حين انطلقت القوى والكيانات الدولية، والشركات متعددة الجنسيات والقوى الاحتكارية، وراحت تُرسي سلطانها على الأرض تحت عنوان العولمة، انطلقت بالتوازي زُمَر من شباب الخدمة ورجالها الطيبين، يسعون هم أيضًا إلى أن يضعوا أرجلهم على الطريق، ويبدؤوا في غرس بذور الخدمة عبر الأقطار والأصقاع التي وصلوها كطلائع مسلمة تملك من المال قدرًا ضئيلاً، وخبرتها في التثمير محدودة، ولكن لها طفوح إيماني قوي يجعلهم يتقبلون تحمُّل التحديات، ويعملون على تخطّيها بالصبر والتدبير والاستعانة بالله.

أدرك “كولن” أن الرأسمالية التي انفسح لها الطريق عريضًا، ستحمل للمجتمعات مزيدًا من شرور الربا والاحتكار والابتزاز. وكلها أمراض وإن واتاها الظرف الجديد، وساعدها على التوسع والازدهار، فإن ذلك لن يدوم ولن يستمر إلا لبعض الوقت.

لقد كانوا تعلموا في دروس الوعظ والتوجيه التي داوموا عليها سنوات وسنوات في حلقة أستاذهم كولن ومجالسه وخطبه، أن الأعمال الكبرى في التاريخ بدأت صغيرة، بل بدأت في صورة أفكار، ثم تحولت بالإصرار والعزيمة إلى برامج وخطط ومنشآت حازت موقعها في تاريخ الإنسانية.

“كولن” ونقد الرأسمالية

كان “كولن” يدرك أن الرأسمالية التي انفسح لها الطريق عريضًا، ستحمل للمجتمعات مزيدًا من شرور الربا والاحتكار والابتزاز. وكلها أمراض وإن واتاها الظرف الجديد، وساعدها على التوسع والازدهار، فإن ذلك لن يدوم ولن يستمر إلا لبعض الوقت؛ لأن نظم التعامل الجائرة والقائمة على أخلاقيات النهب والاستئثار، مآلها إلى السقوط، وأنه كما سقط النظام الشيوعي لخروجه عن حدود الفطرة، ومخالفته روح المنطق الاجتماعي السوي، لا محالة سيسقط النظام الرأسمالي الذي يرتكز هو أيضًا على طبيعة شرسة تنافي مبادئ العدل والتعاون التي أرساها الله قاعدةً للاجتماع البشري، وشددت عليها رسالات السماء، وهي توجّه الإنسان نحو الجادة القويمة.

المآل المشؤوم

لم يكن منطق الأشياء يحتمل أن تجاري تلك المجموعاتُ العزلاءُ من طلائع شباب الخدمة ترساناتٍ عالمية لها النفوذ والصولة والإمكانات اللامحدودة على التمدد في الأرض، وفي أقطار السماء، لكن كولن، العقل المجهّز لتلك الطلائع الخدمية، والمقحم لهم في الميدان، كان متيقنًا من أنه يقوم بما يقوم به، في إطار فهم نوراني، يؤكد له أن ساعة النهوض قد أزفت، فالقوى الشيوعية التي ظلت سادرة في غلواء تجبرها قد انهدت بلا مقاومة، مُؤْذِنَةً بتحقق وعد الله لعباده المؤمنين المستضعفين بأنه سيورثهم الأرض، بل لقد كان كولن واثقًا من أن المصير الدماري نفسه ستعرفه كل قوة باغية أخرى على وجه الأرض.

لطالما كانت خطب “كولن” المتنبئة بالمآل المشؤوم للطغاة ممن حادُّوا الله واستهانوا بالروح، تثير السخرية، بل وتسبب له الملاحقات. لقد ظلت معاناته تتزايد؛ نتيجة رفضه أن ينساق في نهج الإنكار.

طالما كانت خطبه المتنبئة بالمآل المشؤوم للطغاة ممن حادُّوا الله واستهانوا بالروح، تثير السخرية، بل وتسبب له الملاحقات. لقد ظلت معاناته تتزايد؛ نتيجة رفضه أن ينساق في نهج الإنكار.. وكلما أمعنوا في العمل على قهره وتصفيته، أمعن هو في الجهاد والمناضلة، لا تزيده مظاهر التربب إلا قوة وإيمانًا بأن النصر قريب، بل لقد لبث يتوقع أن خراب المعسكرين كان يتسارع ويقترب من أجله باطراد وتصاعد قوتهما الضاربة، وتمادي الأنظمة الأيديولوجية المرتبطة بهما في البغي والعدوان. وكان أمرًا طبيعيًّا أن يقرأ كولن في واقعة سقوط الاتحاد السوفيتي أول نُذُر الله المتحققة، لذا لم يتردد في تجييش ما أمكن أن يحثه من تلاميذ ومحبين، وأن يدفع بهم نحو الآفاق، في اتجاه صنع عولمة من نوع جديد، عولمة لم يكن لها- قطعًا- ما تعتد به، قياسًا إلى عدة وعتاد وسيطرة القوى العالمية التي تنافست فيما بينها على اقتسام الأرض واحتكار السوق، لكن كولن كان يدرك أنه بتلك الزُّمَر القليلة كان يدشن المسيرة التي طالما حلم بها وحلمت الأجيال المقموعة من أهل الإيمان. كان يعي بامتياز مغزى قصة سباق الأرنب والسلحفاة.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ125 – 128.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.