ما الإضافة التي يقدمها مشروع الخدمة فكريًّا وعمليًّا؟
كيف قدمت مدرسة الخدمة حلولا عملية للمشاكل الكبرى التي تعاني منها الأمة؟ عندما يعود الإنسان إلى ذاته، ويسأل إلى أين نتجه؟ البعض يوجههم إلى ساحات الموت، فالجهاد يتحول إلى عملية قتل وموت، لكن عندما تسأل هذا السؤال للأستاذ أو مدرسة الأستاذ ما الجواب الذي يأتيك؟ تأثير الكلمة ليس سهلاً، كيف استطاعت كلمات الأستاذ أن تحول الأفكار إلى مشاريع؟ هناك تساؤل حول منهج الأستاذ كولن في التحرك؟ لماذا لم يؤسس حزبا؟ لماذا لم يؤسس طريقة صوفية؟ ما تصور الأستاذ في الإصلاح على النحو الذي يسير عليه الآن؟
الدولة أم المجتمع؟ هل المجتمع المدني هذا بديل للدولة؟ خطر على الدولة؟ ما المقاربة التي يقدمها الأستاذ في هذا الصدد؟ إنسان الخدمة ما هي أهم سماته؟ مشروع الخدمة والأستاذ، كيف نصفهما بجمل قصيرة؟
كل هذه الأسئلة وغيرها طرحها الأستاذ نوزاد صواش على أستاذين أكاديميين بارزين في هذا الحوار.
نوزاد صواش: الأمة تعاني اليوم من مشاكل كبيرة، مشاكل اليوم سببُها مشاكل لم تحل البارحة. وإذا لم نحلها اليوم، فستبقى مشاكل الغد. وستحاسبنا أجيال الغد قائلة: “لماذا لم تحلوا هذه المشاكل؟ لماذا صدرتم لنا مشاكلكم ولم تحلُّوها؟ حضراتكم تتابعون حركات الإصلاح الموجودة في العالم العربي والإسلامي وتدرسونها، فأنتم خبراء في هذا الميدان. في العقود الأخيرة برز اسم الأستاذ فتح الله كولن ومشروع الخدمة على الساحة، ليس محليًا فحسب، بل في العالم أجمع. تجربة “الخدمة” التي نشاهد تجلياتها الميدانية في مواقع عديدة من العالم تبدو خارج المألوف وملهمة بما تطرحه من أفكار ومشاريع. برأيكم ما الإضافة التي يقدمها هذا المشروع فكريًّا وعمليًّا؟
سمير بودينار: يمكننا أن نقول إن الرؤية الفكرية والمشروع العملي الذي قدمه -ولا زال يقدمه- الأستاذ فتح الله كولن سواء من خلال تراثه الفكري المكتوب أو نموذجه العملي الممارَس اليوم على امتداد أقطار كثيرة من العالم مشروع مهم غاية الأهمية في اتجاهين أساسيين على الأقل.
أولهما: أننا اليوم نعيش مشكلات معقدة للغاية، معقدة على مستوى تراكمها التاريخي، لأن بعضها يأخذ برقاب بعض، ولأن بعضها يفضي إلى البعض الآخر. وهي مشكلات معقدة في نفسها، لأنها تحيل إلى مداخل متعددة الجوانب، وهي مركبة مع غيرها. فهي تحتاج إلى مقاربة فكرية مركبة، إذ لم تعد الأجوبة البسيطة أو التبسيطية أو المتسرعة أو العاطفية أو المباشرة تُسعِف في الإجابة على الأسئلة المركبة التي نعيشها اليوم. هذه المشكلات تحتاج إلى مشروع فكري متكامل على امتداد رقعة الفكر ومساحات الفعل الإنساني، وملكات الإنسان وشروطه الاجتماعية وآفاقه الإنسانية والحضارية إلى غير ذلك. فالبعد الأول من أبعاد أهمية المشروع الفكري للأستاذ فتح الله كولن أنه يقدم مشروعًا فكريًا مركبًا يتعامل مع مشكلات معيّنة وقضايا محددة، يقدم رؤية حضارية واسعة.
ربما لا توجد تجربة كتجربة الخدمة مفتحة أبوابها للجميع، يأتيها زوار من كل أنحاء العالم، من كل الثقافات.والأديان، تفتح لهم أبواب مؤسساتها على مصاريعها.. تعالوا انظروا اسألوا، قيّموا.
نوزاد صواش: هل تعتقد أن هناك وعيًا بطبيعة الإشكال الذي نعيشه وإجابة تناسب هذا الإشكال؟
سمير بودينار: نعم، هنا تكمن أهمية رؤية الأستاذ كولن، لأنها عبارة عن جواب مركب لسؤال أو أسئلة معقدة. فأنت عندما ترى بعض ملامح المشروع الفكري في العمق الحضاري مثلاً للمسلمين في العودة إلى إحياء ذاكرتهم التاريخية، والعودة بهم إلى أصولهم في محاولة توصيل أفق الرؤية إلى العالم من حولهم، تدرك أن المشروع ليس مشروعًا بسيطًا لأن الرؤية مركبة تركيبًا يسعف في الجواب على أسئلة مركبة على مشكلة معقدة، هذا الأمر الأول.
القضية الثانية، أن المشكلات التي تدهمنا اليوم جميعًا في أخص خصائصنا اليومية، في تركيبات واقعنا الاجتماعي، في أزماتنا الفكرية، في مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي منظومات القيم الحاكمة لهذه المجتمعات كلها تؤكد أننا في أمس الحاجة ليس فقط إلى نموذج نظري فعَّال ولكن إلى نموذج عملي ناجح. المسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى تحويل مقولتهم النظرية المتقدمة بالفعل إلى نموذج حي، في أمس الحاجة إلى الانتقال من مستوى الفكرة في الجواب إلى مستوى الممارسة العملية، إلى من يعطيهم نموذجًا حيًّا وقابلاً للحياة وقادرًا في ذات الوقت على الإجابة على أسئلتهم الملحة في الواقع. وأعتقد أن هذا هو البعد الثاني من أبعاد الفاعلية أو الأهمية في المشروع الذي يقدمه الأستاذ محمد فتح الله كولن، وهو نموذج عملي ناجح من خلال مشروعات وبرامج الخدمة المنتشرة اليوم في عدد كبير من أقطار العالم.
لهذا السبب فإنه من المهم أن نضع مشروع الأستاذ محمد فتح الله كولن في سياقه المناسب، في إطار رصد حركة الإصلاح في عالم المسلمين، باعتباره خطوة متقدمة ضمن هذا السياق الإصلاحي الغني. إنه نتيجة استيعاب لتراكم حصل، لأننا نعرف التطور سواء كان الأمر تطورًا في الأفكار أو تطورًا في السياقات الاجتماعية. الاستيعاب هو شرط التجاوز، فلا يمكننا أن نتجاوز واقعًا ما لم نستوعب هذا الواقع بداية. ولقد استوعبت الروافد الفكرية للأستاذ كولن تاريخ الإصلاح عند المسلمين ويبدو هذا جليًّا في كتبه وفي دراساته وفيما يؤلفه في محاضراته، فذاكرته التاريخية والحضارية حادة، تحيل باستمرار على هذا التاريخ، وتستلهم منه؛ تعود باستمرار إلى عصر النبوة وعصر السعادة، وتحيل إلى مصادر الميراث الثقافي للأمة باعتبارها أسسًا عليها يكون بناء الحضارة إلى غير ذلك.
نوزاد صواش: حسنًا، ما المشاكل الكبرى التي نعاني منها وما زلنا، وبالتالي لم نستطع أن نحلها فجاء الأستاذ وقال مثلا: المخرج من هنا، أو قالت لك تجربته العملية المخرج من هنا إذا أردنا أن نقف وقفة مع هذه الأمور لكي نكون عمليين ماذا يمكن أن نقول يا دكتور جكيب؟
محمد جكيب: تجربة الخدمة هي تجربة متميزة؛ من زاوية أنها تقدم أجوبة عملية، أجوبة استجوبت إشكالات الواقع واستوعبت إلى حد بعيد أغلب -إن لم نقل كل- الثغرات التي وقعت فيها حركات النهضة في العالم الإسلامي، والعالم العربي جزء منها. إذا كنا نتحدث مثلا عن العالم العربي.
