إن الناظر في القرآن الكريم نظرة متأنية سيرى أنه يحلّل المجتمعات في إطار مبادئ معينة.. وفي نتيجة تلك التحليلات تتبلور طبيعة تلك المجتمعات وتبدو للعيان واضحة جلية.

إنه في هذه التحليلات لا يصرّح بالأسماء، بل يستخدم أسلوبًا من نمط فريد يجعل تلك المجتمعات تنجلي وتتراءى ملامحُها للعين من فورها، بحيث لا تدع حاجة إلى أن يكون الإنسان عالمًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا حتى يستطيع فهمها وإدراكها؛ لأن جميع اللوحات التي يرسمها القرآن لهي من وضوح التعبير بحيث لا تدع مجالًا لما يُناقضها.

المشهد الذي كان يُعرَض على شاشة القرآن لم يكن مشهد الكفار بأشخاصهم بل الذي كان يُعرض هو وصف الكفر، وكذلك لم يكن المعروض هو المنافق بل النفاق.

الخوف من اكتشاف السرائر

ولذلك كان الناس في عصر السعادة (العهد النبوي) سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المشركين أو المسلمين ترتعد فرائصهم خوفًا من أن يفتضح أمرهم وما يدور بدواخلهم .. ومن بين هؤلاء كان المسلمون ــ بالأخص ــ يشعرون دائمًا بالحاجة إلى أن يُلملموا شمل قلوبهم وشتات وجدانهم وضمائرهم تجاه الوحي السماوي؛ حيث كان قائلهم يقول: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخاف من أن يدور على قلوبنا شيء، مع العلم بأنه لا يصرح بالأسماء، ولكننا كنا نبحث عن مهرب جراء ما كانت أنظارنا تُلفَت إلى عِظَم الذنب الذي نقترفه وما يترتب على ذلك من العقاب الأخروي.

ذم الصفة لا الذات

وأكثر النقاط التي تلفت الأنظار في مثل هذه الآيات هي أن القرآن لا يذكر الأشخاص والمجتمعات بألقابهم وأسمائهم بل يتناولهم بأوصافهم. بمعنى أن المشهد الذي كان يُعرَض على الشاشة لم يكن مشهد الكفار بأشخاصهم بل الذي كان يُعرض هو وصف الكفر ليس إلا، وكذلك لم يكن المعروض هو المنافق بل النفاق، وليس الفاسق والضالّ بل الفسق والضلال ذاتهما.

والمأمول من رجال العلم المهتمين بقضايا الأفراد والمجتمعات أن يستنبطوا من خاصية القرآن هذه دروسًا وعِبَرًا عظيمة.

جُرِّدت تحليلات القرآن الكريم للأفراد والمجتمعات من الأشخاص، ولم يُنظَر إلى الأفراد بأسمائهم بل بخصائصهم وصفاتهم.

استخدام أسلوب التعميم

ففي هذا الإطار يتميز القرآن بأنه يستعمل في تحليل الأفراد والمجتمعات أسلوب “التعميم”؛ بحيث إنه يمكن ــ دائمًا ــ مشاهدةُ السمات العامة للمشركين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمسلمين وغيرهم في سطور القرآن أو في ثنايا سطوره .. وهذا مبدأ في غاية الأهمية بالنسبة لنا، وعلى منواله نستطيع أن نؤسس علاقاتنا مع الآخرين سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات.. فهذه الأمور الآنفةُ الذكرِ من الأهمية بحيث إنها تُعلِّمنا كيفية إصلاح الأعطال، وماذا نُقدِّم للآخرين، وكيف نُقدّم ما نقدمه.

استخدم القرآن الكريم الأساليب البَنَّاءة بدلًا عن النقد الهدَّام.

ويمكن أن نورد أهم المميزات البارزة التي تلفت الأنظارَ في تحليل القرآن للأفراد والجماعات كما يلي:

1 ــ مراعاة المصالح الفردية والاجتماعية.

2 ــ جُرِّدت التحليلات من الأشخاص، ولم يُنظَر إلى الأفراد بأسمائهم بل بخصائصهم وصفاتهم. وبهذه الطريقة تم تسجيل قُبحِ تلك الأوصاف مع التمويه ــ نوعًا ما ــ على الأفراد بين ذويهم، وعلى المجتمع ضمن مُحيطه من المجتمعات الأخرى.. وهكذا يكون القرآن الكريم قد دلَّ الفرَد والجماعةَ إلى الطريق المؤدِّي بهم إلى المثالية، دونما أن يُشعرهم بشيءٍ من الضيق أو الحرج.

3 ــ مراعاة آداب المعاشرة المشروعة وقواعدُها وأصولها التي تلقَّاها المجتمع بالقبول.

4 ــ استخدام الأساليب البَنَّاءة بدلًا عن النقد الهدَّام.

5 ــ مراعاة مبدإ الإيجاز بأقصى قدْر ممكن، والتعبير عن القضايا بأساليب موجَزة مختصرة للغاية.

المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017، صـ169، 170.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية، وبعض الجمل من تصرف المحرر.