في ليلة الإسراء والمعراج الموافق 6 إبريل/نيسان 1986م افتتح مسجد “جَامْلِيجا” فألقى الأستاذ فتح الله أول موعظة بعد نحو ست سنوات من الانقطاع؛ أفصح فيها عن آلامه وأشواقه إلى الوعظ وإلى الجيل الجديد، فكان يحكي ويبكي كما عهدناه في الوعظ.
سافر للحجّ في 6 يونيه/حزيران 1986م، وأثناء حجه صدرت مذكرة باعتقاله بناء على دعوى ضده، فأصر أصدقاؤه أن يجاور في المدينة المنوّرة، فأبى؛ أراد أن يثبت براءته، فلو هرب لكان ذلك إقرارًا بخطأ؛ لذا خاطر وتجشم الصعاب، فتسلل من سوريّا إلى كِلِيس فإزمير ولم يُقبض عليه، وسلّم نفسه هناك إلى شرطة الطوارئ، فلما حققوا معه ثبتت براءته وأُخلِي سبيله.
صدر أول عدد لمجلة “يَني أُمِيد (الأمل الجديد)” في يونيه 1988، فبدأ يكتب المقال الرئيس للمجلة، فالمقال الأول عنوانه “في رحاب الجو المتواضع لـلأمل الجديد”.
وفي 13 يناير/كانون الثاني 1989م بدأ مواعظه في جامع “والدة سلطان” بأُوسْكُدار في إسطنبول وموضوعها رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم، وجُمعت في كتاب “النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية”، واستمرت حتى 16 مارس/آذار 1990م؛ ولهذا الكتاب مكانة خاصة بين كتب السيرة، فهو يعبِّر عن فقه الأستاذ فتح الله لحياة النبي صلى الله عليه وسلم، بيّن فيه أن كل مرحلة من حياته صلى الله عليه وسلم لها وجه يضيء لنا الطريق اليوم، وتمثل نموذجًا حيًّا يأتسي به المسلمون، فهو ليس سردًا تاريخيّا معرفيًّا، بل بحث حياته صلى الله عليه وسلم كأنها كتاب، فأمعن في كل سطرٍ فيه وحلّله، ويجلِّي الكتاب حبّه الجمّ للرسول صلى الله عليه وسلم، فكلّ جملة فيه تقطر حبًّا وتوقيرًا، استهل الكتاب بهذه الكلمات: “إن تسليط الأضواء على شخصيته السامية صلى الله عليه وسلم، وعرْضَها وبيانها، ثم تقديمها بوصفها منقذ البشرية، وإكسير المشكلات المستعصية على الحلّ والأمراض المزمنة، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له؛ كل ذلك كان رغبة ملحة لديّ – كما هي عند كثيرين – وهاجسًا من هواجس فكري ومشاعري، وموضوعًا مهمًّا لا سبيل للوقوف أمام سحره وجاذبيته أو الفَكاك منه.
إنه صلى الله عليه وسلم فخر الإنسانية جمعاء… فمنذ أربعة عشر قرناً يقف وراءه أكبر الفلاسفة وأعظم المفكرين وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم الذين زينوا سماء الفكر عندنا.. يقفون وراءه خاشعين قد عقدوا أيديهم أمامهم وهم يخاطبونه قائلين: “أنت الذي نفخر بانتسابنا إليك”.
فلو عرفته البشر، لجُنّوا عليه، وهاموا في حبِّه، فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم إذا بأعينهم تفيض من الدمع شوقًا، فيُهرعون للدخول إلى حضرته الطاهرة وإلى عالم النبوة، وجَوّه النقي، وترسلهم الريح إلى حضرته، لتبعث من رماد القلوب نار العشق الخامدة”.
ويرسم “النور الخالد” معالم فكر الأستاذ فتح الله من خلال أسلوبه وفقهه لحياة نبينا صلى الله عليه وسلم وتصويره لها، لا سيما أنّه لا يكترث بحركة أو فكرة لم تصدر عنه صلى الله عليه وسلم.
لم يقتصر على خطبة الجمعة، بل كان يعظ كل أَحَد في مساجد السليمانية، وبَنْديك، والسلطان أحمد، وباقِرْكُويْ يَني مَحلّه في إسطنبول، وحِصار وشادِرْوان في إزمير؛ وفي رمضان كان يعظ بعد الإفطار حتى التراويح في مسجد الفاتح، واستمر يعظ تطوّعًا حتى كانت آخر موعظة له في 16 يونيه/حزيران 1991. وحضر عشرات الآلاف في الأناضول مواعظه، وتحدث في مواعظه الأخيرة عن النظام العالمي المحتمل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واقترح مد يد العون والمساعدة للمسلمين في آسيا الوسطى، صرَّح – قبل انهيار الاتحاد السوفيتي – بأنّه سينهار قريبًا، لذا فلا بدّ من عمل شيء جديد، جاءت تطلعاته هذه بغتة، وتلك براعة في تحليل الأحداث الاجتماعية والسياسية العالمية، ثم إنّه ضرب في وعظه في المساجد بنصيب من معاناة تكشف عنها انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن آلام من يرزحون تحت وطأة الاحتلال، كان يتألّم لأجلهم حتى لكأنه يكاد يخرّ من على كرسيّه مغشيًا عليه، فتتوسل العبرات إليه، عِلاوةً على أنّه يحض أبناء الأناضول على مساعدتهم وتبنّي أمر أحفادهم، فسرعان ما استجاب الناس لدعوته، وفتحوا مدارس تركية في العالم خاصَّةً في آسيا الوسطى.
وفي سنة 1992م زار أمريكا وعاد فيها الرئيسَ التركي “طُرْغُوت أُوزال” أثناء علاجه بعدما أُجريت له عملية جراحية.
وفي يوم الاثنين 28 يونيه/حزيران1993 م توفيت والدته السيدة رفيعة في إزْمير، فأمَّ الناس في الصلاة عليها يوم الأربعاء بمسجد كلية الإلهيات. يقول: “هي سبب وجودي، وأوّل معلِّمة ومرشدة في رحلتي التعليمية.” وعن منزلة الأمّ يقول: “الأمّ فوق كلّ الكائنات الفانية، تمشي ورأسها في السماء والجنة تحت قدميها، عزيزة عزّةً تجعل من تراب حذائها كحلًا لعيوننا، كريمة كرامةً تبلغ بالشفاه التي تُقبِّل قدميها مقام الشفاه التي تسجد تحت العرش، أنينها لا ينقطع، تئن ما عاشَت وتتألم…”