حركة النهضة في العصر الحديث كانت تعيش تجربة الرغبة في التحول، والتغيير نظريًا، وحتى أولئك الذين اشتغلوا في هذا الموضوع وكانوا يحملون همه -دون دراية منهم ودون نية الوقوع في ذلك- صعدوا إلى أبراج عالية، واعتبروا عملية التغيير مسألة يفكر فيها النخبة، وعلى باقي أفراد المجتمع الصعود إليهم ثم يقومون بتنزيل تلك الأفكار. وللأسف لا أفراد المجتمع صعدوا إلى من تموقعوا في أبراجهم، ولا أصحاب الأبراج وجدوا الطريق للنزول إلى الواقع وإلى من في الواقع؛ فظلت الهوة بينهما واسعة شاسعة. واليوم نكتشف ونحن نلاحظ الأحداث والتحولات أن هذا المشكل كان قائمًا بالفعل، لأن الواقع أثبت أن الفرصة عندما أتيحت لبعض هذه التجارب أن تنزل إلى الواقع اكتشفنا ولاحظنا أنها فشلت فشلاً ذريعًا. لكن في هذه اللحظة بالذات عندما نتأمل ونمعن النظر نجد أنفسنا أمام تجربة أخرى مختلفة في طريقة طرحها وتناولها لعملية التغيير وعملية النهضة، وهنا تبرز تجربة الخدمة، وتبرز بشكل قوي تجربة الأستاذ فتح الله كولن حيث لم يحصر عملية التغيير وعملية النهضة والبناء والإصلاح فيما هو نظري، بل ربطها ربطًا مباشرًا بضرورة النزول إلى الواقع أي ممارسة الإصلاح والتغيير والبناء الحضاري داخل الواقع نفسه.
الخدمة هي رؤية تأخذ بيد الناس إلى المستقبل ليعيشوا دينهم بمقتضى عصرهم وهذا هو الذي يفسر طاقتها وفعاليتها في كثير من البلاد.
في هذا الإطار عندما نتأمل مثلا في تاريخه الحركي منذ بداياته الأولى في إزمير نلاحظ أن الأستاذ كان ذكيًا وكان على وعي تام أنه لا يمكن تغيير شيء ما لم تكن البنى التحتية التي تساعدك على التغيير في المستقبل جاهزة. وبطبيعة الحال هذا الأمر يتأتى من خلال وعي تام بحقيقة الواقع، ووعي تام كذلك بالماضي، ووعي تام أعمق وأدق بخصوصيات المستقبل، وماذا يريد؟ ولذلك عمل على إيجاد البنية التحتية، وهي في نظري الإطار البشري؛ إيجاد الإنسان الذي له القابلية الفكرية والثقافية والروحية والإيمانية ليحمل هذا المشروع، لأنه مهما نظّرت، ومهما كتبت أو ألفت إذا لم يوجد من يستوعب هذا الفكر وهذا التصور لا يمكن أن تنجح. وهنا مكمن التميز في مشروع الأستاذ كولن، فالأستاذ بقدر ما كان يؤلف نظريًا من الكتب إلى غير ذلك كان يؤلف شيئًا آخر وهو تأليف الرجال وتأليف المؤسسات التي ستقوم بهذه المهمة. وهنا كذلك يجب أن نضع أيدينا وأن نسطر على نقطة مهمة جدًا في هذا المشروع وهي أن الأستاذ فتح الله كولن وهو يتحرك في بناء هذا المشروع كان حريصًا على أن يجعل المجتمع يبني مؤسساته التي تخلق وتبني التغيير بعيدًا عن شخصية الأشخاص، بمعنى أن المؤسسة هي التي تتحرك بالإطار البشري لكنها غير مرتبطة بألف ولا بباء، ألف يأتي اليوم ليقوم بالعمل ثم ينصرف ليترك مجاله لباء، ولكن المؤسسة تُحدث تراكمات حضارية تغييرية وتذهب.
نوزاد صواش: إذن يمكن أن نقول إن الإشكال الأول هو الانفصام بين الفكر والعمل، وربما هنا هذه الهوة تقلصت.
محمد جكيب: أنا أرى أنها ذابت، لماذا؟ لأننا عندما نتأمل في هذا الفعل وفيما يحدث في الواقع من تحولات وتغيير نشعر بأن هناك عملاً دقيقًا، هناك من ينقش انطلاقًا من رؤية، وهذا لا يتأتى إلا لمن استوعب أولا هفوات سابقة، وكانت له دراية عميقة بالواقع. ولهذا أرى أن التجربة تحتاج اليوم إلى أن يُهتم بها، وأنا أوجه ندائي من هذا المنظار إلى من يحملون همَّ التغيير والنهضة والإصلاح أن ينصتوا إلى هذه التجربة.
نوزاد صواش: دكتور سمير تريد أن تواصل من هنا؟
سمير بودينار: نعم، أعتقد أن ما قيل يضعنا أمام قضيتين أساسيتين؛ القضية الأولى هي قضية النموذج الأخلاقي بالإضافة إلى قوة الفكرة، قوة الفكرة وفعاليتها شيء مهم في عالم الأفكار.. في عالم بناء الأطر النظرية للفعل.. وهي مسألة مهمة بالغة الأهمية. لكن أزمات واقعنا المستحكمة هي في جوهرها أزمات أخلاقية، المشكلة الإنسانية اليوم في إجمالها مشكلة ذات طابع أخلاقي.. التهديد الوجودي الذي يهدد الإنسان باعتباره إنسانًا كما يهدد المسلمين هو تهديد ذو طابع روحي معنوي أخلاقي.
نوزاد صواش: هذه نقطة في غاية الأهمية؛ لو انطلقت من هذا المنطلق، فالمشروع كله سيصطبغ بهذه الصبغة. إذا قلت المشكلة اقتصادية أو سياسية مثلاً، فمن المحتمل أن تنتظم المنظومة الفكرية والعملية كلها على هذا الأساس، لذا المنطلق في غاية الأهمية.
سمير بودينار: وهذا هو الذي يفسر فعالية النموذج، لأننا اليوم عندما نحاول أن نُقيِّم حركات التغيير أو حركات الإصلاح، يمكن أن نفاضل بينها على صعيد الأطر الفكرية، وهذا أمر واقع كتراث نقدي مهم لها من الحوار والجدل والنقاش والمناظرة إلى غير ذلك، لكن أعتقد أنه ينبغي أن ننتبه في ذات الآن، إلى مقياس أو إلى إطار معياري كما يقال عن القيم، لا يقل أهمية وهو المفاضلة بينها على مستوى النموذج الأخلاقي الذي تصنعه. هل هذه المشاريع التغييرية قادرة على التغيير هنا في هذه المساحة؟ بناء النموذج الإنساني المتخلق.. إشاعة ثقافة ذات طابع أخلاقي أو مسلكي بالنسبة للإنسان.. تحديد غايات كبرى تستوعب حياته وتجعل منه كائنًا رساليًّا ذا قضية ورسالة في حياته.. هل هي قادرة على أن تستمد مكنونات هذا الإنسان فتحفزه على العطاء والبذل واستفراغ الجهد والحركة وبذل ما يستطيع من مال وجهد وعلم وغير ذلك؟ هل هي قادرة على أن تجيب على المشكلة الأخلاقية المزمنة التي تواجهها مجتماعتنا بما في ذلك الأزمة الأخلاقية لدى المتصدين للإصلاح أنفسهم إلى غير ذلك؟ هذه أعتقد أنها قضية أساسية ينبغي أن نستحضرها باستمرار ونحن بصدد تقييم هذا المنجز الإصلاحي لدى الحركات الإصلاحية بشكل عام هنا أو هناك.
القضية الأخرى قد أشار إليها الدكتور جكيب قبل قليل عندما ذكر أن الإطار الفكري والإطار النظري هما شيئان متكاملان، وبالتالي فإن المساحة بين الفعل والقول ينبغي أن تضيق. أعتقد إذا أردنا أن نُلخص تراث الأستاذ محمد فتح الله كولن المكتوب وخاصة ما ترجم منه إلى العربية فيما عرفنا، فسيكون هو تحفيز الإنسان؛ بناء الإنسان.. إعادة ترتيب طاقات الإنسان وكفاءته لينتقل من مستوى النظر إلى مستوى العمل.. من مستوى الفكرة إلى مستوى الحياة بهذه الفكرة.. من مستوى إدراك الرسالة ومعرفتها فاستيعابها إلى مستوى تمثل هذه الرسالة وهذه الفكرة واقعًا حيًا. وهذا ليس أمرًا بسيطًا، لأن الأزمة المستحكمة اليوم في عالم المسلمين عندما تتبدى في شكل قصور في الفهم، أو اضطراب في تفسير النص، أو تفسير الوحي نفسه، عندما تتبدى في شكل عنيف مع حركات تفهم النص فهمًا حرفيًا أو سطحيًّا، ولا تتعامل معه باعتباره رسالة حضارية إنسانية شاملة للتغيير الإنساني والمجتمعي، هذا في الواقع يدل على مشكلة في الفهم أولاً، ثم قصور في تحويل هذا الذي نفهمه إلى مشروع لخدمة الناس، ليكون رحمة للناس، ليتحول إلى عنصر إيجابي على الناس، كل الناس، كيفما كانوا حيثما وجدوا، وفي كل المستويات والمهن والتخصصات والكفاءات إلى غير ذلك. ما الذي يفسر اليوم أننا -للأسف- بتنا مجتمعات تنتج جيلاً ضائعًا، سواء كان هذا الضياع ضياعًا أخلاقيًا في متاهات الانحراف أو حتى ضياعًا في فكر الغلو والعنف؟ هذان الاتجاهان هما في الواقع وجهان لعملة واحدة، جوهرها -أولاً- عدم القدرة على أن يجد الإنسان نفسه في إطار دينه. ما هو موقعي الطبيعي؟ ما هي رسالتي بوصفي كذا؟ بوصفي إنسانًا عاديا.. بوصفي إنسانًا متعلمًا.. باعتباري مثقفًا.. باعتباري إنسانًا فنانًا مثقفًا عاملاً طالبًا معلمًا. ما موقفك في هذه الرسالة؟ ما المطلوب مني؟ وعندما يتمثل الإنسان هذه الفكرة تنفتح أمامه المجالات، كأننا خزنَّا الطاقات الإنسانية في الفعل. هذه هي الفكرة الأساسية التي أردت الإشارة إليها ونحن بصدد تقييم الحاجة إلى منهج بمثل هذه الأفكار، بوصفها قيمة مضافة لواقع الإصلاح في عالم المسلمين اليوم.
أن تبني قاعدة التغيير الحقيقة يعني أن تبني الإنسان الذي ينجز عملية التغيير، مُراعيًا في ذلك ميراثك الحضاري.
نوزاد صواش: عندما تجلس مع من ينشط في هذه المناشط، مثلا مع تاجر عنده إمكانات، يعقد مقارنة مادية بين حياته قبل أن يكتشف هذا الخير وحياته بعدها، كأنه اكتشاف جديد، يقول: ولدت من جديد.. أصبحت رؤيتي إلى العالم مختلفة.. إلى الكون مختلفة.. إلى المال الذي يملكه مختلفة.. ما الإكسير الذي يقدمه لنا الأستاذ؟ ما الأفق الذي يرسمه لنا؟
نحن نتجول في العالم العربي وحضراتكم تعرفون، الإنسان إما ضائع لا يعيش من أجل معنى مقدس؛ يعيش من أجل ذاته أو أسرته أو حول ملذاته، وعندما يريد أن يخرج عن الذات ويسأل إلى أين نتجه؟ البعض يوجههم إلى ساحات الموت، فالجهاد يتحول إلى عملية قتل وموت، لكن عندما تسأل هذا السؤال للأستاذ أو مدرسة الأستاذ ما الجواب الذي يأتيك؟ ها قد شعرتُ بالمسؤولية، ما العمل الآن؟ أين توجهونني؟ ماذا سأفعل؟ دكتور جكيب كتبتَ كتابا حول هذا الموضوع: “أشواق النهضة والانبعاث قراءات في فكر الأستاذ فتح الله كولن”، ماذا تقول في هذا الموضوع؟
محمد جكيب: أظن أن هذه المسألة في الأصل مرتبطة أولاً بشخصية الأستاذ نفسه، لأن أصعب شيء هو أن يكون لكلامك ولرؤيتك التربوية أثر في من تتحدث إليهم؛ القيم الأخلاقية التي ينتمي إليها الأستاذ ويريد أن ينشرها بين الناس تفاعل هو معها تفاعلاً كاملاً بقلبه وجوارحه، وعاش التجربة الروحانية بكل معانيها، لكن ليس بوتيرة منعزلة عن الواقع، بل بوتيرة مرتبطة بالواقع. أظن أن الأستاذ عندما اكتسب هذه الروح وصار يتعامل معها بإخلاص وصار عنده شعور وهمُّ نقْل هذه الروح إلى الناس أصبح لكلامه أثرٌ. لذلك فإن هذه الروح عندما ينصت إليها كافة الناس بشرائحهم المختلفة يجدون أن هناك صدقًا وإخلاصًا، وأن هناك كلامًا نابعًا من القلب. هذه الروح هي التي خاطب بها الرسول من دعاهم في مراحل دعوته.
نوزاد صواش: أستاذ سمير، عندما يشعر الإنسان بمسؤولية ما ويُشحن يريد أن ينطلق، هذه أظنها لحظة خطيرة أيضًا، لأن البعض يشحنك فيرسلك إلى ساحة الموت كما قلت، لكن الأستاذ يوجه الطاقات توجيهًا عجيبًا، فينطلقون للبناء والإحياء ما سر هذه الحيوية؟
سمير بودينار: بداية، نتحدث عن ثلاثة عناصر أساسية للفعل عند الإنسان؛ الفكرة “الرؤية”، الطاقة المحركة “الروح”، ثم قوة الفعل “الحركة”.
ما يقع الآن في عالم المسلمين هو خلل في أحد هذه المعايير الثلاثة. ما إن يصل الإنسان بحكم حالة الأوبة العامة للدين التي أصبحت سمة جماعية بل أصبحت سمة العالم الحديث، يقولون عن القرن الماضي كان قرن العدالة الاجتماعية، وأن هذا القرن هو عودة الناس إلى ذواتهم إلى معنى حياتهم، وهذا سؤال كبير سؤال خطير يواجه الإنسانية جميعًا كيف سنتعامل مع هؤلاء العائدين إلى ذواتهم؟ عندما يصل الإنسان إلى هذا المستوى نستطيع أن نقنعه أن نعطيه معالم الاهتداء، لكنه يسأل بعد ذلك ثم ماذا بعد؟ نحتاج إلى المكونين الثانيين؛ رؤية واضحة، مشروع لبناء العمران.. مشروع كبير يستوعب حياة الإنسان كلها ومناشطه وحياة أبنائه ومحيطه إلى غير ذلك، ثم يحتاج إلى قوة الدفع الروحية. المسألة مركبة تحتاج إلى جواب مركب، عالمنا الذي نعيش فيه -ونتحدث عن عالم المسلمين تحديدًا- جرب أجوبة كثيرة، حتى من لم يكن جزئيًا “كما يدعي”، لم يقتصر على الجانب الاقتصادي أو الجانب التربوي أو الأخلاقي أو السياسي أو غير ذلك، قال بأنه سيقدم مشروعًا يجمع هذه الأشياء كلها، لكن الخلطة التي قدمت كانت خلطة -للأسف- في كثير من الأحيان مدمرة، إما لأنها قزَّمت الأبعاد الأخرى في إطار بعد واحد مدعية أنها تشمله كما وقع مع الذين يشتغلون في المجال السياسي، أو أنها حولت الدين إلى طاقة سلبية عندما انكفأت على البعد الروحي وحده وأهملت الأشياء الأخرى، أو أنها حولت الإسلام إلى نظرية فلسفية محضة عندما تتحدث عن الفكرة الإسلامية بشكل تجريدي موغل في التجريد باعتبارها نسقًا فلسفيًا يُقدَّم للناس ويجيب على الأسئلة ثم تنتهي المسألة.
إذن نحن في حاجة ماسة إلى هذه التركيبة من هذه الأبعاد كلها. ما يقع الآن في إطار هذا المشروع العملي الذي قلنا في البداية إنه أثبت أنه مشروع ناجح في ساحات متعددة، مشروع استطاع أن يثبت فعاليته في تحقيق أهداف متعددة في بيئات مختلفة للغاية.. أن يتعامل مع إنسانية الإنسان وهذه هي نقطة القوة. عندما ترى هذا المشروع في أي منطقة من مناطق العالم تجد أنه وضع لنفسه أهدافًا وبدأ يعمل فيها.. بناء الإنسان.. شحنه شحنًا روحيًا كافيًا.. طاقة السير ثم في مشروعه تُربَّي فكريًا بشكل متوازن يعصمه من الإفراط والتفريط أو الغلو أو التشدد أو التسيب أو غير ذلك، ثم هو ينضبط إلى مشروع فكري إلى فكرة ناضجة تستوعب حياته جميعًا.
القضية هنا في تقديري أن المسألة فيها أبعاد شخصية.. أبعاد مسلكية.. أبعاد القدوة.. هذه كلها أبعاد حاضرة، لكن في النهاية لا مفر من أن نقر ابتداء بأننا اليوم نعيش أزمة هذا المشروع المتكامل وهو السبب الأساسي في ضياع الأجيال الجديدة أو جزء كبير منها، لأنها إما أن تنكفئ إلى هذا المسار أو ذاك.. إما تشتط في هذا الاتجاه أو الاتجاه المعاكس.. إما لا تجد رؤية فكرية مجتمعية ناظمة إنسانية أو حضارية، أو إما أنها تعيش حالة من الخواء والفراغ على الصعيد الروحي، فلا طاقة لديها كافية لتسير في تحقيق الرسالة التي تؤمن بها، أو أنها مع كونها ذات رؤية قوية وطاقة روحية إلا أنها غير ممكَّنة من إمكانات الفعل ولا مجال لديها لتحقيق هذا النموذج الناجح الذي نتحدث عنه.
النموذج الإنساني الكامن في حركة الخدمة نموذج فعال قادر على التحديات والأسئلة في كل بيئة مع اختلاف البيئات وأسئلتها وقضاياها الشائكة.
نوزاد صواش: المشكلة في الخلطة على ما يبدو، إذن كيف نشكل هذه الخلطة؟ دكتور محمد جكيب. تأثير الكلمة ليس سهلاً، هناك مفكرون ودعاة كثر، يقولون ويكتبون أفكارًا رائعة، قد يدخل الفكر القلب لكن ليس كل فكر يدخل القلب يحوله الناس إلى مشاريع. ما السر الذي لمسته أنت يا دكتور؟
محمد جكيب: نعم، في الحقيقة لاحظت أن الأستاذ يولي قضية الكلمة و البيان أهمية كبيرة جدًا، وهو يستقيها -كما يذكر في كتابه- من البيان القرآني، ومن البيان النبوي.
البيان في هذا المقام ضرورة؛ لا يمكن أن تصل إلى القلوب إذا لم تكن متمكنًا من قوة البيان، القرآن الكريم نفسه يقوم على هذا الأساس؛ عندما نتكلم عن جمال العبارة ورشاقتها.. عن صدقها وروحانيتها.. الأستاذ وظف هذه النقطة إلى أبعد حد، فإنسان العصور المتأخرة كأنه نسي فطرته، وقد عمل الأستاذ على إحياء هذه الفطرة فيه. لأن روح الدين التي انتقلت كما تنتقل الجينات في الأجيال اللاحقة قد أصابها الفتور، وبإدراك الأستاذ لهذا الجانب تغلب عليه من خلال إحياء فطرته؛ فروح الإسلام وروح المبادرة وروح الإنفاق وروح عمل الخير وروح التسامح إلى غير ذلك، كل هذه الأنسجة موجودة في المسلم، لكنها دخلت في أماكن معينة وأصبحت في حالة كمون، فجاء الأستاذ ليحييها بخطابه، يحييها بكثرة الإلحاح، وهو عبد واللهُ يحب العبد الملحاح، الأستاذ يلح في خطابه.. يخاطب تلك الفطرة.. يخاطب تلك المكنونات حتى تبرز إلى الواقع. يعرف أين يوجد الزر ومتى يضع أصبعه عليه، وعندما ينطلق -وهذا هو المهم- يوجهه.
فهذه الطاقة يجب أن توجَّه في الاتجاه الإيجابي، وهنا كذلك يتدخل الأستاذ لكي يلتقط هذه الطاقة، ويتم صرفها في الاتجاه الإيجابي الذي لا يعود بالخير على الذات وحدها، وإنما على الذات وعلى الجماعة وعلى العالم كله. وما حديثه عن الوعي الجمعي مثلاً إلا نوع من الإلحاح على هذه النقطة بالذات، يعني أن يكون العمل والرؤية والفكر متجهًا في اتجاه واحد، حتى يعطي نتائج إيجابية وطاقة إيجابية.
نوزاد صواش: هل يمكن أن نلخص هذا التوجيه في مقال للأستاذ بعنوان “رسالة الإحياء”؟ هل هذه الطاقات كلها أصلاً تتجه في اتجاه إحيائي؟ أن تذوب في خدمة الإنسان.. أن تبحث عن سعادتك في إسعاد الإنسان.. أن تعيش لكي تُحيي الإنسان. عندما أقرأ نصوص الأستاذ أو أستمع إليه كأنه يلخص الإسلام كله؛ الإسلام أن تعيش من أجل الآخرين.. أن تذوب في الآخرين، ألَّا تعيش لذاتك.. أن تعيش من أجل الإنسان أينما كان.. أن تُحييه، وكلمات مثل “البعث” “الانبعاث” “نفخ الروح” هذه إذا قرأنا مقال الأستاذ سنجدها بكثرة، فعملية الإحياء هي محورية في نصوص الأستاذ.
سمير بودينار: حقيقة هذا النوع من الإلحاح في الدعوة ليس أمرًا بسيطًا، قضية الإحياء والبعث هي استلهام متقدم لتراث روحي وفكري عميق عند المسلمين، ومحاولة استثمار هذا التراث العميق في إنجاز المرحلة الأخطر في مراحل الإصلاح التي نتحدث عنها، وهي نقل هذه القيم والمعارف من دائرة الأفكار المجزأة إلى انتظامها في رؤية متكاملة، لنهضة الأمة وإعادة بناء الإنسان، ليكون جديرًا بمقامات الاستخلاف والعمران التي طُوّق بها بوصفه كائنًا مسؤولاً متحملاً لأمانة الوجود الإنسانية. عندما نتحدث عن خدمة الناس وإسعاد الناس والعيش من أجل الناس، هذا استلهام لتراث في التزكية عند المسلمين عميق للغاية، الاستمداد من الحق وخدمة الخلق.. العيش من أجل الآخرين.. الوجود ينفعل بالجود حسب الشعارات الكثيرة.
نوزاد صواش: هل تعني أننا ضيعنا هذه القيم؟
سمير بودينار: للأسف هذا ما وقع في الاتجاهات الإصلاحية الحديثة بشكل خاص، لأنها تعاملت مع هذه الأطر بوصفها مسارات متوازية لا علاقة بينها؛ فاعتبرت التراث العرفاني أو التزكوي عند المسلمين تراثًا روحيًا محضًا، يصلح للتزكية ولتربية الناس وتزكية نفوسهم وتخليصها وتطهيرها، وهنا ينتهي كل شيء. ثم اعتبرتْ التراث الفقهي تراثًا لتنظيم العمران والعلاقات بين الناس وتحديد الحلال والحرام وتخليصهم من أن يقعوا في المخالف في أمور معاملاتهم ثم ينتهي الأمر هنا. وكذلك تم التعامل مع التراث الكلامي بوصفه تنظيمًا لعلاقات الإنسان بالمعتقد وتحديد المقولات الكلامية الكبرى، ثم ينتهي الموضوع وهكذا. فقضية استثمار أو استلهام التراث الروحي عند المسلمين وتحويله إلى طاقة دافعة أمر ليس سهلاً.
نوزاد صواش: ربما هذه الطاقة الروحية لا تُفعَّل عند البعض، بل تخزَّن وتبقى مخزنة، وهناك من يتحركون ولكن ما عندهم طاقة روحية…
سمير بودينار: ولهذا السبب تعطلت عملية الإحياء لأن الإحياء ليس أمرًا مقتصرًا بأن تدل الناس على الفكرة وأن تقودهم إليها؛ النبي في نموذج رسالي عظيم عرفته الإنسانية ربّى خلال بضع عشرة سنة جيلاً من الناس، ربَّاهم بحيث كان الواحد منهم يندفع إلى تحقيق الرسالة بأقصى طاقة ممكنة في أعلى مستويات الإجابة.
تجربة الخدمة تحتاج اليوم إلى أن يُهتم بها، وأنا أوجه ندائي من هذا المنظار إلى من يحملون همَّ التغيير والنهضة والإصلاح أن ينتصوا إلى هذه التجربة.
نوزاد صواش: ربَّاهم؟! هل هذه إشارة إلى خلل؟ يعني نحن -على ما يبدو- لا نربِّي؟
سمير بودينار: صحيح، لهذا السبب التربية في النهاية هي هذه الأبعاد كلها، التراث الروحي.. العناية بالإنسان.. بدقائق تربية الإنسان؛ الإنسان نقش رباني بديع .. بناء إلهي رباني محكم؛ عندما تفرط في أحد مكونات هذا الإنسان تنتج نموذجًا مشوهًا.. إنسانًا في الظاهر، لكنه ليس في أحسن تقويم كما أراده الخالق ، ولذلك يركز الأستاذ على قضية “أحسن تقويم” حيث يقول إن هذه القضية مقتضاها أن تستجيب لملكات الإنسان وتنميها جميعًا في نفس الوقت، فرسالة الإحياء بهذا المعنى هي خدمة للإنسان كما هي بناء للإنسان.. هي بناء للعمران كما هي سعي للإنسان نحو الكمال الإنساني.. هي إسهامه في بناء حضارته كما هي استقلاله في بناء نموذجه الحضاري الخاص. “ونحن نبني حضارتنا” “نحن” باعتبارها حضارة شاهدة على غيرها، ثم أن تكون نموذجًا شاهدًا، يعني أن تكون جذابًا قابلاً لأن تستلهمه الإنسانية، هذا كله ليس أمرًا بسيطًا، هذا نقش مُحْكم.. استلهامٌ لتراث حضاري عميق.. سعيٌ لاستثمار هذا التراث في مشروع.. استثمارٌ روافد هذا التراث كلها في مشروع حضاري معاصر اليوم.. في بناء الإنسان بالتربية الإنسانية.
نوزاد صواش: يبدو أن وضع النموذج ليس سهلاً، كم من فكر يخطر بالبال، نكتبه أو نسجله ثم نتركه، في حين أن الأفكار تحتاج إلى البذل في سبيل رعايتها هل هناك تقصير في هذا البذل، ما المشكلة؟ وماذا يفعل الأستاذ كولن إزاء هذه المشكلة؟
محمد جكيب: أظن أن جواب هذه النقطة يكمن في تراثنا كما قال الأستاذ سمير بودينار، في التراث النبوي على وجه الخصوص؛ الرسول وهو يربي ويُعد جيل الصحابة الذين سيتحملون المسؤولية لتبليغ هذه الروح للعالم كله، كان يتعهدهم بالتوجيه والمراقبة بما ينقذف منه من نور إلى قلوبهم، لا يتركهم، وأظن أن أهم شيء حرص عليه الرسول في هذه النقطة بالذات هو أنه ربط ما يقوم به الصحابة -وهم يبلغون الدعوة- بالله ، لم يربطهم بالنتائج، لم يقل لهم: تبنوا هذه الرؤية الحضارية.. هذه الروح.. هذه المنظومة وستحصلون على الحضارة وعلى كذا. الأستاذ فتح الله كولن انتبه إلى هذه النقطة واستوعبها؛ عندما نتأمل في كثير من المواقف نجده يوجه من يربيهم إلى العمل والحركة والتفاعل من أجل الغير، لا من أجل مصالح ذاتية خاصة، ولهذا تعجبني عبارة جميلة جدًا لديه، أعدُّها رقيقة من الرقائق، وهي “تصفير النفس”، فإذا قلتَ: “أنا” فعلتُ فقد خسرتَ أو فشلتَ أو سقطتَ في أول الطريق، وعندما نقول “نحن” فقد سقطنا وخسرنا في وسط الطريق، لكن ينبغي أن نقول: هو فعل، وهنا نصفِّر الذات، الأستاذ انتبه إلى هذا وحوله إلى قيمة حضارية أخلاقية. لسنا مسؤولين عن النتائج، الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى النتائج.. هو الذي يكافئ ويقدر قيمة العمل. الأستاذ نجح في هذه النقطة بالذات، وحولها إلى قيمة حضارية؛ الناس مطالبون بأن يعملوا وأن يحققوا العبودية في هذه النقطة. ولهذا أنا أفهم لماذا يترك أحدهم الأهل والوطن والمال وكل شيء ويهاجر من أجل هذه الفكرة بالذات وهذه قيمة أخلاقية، ليس هذا فقط بل إنني أرى أن وجوده الآن في أمريكا ربما يدخل في هذا الإطار، لأنها هجرة من نوع آخر، بمستوى آخر، ببعد آخر، ربما سيكون لها ما بعدها في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
نوزاد صواش: الأستاذ حيثما حلَّ اخضرَّت الأرض. دكتور سمير، بما أنك متخصص في العلوم السياسية ربما هناك من يرى الأستاذ كولن مفكرًا، وهناك من يراه مفكرًا استطاع أن يحرك أفكاره، ويضعها حيز التنفيذ، لكن في المقابل هناك تساؤل يراود الكثيرين حول المنهج الذي رجحه الأستاذ كولن في التحرك، لماذا رجح العمل على هذا النحو؟ لماذا لم يؤسس حزبا؟ ولو أراد لفعل وحقق نجاحات، لماذا لم يؤسس طريقة صوفية ويسير على المنهج السائد وينطلق؟ كما تعلمون القضية السياسية الآن مشكلة كبيرة في العالم الإسلامي، وما يعانيه بعض الناشطين في العمل الإسلامي وما يتعرضون له من ضغوطات سياسية يمثل ظاهرة العصر، هؤلاء الناشطون يجعلون العمل السياسي أولوية، أو يقولون لك: اشتغل في المجال الاجتماعي إلى جانب المجال السياسي، لكن الأستاذ يختار طريقًا آخر، برأيك لماذا لم يجعل الأستاذ أولويته العمل السياسي؟ أو لماذا لم يؤسس حزبًا؟ ما تصور الأستاذ هنا؟
سمير بودينار: أستاذ نوزاد هذا سؤال كبير جدًا، فالحديث عن سبب اختيار الأستاذ هذا المنهج ظل يراودني باستمرار وأنا أقرأ للأستاذ تراثه المكتوب، وألتقي ببعض الشخصيات من الخدمة. القضية هنا ينبغي أن لا تبتعد ونحن نحللها عن الوعي التاريخي الذي ذكرته في البداية؛ ما يقع اليوم في العمل السياسي هو نتيجة، لأن هذا العمل تحول بشكل مختصر -وأنا هنا أعبر عن فكرتي في الإطار الذي نعيش فيه الآن وهو الدولة الحديثة- تحول العمل السياسي من عنصر حل إلى عنصر أزمة. طبعًا أنا هنا لا أدين العمل السياسي لأنه ضرورة، ولأن السياسة في التكليف عند المسلمين هي القيام على الأمر بما يصلحه؛ فهي عملية إصلاح في النهاية، إصلاح للشأن العام، أو تدبير للشأن العام على شرط الإصلاح لكن هذا ليس واقعًا الآن؛ مشكلة الدولة الحديثة الموجودة الآن، أن السياسة فيها بدلا من أن تصير عنصرًا في اتجاه مشروع الإصلاح صارت عنصر تجزئة وتفكيك وتشتيت. الذي نعيشه الآن في عالم المسلمين -حتى على مستوى العنف- ينبغي أن ننتبه إلى أنه أحد تجليات عملية التحديث التي تمت بشكل أهوج. اندلاع الهويات الفرعية.. تصدر العصبيات.. الانتماءات الطائفية والعرقية والقومية والهوياتية والطائفية وإلى غير ذلك، كلها -بشكل عكسي- هي نتيجة لعملية التحديث التي شهدناها. عندما ظهرت هذه البؤر بهذا الشكل بدأنا ننتبه أخيرًا إلى أن المسألة تمت في ظل الدولة الحديثة؛ تجاوزُُ ما يقع الآن على عالم المسلمين من أنواع الفرقة والخلاف والتناحر الطائفي والهوياتي يحتاج إلى أدوات خارج نطاق التحديث، من خارج إطار الدولة الحديثة، وبالتالي ينبغي أن نبحث لأنفسنا عن أدوات في الفعل أشد تأثيرًا وأعمق أثرًا وأكثر قدرة على تحقيق الأهداف من وسائل الدولة الحديثة.
