليوم ذبالة مرتعشة وجلة توشك على الانطفاء إلى الأبد. وإننا لنناشدكم -يا أبناءنا البررة- ألا تدعوا هذه الذبالة تخفت وتنطفئ. انفخوا فيها من أرواحكم، ألقموها قلوبكم، وأطعموها عقولكم لتعود تتأجج من جديد وتنير لهذا الشعب مصابيح الهدى والإيمان.
جئتم إلى هنا مدفوعين بقوة قدرية لا تقاوم، فأنتم مبعوثو القدر وسفراؤه إلى هذه البلاد؛ لقد اجتزتم بوّابة آسيا الكبرى، وفتحتم الطريق لمواكب الإيمان من بعدكم، ولعل حدس أستاذكم النورسي بنهوض آسيا على صوت الإسلام من جديد يوشك أن يصدق. فأنتم هنا هذا الصوت العظيم الذي سيتردد صداه قريبا في عمق أعماق آسيا… فاهتفوا ولا تنوا عن الهتاف ورجّوا الأرض بهتافكم، وهزوا الأبواب الموصدة في وجوهكم، فمن أدام الطرق فُتح له ولو بعد حين.
لا تقولوا ما نحن؟ ومن نحن؟ وأنّى لنا أن نعيد لكلمة التوحيد وهجها فوق هذه الأرض؟ وأنّى لنا أن نعمر أرضا خرابا عملت فيها معاول الهدم والتخريب خمسة وسبعين عاما؟ وكيف لنا أن نبذر بذرة الإيمان في أرض قاحلة جرداء؟ وبماذا نشق الأرض ولا رفش ولا محراث؟ ونحن نقول لكم: إنْ عزّ المحراث فلتكن أظافركم هي المحراث الذي به تحرثون، وإن عز الرفش فلتكن أسنانكم هي الرفش الذي به تحفرون؛ ولأن صوت الحياة القرآنية هي التي تتكلم في دواخلكم، فسوف تصغي إليها حبات التراب وجلاميد الصخور، بل ستصغي إليها الأرض والسماء، وكل الكائنات ستأتيكم طائعة منقادة. ها هي فرصتكم -يا أبناءنا- كي تعلّموا البشرية كيف يمكن للإيمان والإخلاص أن يأتي بالمعجزات، وتعلّموا العالم أن وجودكم هنا هو الدليل الأقوى على عالمية الإسلام وعمومية القرآن.
لا تستمعوا إلى أولئك المثبطين والمعوقين الثرثارين، وهم يتخافتون متهامسين: أيّ خيال ضبابي يتشبث به هؤلاء؟! وأيّ حلم وردي يُغرقون أنفسهم فيه؟! وأية آمال بعيدة المنال يركضون وراءها؟!
ونحن نقول لكم -يا أبناءنا- ليس الخيال هو ما نخافه عليكم، وإنما نخاف عليكم افتقاركم إلى الخيال.. فما أكثر ما بعثه الخيال من الهمم، وحفز من الأذهان، ودل وأشار إلى خفايا من الحقائق ما زال العقل يدين بها إليه. وجودنا هنا، بل وجودكم أنتم كان حلما من الأحلام، وهو اليوم حقيقة من الحقائق. وما هو خيال اليوم يكاد يكون حقيقة غدا، والأمة التي يعقم خيالها يعقم ذهنها ويتبلد وجدانها.
أحبّوا “داغستان” بكل حبة من قلوبكم، وليكن همكم بها فوق كل همّ، ومحبتها فوق كل محبة. فإذا أحببتموها سهُل عليكم ما تلقونه في سبيلها من متاعب ومشقات، وسهلت عليكم التضحيات.
يقال إن البلبل إذا تعشق وردة وأراد أن يغنّيها حبّه غرز شوكتها في صدره وشرع يغني لها أشجى ألحانه وأعذبها. وأنتم كذلك -يا أبناءنا الأعزاء- دعوا
بلابل الإيمان في صدوركم تغني “داغستان” أعذب الألحان رغم ما يوخز صدوركم من أشواكها. فهي وردتكم ووردة آسيا الوسطى التي يهون كل شيء من أجل أن تسمع عنكم وتصغي لكم، وهي ماسة »القفقاس« المتلألئة في تاج جمالها، لكنها تتأبّى عمن يرومها إلا المحبين الذين يشفع لهم عندها إخلاصهم في حبها وهداياهم إليها، وهل من هدية هي أثمن من الإيمان الذي تقدمونه إليها وتُحْبُونها به..؟

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts