لقد ناصرتْ حركةُ التنوير الغربي -التي كان كانط جزءًا منها-الأفكار حول الكرامة الإنسانية المتأصلة، وهو ما أحدث تغييرات اجتماعية جذرية في القرن الثامن عشر وما بعده. وبالطبع، فإن هذه الأفكار ليست خاصة بالتنوير الغربي فحسب، إذ يؤكد المفكرون والكتَّاب في شتى أنحاء العالم على تلك المفاهيم في إطار قواعدهم الفلسفية أو الدينية أو الثقافية الخاصة بهم. فالعلماء المسلمون -على سبيل المثال-منذ قرون مضت ومن مختلف أنحاء العالم، يفسرون القرآن بتفسير يعبر عن القيمة الإنسانية الأصيلة والكرامة الأخلاقية. ويعتبر عمل كولن مثالاً للباحث الإسلامي الذي يؤكد على “الصوت” القرآني، مع الإصرار على الجمال والقيمة المميزين للبشر. وفي الحقيقة، يجد كولن في القرآن وغيره من المصادر الإسلامية إشارات قوية إلى الكرامة الإنسانية في المقام الأول، وهو لا يربط مثل هذه الإشارات بالقرآن بعد تحديدها عن طريق وسائل أو مصادر مختلفة. ويشير كولن بشكل متكرر إلى أجزاء من القرآن عند الإجابة على أسئلة عن الجهاد والعنف والإرهاب واحترام الحياة الإنسانية بشكل عام (وليس حياة المسلم فقط). وفي هذه الأقسام من أعماله، يتضح تناغم كولن مع أفكار كانط، رغم أن كلاً منهما يؤسس تعبيراته الخاصة عن القيمة الإنسانية الأصيلة والكرامة الأخلاقية من منظورات مختلفة اختلافًا كليًا.

يكرر كولن أن البشر هم مركز الكون ومعناه، وبالتالي فهم يمتلكون قيمة أكبر حتى من قيمة الملائكة، فالبشر -من خلال أوجه نشاطهم وتفكيرهم- يعطون للحياة جوهرها.

يتحدث كولن عن أن للبشر القيمة العظمى -في مقابل الملائكة أو الحيوانات-بصفتهم شهودًا ومفسرين للكون. فكونهم شهودًا يجعلهم انعكاسًا لبعض صفات الله ومرايا للكتاب السماوي للكون. ومن دونهم لا تكون هناك معرفة بالكون ولا يكون هناك أحد أصلاً لكي يعرف الكون، يكرر كولن أن البشر هم مركز الكون ومعناه، وبالتالي فهم يمتلكون قيمة أكبر حتى من قيمة الملائكة، فالبشر -من خلال أوجه نشاطهم وتفكيرهم-يعطون للحياة جوهرها. فيقول:”الإنسان هو جوهر الوجود والعنصر الحيوي فيه، وهو المؤشر والمقوم الأساسي للكون، فالبشر هم مركز الخلق، وكل ما عداهم -سواء كان حيا أو غير حي-يشكل دوائر متمحورة حولهم… وبالنظر إلى كل ذلك التكريم الممنوح للإنسانية مقارنةً بكل ما عداها من مخلوقات، يجب أن يُنظر إلى الإنسانية باعتبارها الصوت الذي يعبر عن طبيعة الأشياء، وطبيعة الأحداث”[1].

إذن، فيما ينادي كانط بوجود قيمة متأصلة للبشر تنبع من كونهم كائنات عاقلة من خلالها يصبح للقانون الأخلاقي وجود عملي في هذا العالم، يتحدث كولن عن قيمة البشر باعتبارهم الخلفاء الوحيدين الذين يمكن من خلالهم التعرف على كتاب الله من المخلوقات، والتعبير عن عجائب الوجود. وفي الحالتين، نجد البشر -كأفراد أو كمجموعات-لا غنى عنهم بالنسبة للمقومات الأساسية للوجود، والتي هي الأخلاق التي يدركونها بالعقل أو جميع أشكال المعرفة والحكمة والمحبة التي يكتسبونها من كونهم انعكاسًا لأسماء الله وصفاته.

الحب في الحقيقة هو زهرة عقيدتنا.. هو قلب لا يشيخ أبدًا. فكما نسج الله ذلك الكون على مغزل الحب، فإن الحب هو دائمًا ذلك اللحن الساحر الذي يتردد في صدر الوجود.

نجد أن كولن ينسب القيمة الإنسانية إلى الله، فالإنسانية أو الوجود الإنساني هبة لا يجوز التعدي عليها أو انتهاكها، ومن ثم فهي الأساس في كل ما أمر به الله -كحماية الناس والحفاظ على حياتهم-وكل ما نهى عنه -كإيذاء الناس أو سرقة مالهم-. ويرى كولن أن هذه النواهي تتعارض تمامًا مع روح المحبة التي يصفها بأنها “قلب الإسلام”، فيقول:”الحب في الحقيقة هو زهرة عقيدتنا .. هو قلب لا يشيخ أبدًا. فكما نسج الله ذلك الكون على مغزل الحب، فإن الحب هو دائمًا ذلك اللحن الساحر الذي يتردد في صدر الوجود”[2].

وتبدو روح منهج التحليل الخاص بكانط واضحة لدى كولن، وإن كانت تنبع من إطار مختلف تمامًا، وهو نظرة الإسلام الفلسفية الدينية للعالَم. فالقيمة المتأصلة للإنسانية -والتي تصل إلى حد القداسة-تتطلب حماية شاملة وتحرِّم بشكل مطلق أيَّ اعتداء عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت

* المصدر: د. جيل كارول، محاورات حضارية (حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني)، دار النيل، مصر، 2011، ص42.

* ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر

[1] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance, 116

[2] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance,8