نوزاد صواش: أستاذي عندما نقول “الدولة الحديثة” ماذا تعنون؟ أو ما وسائلها؟وكيف نعرفها؟ لأن كثيرين لا يعرفونها.
سمير بودينار: عندما نتحدث عن الدولة الحديثة نتحدث عن دولة تسير بمقتضى محاولة الضبط، أكبر قدر ممكن من ضبط الأفراد والمجتمع أولاً، ثم العمل العام فيها تتلخص رسالته في الصراع من أجل الوصول إلى السلطة؛ صراع الأطراف المختلفة لبلوغ مرتبة السلطة، لأن السلطة السياسية في الدولة الحديثة تُعتبر هي الإمام.. هي الحكم.. هي قاطرة التغيير في المجتمع، وبالتالي فإن الناس يتنافسون ويتصارعون لبلوغ هذه القاطرة التي تجر المجتمع. أما النموذج الذي يقترحه الأستاذ -وهو جواب على سؤالكم، لماذا لم يختر منذ البداية أن ينحاز إلى العمل السياسي؟- فهو وَعْيٌ بأن المسألة عندنا ليست كذلك، التطور التاريخي في بلداننا.. سياقنا الحضاري والثقافي ليس قائمًا على هذه الترتيبة؛ السلطة السياسية فيه ليست القاطرة، القاطرة فيه هي الأمة.. هي الناس؛ فكرة المجتمع الأهلي هي فكرة عميقة الامتداد في ميراثنا الحضاري والثقافي. بالإضافة إلى أن وسائل التغيير في الدولة الحديثة كانت -كما هو معروف وكما ضربتُ بعض الأمثلة- محدودة، بل مثيرة للأزمات أكثر من قدرتها على إنتاج الأجوبة والحلول، كما أن القدرة الحقيقية لمن يستلم السلطة السياسية محدودة للغاية في هذه الدولة.
وأنا أتصور أن تراث العمل السياسي في البلدان الإسلامية في النصف الأخير من القرن الماضي يؤكد هذه النتيجة اليوم بشكل واضح، ليس لأن هذه التجارب ضُرِبَتْ في أكثر من مرة فحسب؛ حيث لم تكن قد أنضجت الشرط الموضوعي أو الشرط المجتمعي اللازم حتى تنجح وبالتالي ضُرِبَتْ، ولكن لأن من استطاع منها أن يصمت ولم يُضرب اعترف في الأخير بأن الأدوات التي يعتمد عليها هي مخالفة لطبيعة الغاية التي يتوخاها، من هنا نفهم رفض الأستاذ في الستينات عرضًا قدمَّه بعض قيادات العمل السياسي الإسلامي حينما قالوا له: انضم معنا.. نحن بصدد إنشاء حزب.. سنتسلم السلطة.. سنغير..فأجابهم: هؤلاء الأولاد الذين أهتم بهم بالنسبة لي مشروع أهم من مشروعكم.
هذا رهان على أن نبدأ من حيث ينبغي البدء، لأنَّ كل الوسائل الأخرى ستؤول بنا إلى ذات الأزمة، وترجعنا إلى نقطة البداية مرة أخرى، ضيعنا في ذلك جيلاً أو جيلين لا يهم، لأن سنن الله جارية لا تحابي أحدًا، قوانين التغيير الاجتماعي هي نفسها لا يمكنك أن تبدأها من المرحلة الخامسة أو السادسة، ينبغي أن تبدأها من المرحلة الأولى، أن تبني قاعدة التغيير الحقيقية، يعني أن تبني الإنسان الذي ينجز عملية التغيير، مُراعيًا في ذلك ميراثك الحضاري؛ أنت لا تشتغل في المريخ.. أنت تعمل في منطقة عندها خصائصها الحضارية والثقافية وأسسها الاجتماعية وروابطها إلى غير ذلك. هذا الأسلوب في الأخير استطاع أن يُفعّل الإنسان.. أن يعيد الفاعلية الاجتماعية للأسرة والمدرسة، ويشتغل على الاقتصاد ويُفعّله من الداخل، ويعطي نموذجًا أخلاقيًا آخر يستعيد فيه عافية المجتمع وقدرته على المبادرة. كل هذه الأشياء لا يمكن أن تصل إليها وأن تنجزها من خلال الإطار الحزبي.
أنا هنا لا أريد أن أبخس من قيمة العمل السياسي عندما يكون مستوعبًا لهذه الأبعاد كلها قادرًا فكريًا على العمل، لكن ينبغي أن نكون واضحين، لأن العمل السياسي أو السلطوي -خصوصًا الحزبي في الشرق الذي نعيشه اليوم في عالم المسلمين- ينبغي أن لا نكون مسرفين في توقع الأهداف والنتائج منه، لأنه يرتبط بشروط مجتمعية وحضارية في الأمة أكبر بكثير من أن تنجز من خلال العمل السياسي.
مشكلة الدولة الحديثة الموجودة الآن، أن السياسة فيها بدلا من أن تصير عنصرًا في اتجاه مشروع الإصلاح صارت عنصر تجزئة وتفكيك وتشتيت.
نوزاد صواش: دكتور جكيب هل تود أن تضيف شيئًا؟
محمد جكيب: نعم، السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا الباب هو، إلى أي حد يمكن أن نقول إن الأستاذ قد أعاد صياغة مفهوم السياسة أو الممارسة السياسية؟ لأن وضع الدولة الحديثة جعل من السياسة ممارسة مرتبطة إلى حد بعيد بالوصول إلى الحكم، وهذا بعد ضيق، لكن رؤية السياسة عند الأستاذ ذات بعد أوسع، يستقيه في الأصل من عمق الحضارة الإسلامية، فالذي صنع الحضارة على مر التاريخ المجمتع المدني؛ أي الناس، عموم الناس هم الذين أقاموا المدارس.. هم الذين أقاموا أشياء كثيرة مرتبطة بالحضارة؛ مثلا عندنا جامعة القرويين في المغرب، بنتها امرأة، وهي تنتمي إلى المجتمع.. لم تكن لها أية مسؤولية سياسية. وأظن أن الأستاذ كأنه يريد أن ينبه إلى هذه النقطة، السياسة أن يعيش الناس للمجتمع.. أن يبنوا حضارتهم ليس فقط حتى يعودوا بالفائدة على الناس أو على الوطن في حدوده الضيقة بمفهومه، وإنما ليعودوا بالفائدة على الإنسانية ككل، باعتبار الإنسان مخلوقًا من مخلوقات الله .
هذه المسألة دقيقة جدًا، وأظن أن الحركات السياسية التي تنطلق من رؤية إسلامية عليها أن تعيد النظر في هذه النقطة بالذات، لأن الحركات الإسلامية التي تبنت السياسة جمعت كل بيضها في سَلَّة واحدة وهي سَلَّة السياسة. لذلك عندما تقع الأزمة يتكسر كل البيض. وللأستاذ مقولة جميلة جدًا تعجبني كثيرًا قرأتها له يقول: “عندما تتأمل في مجموع المنظومة الإسلامية تجد أن الجانب السياسي فيها لا يتعدى نسبة 5%”. والباقي كله أخلاق ومعاملات، فالتركيز على الجانب الفارغ من الكأس وترك ثلثيه أو ثلاثة أرباعه فيه نوع من العيب.
نوزاد صواش: الأغلبية في البلد، في كل بلد هي المجتمعات،ما نسبة الذين يشتغلون في الدولة؟ الأغلبية الساحقة هي المجتمع فمَن لهذا المجتمع؟ من سيهتم به؟ من سيحل مشاكله إذا لم يستطع المجتمع أن يحل مشاكله؟
محمد جكيب: نعم صحيح، من يرعاه في حاضره وفي مستقبله.
نوزاد صواش: نعم الدولة لا تستطيع وحدها أن تفعل هذا، دكتور لدَيَّ سؤال مهم، الأستاذ فتح الله كولن فعّل طاقة المجتمع الكامنة -كما قلنا- في إطار المشاريع المدنية والعمرانية التي تخدم المجمتع، وحصل ازدهار -لا شك في ذلك- من خلال مئات من المدارس.. العمل الإعلامي.. الانفتاح على العالم، هذه كلها إنجازات مجتمعية، المجتمع استخدم هنا طاقاته المالية.. طاقاته البشرية.. لم يستعن بأحد.. بقوة ذاتية خدم نفسه، وخدم مجمتعه، لكن هناك دائما هذه المعادلة؛ الدولة أم المجتمع؟ هل المجتمع المدني هذا بديل للدولة؟ خطر على الدولة؟ ما المقاربة التي يقدمها الأستاذ في هذا الصدد؟
سمير بودينار: طبعًا لا يمكن بحال أن يكون المجتمع بديلاً للدولة أو خطرًا عليها لسبب بسيط، هو أن الإنسان عندما يُسيّر مؤسسة أو شركة مثلا، هل يمكن القول: إن فعالية الأفراد داخل هذه الشركة من مهندسين وأطر، وارتفاع مستوى كفاءتهم، وارتفاع منسوب إنتاجهم، وسعيهم لرفع مستوى الشركة ومبيعاتها، وتحقيقهم أرباحًا أعلى أيمكن أن يمثل ذلك خطرًا على مدير الشركة؟ أم أن هذه الفعالية تخدم جسم الشركة كله؟
فالقضية هنا هي قضية تكامل في الأدوار، ولذلك في أوربا اليوم تجد أفكار الفلاسفة الكبار في الدول الغربية وخاصة في أوروبا تميل إلى هذا؛ يعني مثلاً نحن نرى اليوم إيمانا أكبر بدور المجتمع المدني.. وفتح مجالات جديدة له، الدولة في أوروبا اليوم تفتح مجالات جديدة أمام المجتمع المدني، وتدعوه أن يتقدم إليها، وأن يقوم بمهام جديدة فيها، تؤمن بالديمقراطية التشاركية بدل الديمقراطية التمثيلية، الديمقراطية التصالحية التي تؤمن بأن المؤسسات، حتى المنتخبة منها ليست جديرة وحدها بأن تحدد السياسة في كل شيء، وأنها بحاجة إلى أن تنتمي بها إلى الناس، وبالتالي أن تدخل في إطار شراكة معهم. هذه نحن نراها عند عديد من الفلاسفة وهي امتداد لفكر حديث يؤمن بأن فعالية المجتمع شرط لنجاح الدولة، لا يمكن للدولة أن تكون دولة ناجحة، بمعنى معايير التدبير السياسي إذا لم تتعامل مع مجتمع حي ناضج إيجابي فعّال مشارك، يضطلع بجزء من مسؤوليته ومن أدواره التي ينبغي أن يقوم بها. و أعتقد أن هذا ما يفسر بأن حركة الخدمة في كثير من البلدان الديمقراطية الكبرى، حتى في الدول الصناعية الكبرى عندها حضور مرحَّب به، لأن هذه الدول.. هذه المجتمعات.. هذه الديمقراطيات المستقرة تؤمن بفاعليتها في الإدراة المدنية.
نوزاد صواش: حسب علمي في الغرب، الدولة نفسها عندما تجد المجتمع يُسهم معها في مشروع ما، المجتمع يموله لكن ينجح في النهاية، الدولة تقول للمجتمع: لا تموله، أنا سأموله، أنا سأساعدك، لأنه حمل جزءًا كبيرًا من الأعباء عنها.
سمير بودينار: فكرة الديمقراطية التشاركية الآن هكذا عمومًا، المجتمع المدني صارت الدولة تأخذ بيده ليكون إلى جانبها، لأن عبء إدراة جزء كبير من الملفات والقضايا في الدولة لا يمكن أن تقوم به الدولة وحدها؛ كيف يمكن أن نحارب الظواهر الاجتماعية الخطرة، المخدرات، العنف، التطرف، الانتماء إلى العصابات، حماية الشباب من الانخراط إلى الانحرافات الفكرية وهكذا.
نوزاد صواش: دكتور جكيب إنسان الخدمة ما هي أهم سماته؟ لأن كل مؤسسة لها مخرجاتها، هل يمكن أن تذكر بعض الخصائص التي لاحظتها من خلال رصدك؟
محمد جكيب: الذي ألمسه هو أن هذه المخرجات هي مخرجات تتمثل في إنسان فعَّال، إنسان له قدرة كبيرة على الإبداع، إنسان له قدرة على إبداع طرق للتفاعل مع الآخر.. للتفاعل مع محيطه.. مع مجتمعه.. مع عالمه بشكل إيجابي.
مخرجات متسامحة مسالمة لكنها ليست سلبية.. متسامحة مسالمة لكنها فعَّالة وإيجابية في خلق واقع يتعايش داخله الجميع.. في خلق واقع يتجاوز الأزمات.. لا يقحم نفسه فيها .. يشتغل من أجل عالم يسوده التفاهم والمحبة وتقديم الخدمة. وحتى مصطلح الخدمة هذا يحمل في عمقه هذا البعد.. تقديم خدمة للإنسان.. تقديم خدمة للوطن.. تقديم خدمة للعالم، وأظن أن هذه النقطة بالذات هي التي ستخلق أو يجب أن تخلق الاطمئنان لدى الغير. ومن يختزل الخدمة في منافس سياسي أو شيء من هذا القبيل يخسر أشياء كثيرة، لأنك عندما تختزلها في هذه النقطة تُلغي جوانب أخرى ومجالات كثيرة فيها حضور قوي لمخرجات هذه الخدمة. في أماكن كثيرة أتيحت لنا الفرصة لزيارة مؤسسات الخدمة، رأينا أن هناك مخرجات إنسانية مهمة جدًا؛ إنسان واعٍ بواقعه.. واعٍ بأهمية المعرفة.. واعٍ بدوره في خدمة الإنسان.. واعٍ بضرورة أن نعيش جميعًا في إطار عالم يسوده السلم والسلام والتسامح والحوار.. واعٍ كذلك بأهمية أن يكون عونًا للسلطة السياسية في صناعة الأوطان. فكل هذه مخرجات مهمة، بالإضافة إلى مخرج مهم جدًا وهو أن تُوجِد نموذجًا بشريًا متصالحًا مع الوجود ككل.
نحن نعلم اليوم أن حقيقة الإنسان مع التطور العلمي في بعض الاتجاهات سارت مسارًا غير سليم؛ هناك بعض الجهات تصنع أسلحة الدمار الشامل، هذه تؤذي الإنسان، لكن عندما تُوجِد نموذجًا بشريًا يعرف حقيقة المعرفة العلمية ويضبطها ومتقدم فيها لكن يربطها بما لا يفسد، وبما لا يعود بالنفع على الإنسان هذا مُخرج مهم، يمكن أن نرى أثر ذلك في المستقبل. إذا كانت هناك أسلحة الدمار الشامل اليوم فغدًا ربما سنتحدث عن علم سعادة الإنسان الشامل.
الخدمة بالنسبة لي هي “المنظومة الإسلامية كما عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في مرحلة من المراحل بروحها في الوقت الراهن.
نوزاد صواش: ما دمنا نتحدث عن الغد، دكتور سمير، رأيت التجربة في مناطق مختلفة؛ في أفريقيا في أستراليا وأوروبا وما إلى ذلك، الخدمة في خطاباتها.. في تحركها.. إسهامها في الساحة العالمية، إذا واصلت على هذا الشكل واحتضنتها البشرية، ما رسالتها؟ كيف ترى المستقبل؟
سمير بودينار: القضية هنا هي قضية النموذج الخاص من الإنسان الذي ننشده، عندما نرى الآن نموذج الخدمة أو مؤسساتها عبر العالم سنراها في بيئةٍ ما يقال عنها “إنها أكثر تقدمًا” تعمل بوتيرة أسرع، وفي بيئة أخرى يقال “إنها تمضي بشكل بطيء” تختلف وتيرتها في العمل، في بيئة أخرى يقال عنها “إنها منفتحة جدًا” لها مستوى من الأداء وفي بيئة أخرى ينظر إليها البعض على أنها محافظة لها مستوى آخر من الأداء، ما معنى هذا؟ معناه أن هنالك نموذجًا كامنًا.. نواة، وهذه النواة فيها نفس السمات والخصائص التي لهذا الإنسان الذي يشعر بالهمِّ، عنده رؤية تتسم حركته بالاعتدال.. يراعي سمات الواقع ويمضي في كل بيئة من البيئات بحسب الشروط والمتطلبات التي تحتاجها هذه البيئة. أن تكون عندك هذه القدرة على أن تستلهم ذات القيم ونفس الرؤية بنفس الوتيرة وتتحرك بها في بيئات مختلفة، هذا ليس له إلا تفسير واحد وهو أن النموذج الإنساني الكامن نموذج فعال قادر على التحديات والأسئلة في كل بيئة مع اختلاف البيئات وأسئلتها وقضاياها الشائكة.
نوزاد صواش: هذه التجربة ليست مشروعًا تركيًا.
سمير بودينار: هي طبعًا ليست كذلك؛ هذه الرؤية هي رصيد مهم في الإصلاحية الإسلامية الحديثة، وهي في ذات الوقت خطاب موجه للإنسان في كل مكان، تستلهم ميراث مولانا جلال الدين الرومي الذي يقول: “حيثما كنت تعال ولو ذهبت أكثر من مرة ارجع تعال نحن هنا”، يعني تفتح دائرة التواصل والتعارف مع أكبر قدر ممكن من بني الإنسان في كل مكان. هذه قيمة يحتاجها المسلمون اليوم كما لم يحتاجوا إليها سابقًا، ولذلك أنا أعتبر أن هذا الميراث الحضاري المهم ينبغي أن لا يُنظر إليه باعتباره ملكًا لدولة أو قُطر؛ المسألة ليست كذلك، ولا أن ينظر إليها بمنطق المحازبة والمحاصصة والطائفية وهذا في مقابل ذاك؛ هذه قيم وهذا نموذج إصلاحي متقدم هو في ملك الأمة لصالح الإنسانية وينبغي أن يتعامل معه كذلك. وحتى الذين قد ينظرون إليه نظرة قاصرة في مرحلة من المراحل عندما تمتد التجربة -كما يحصل اليوم- في بلدان كثيرة في العالم، داخل الوطن العربي، داخل عالم المسلمين في العالم يصححون نظرتهم، عندها ينظرون إليه باعتباره يدًا إيجابية ممدودة جاء لصالح الناس؛ ليس له مشروع سري أو وهمي، ليترك هذا أو يلحق الآخر بثقافته الشخصية أو يصبغ الناس جميعًا بصبغة واحدة، أو يحولهم إلى أجزاء، ليست القضية شيئًا من ذلك أبدًا.
نوزاد صواش: ونحن أمام واقع، يمكن أن نرصده في كل مكان.
سمير بودينار: بالتاكيد، ثم إن غاياته وأهدافه، هذه الأشياء كلها تبدو إلى جانبه صغيرة جدًا. الفكرة هنا هي إعادة بناء حضارة كامنة.. إعادة بعث إنسان جديد رسالته رحمة للعالمين في كل مكان. أين هذه الغايات والأهداف الكبرى من هذه الأشياء التي لا أريد أن أصفها بأوصاف لا تليق.
إذن القضية جوهرها تعالوا انظروا.. قوّموا فكروا.. انقدوا ليس مهمًا.. لكن المهم أن نعرف المشروع على حقيقته.. أن نفهم هذا النموذج فهمًا سليمًا، لأنه فعلاً يمثل عنصرًا أساسيًا في الاجابة على أسئلة المستقبل؛ ليس بالنسبة للإنسان في هذه المنطقة أو في عالم المسلمين فحسب، ولكن في أن تصل الإنسانية جميعًا إلى بر الأمان.
نوزاد صواش: ربما لا توجد تجربة كتجربة الخدمة تفتح أبوابها للجميع، يأتيها زوار من كل أنحاء العالم.. من كل الثقافات.. من كل الأديان.. تفتح لهم أبواب مؤسساتها على مصارعها.. تعالوا انظروا اسألوا، قيّموا. سؤال أخير بجمل قصيرة دكتور جكيب ما الخدمة والأستاذ في جملة واحدة؟
محمد جكيب: الخدمة بالنسبة لي هي “المنظومة الإسلامية كما عاشها الرسول والصحابة في مرحلة من المراحل بروحها في الوقت الراهن. والأستاذ هو ذلك الربان الذي له دراية بخبايا القيادة وهو يعرف متى يلتف يمينًا ومتى يلتف في هذا الاتجاه ومتى يتوقف ومتى يسير وله عين ثاقبة ترى الأفق بنظرة. هذه الروح يستمدها من هذه المنظومة التي يتفاعل معها قلبيًا.
نوزاد صواش: نعم، دكتور سمير.
سمير بودينار: طبعًا الأجوبة المختصرة ليست سهلة؛ الخدمة هي من تجليات بركة الوحي في حياة الأمة “القرآن” العابر للزمان والمكان في بركاته، هي استجابة هذه الأمة لدعوة أدركت بفطرتها ووعيها التاريخي أنها دعوة صادقة، وأنها رؤية تأخذ بيد الناس إلى المستقبل ليعيشوا دينهم بمقتضى عصرهم وهذا هو الذي يفسر طاقتها وفعاليتها في كثير من البلاد. الأستاذ فتح الله كولن رجل استثنائي، يتحمل مسؤوليته وحظه من ميراث النبوة، الذي هو ميراث العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، ويقوم بمسؤوليته في تحمل هذا الميراث وهذه الأمانة في حدودها القصوى. ولذلك كان رجلاً بهذا القدر من التأثير والفعالية والاقتداء بالنسبة للناس في كثير من أنحاء العالم.
نوزاد صواش:شكرًا جزيلًا، كان لقاء طيبًا دسمًا يحب الإنسان أن يمتد به لكن نكتفي بهذا القدر الآن. أشكركما على هذه الأفكار النيِّرة التي نثرتموها بين أيدينا بمنتهى السخاء.
Leave a Reply