مدارس حركة الخدمة تُقدّم تعليمًا وتربيةً في غاية الحُسنِ والجودة، وقد ثبت هذا الأمر بحصولها على أعلى الدرجات وأرفع القلادات والأوسمة خلالَ حقبةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ، وذلك عن طريق المسابقات العلميّة في شتّى بقاع العالم، ناهيك عن الْتِحاق خريّجِيهَا كلِّهم تقريبًا بالجامعات، ووفقًا لرأي الصحفي “خلوصي طُورْغُتْ (HulusiTurgut)الذي نَشَرَ سلسلةً من المقالات حول تلك المدارس استمرت ثلاثة أسابيع في صحيفة “القرن الجديد (YeniYüzyıl)” ما بين 15 يناير/كانون الثاني (1998م) – 4 فبراير/شباط (1998م) فقد نافست هذه المدارس -وما تزال- مثيلاتها في تركيا في مجال المسابقات العلمية، ونظرًا لنجاحاتها فإنَّ الملحقيّات والبعثات الأجنبية في الدول التي توجد بها قد فضّلتها لأبنائها بصفةٍ عامة.

المدارس التي ارتبط ذكرها بـ”كُولَنْ” تهدف إلى بناء جسور بين الدِّين والمؤسسات العلمانية في إطار مشروع المجتمع المدني

مدارس بأعلى التقنيات

وقد أجرى “بَكِيمْ أَغَائِي (BekimAgai)” الباحث التربوي المقدونيّ المعروف عالميًّا وداخليًّا في ألمانيا، وأحد أفراد المجموعة البحثية التابعة لوقف “ولكس واجن (Volkswagen)” الألماني دراسةَ دكتوراه حول هذه المدارس، وقد قال ما نصّه:

“لقد أُحسِنَ تجهيزُ هذه المدارس إحسانًا، وهي تُقدِّم تربيةً وتعليمًا يَبُزُّ أيَّ مدرسة أخرى في المنطقة، وتُلمسُ نتائج هذا في صورة نجاحٍ عظيمٍ جدًّا في الإطار المحلّي، بل والعالميّ أيضًا”.

مدرسو مدارس الخدمة تربويُّون جيّدون وفدائيّون في الوقت ذاته، وهذه نقطةٌ مهمّةٌ جدًّا لفتَتْ انتباهَ جميعِ المراقبين، وأكَّدوا عليها بصفةٍ خاصّة.

وهذه المدارس لا تكتفي بتقديم تعليم عالي المستوى فحسب، بل إنها -علاوةً على ذلك- تقدّم تربية في غاية الرقيّ والجَودة، ويعبّر “بكيم” عن هذا بقوله:

“إنهم كما يُعلِّمون طلابهم العلوم التطبيقيّة فإنهم إلى جانب ذلك يُربُّونهم ويؤدبونهم بأدبٍ رفيعٍ ليكونوا أناسًا نافعين للآخرين”.

مدارس أحدثت تَغيًّرًا أخلاقيًّا

وبذلك يبدأ البناء الأسري يتأسس من جديد بعد أن بدا منهارًا في أماكن كثيرة، وفي ظلِّ هؤلاء الطلاب المداومين على تلك المدارس تُلَملِمُ كثيرٌ من العائلات المتفرِّقةِ شملَها من جديد، ووفقًا لما سجّله “جَنْكْ قُورَايْ”:

“فإنهم يُنَشّئُون الطلاب ويربّونهم على خصالٍ كادت تنمحي من بلدنا مثل: احترام الكبير، ومحبة الصغير، والتسامح والصبر والخير والاستقامة “.

الخاصية الأهمّ التي تميّز مدارس الخدمة عن غيرها من المؤسسات التعليمية أنَّها تُشَكِّلُ وفاقًا وسلامًا اجتماعيًّا ومناخًا من التسامح والطمأنينة.

وعلى حين يتحدث الصحفي “علي بَايْرَامْ أُوغْلُو (AliBayramoğlu)” عن انطباعاته المتعلّقة بتلك المدارس يقول: “إنها أحدثت تغيرًا أخلاقيًّا لدى الأطفال، وغَرَسَت في الطلاب احترامًا رائعًا يعتمد على القيم التقليدية”، ويُضيف أنه أحسَّ بتكوُّنِ نظامٍ خالصٍ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ جدًّا .

وبينما يؤكّد “خلوصي طُورْغُتْ” في سلسلة مقالاته حول المدارس أن طلّابها أقلعوا عن التدخين والكحوليات؛ ينقل “محمد أَلْطَانْ (MehmetAltan)” أيضًا ما قالته سيدتان من أولياء الأمور في “موسكو”:

“نرسل أطفالنا إلى هذه المدارس لأنها تُدرِّس باللغة الإنجليزية، ولا تُدخَّنُ فيها السجائر”.

الخاصية الأهم

والخاصية الأخرى الأهمّ التي تميّز هذه المدارس ومثيلاتها في تركيا عن غيرها من المؤسسات التعليمية ولا توجد بهذا القدر على الأقل عند غيرها أنَّها تُشَكِّلُ وفاقًا وسلامًا اجتماعيًّا ومناخًا من التسامح والطمأنينة حيث وجدت، وهي السمة البارزة التي تتطرّق إليها بالدرجة الأولى كلٌّ منْ “نوّال سَوِينْدِي (NevvalSevindi)” و”نَازْلِي إِيلِيجَاقْ (NazlıIlıcak)” مثلًا، أمَّا “محمد ألطان” الذي زار بعضًا من تلك المدارس في روسيا فيركز على النقطة نفسها قائلًا:

“تعجز أزمات المرحلة الانتقالية أن تتسلّل إلى هذه المدارس؛ فطقوس الحبّ والاحترام هي السائدة فيها، والعوائل تعلَمُ أينَ وكيفَ يعيش أطفالها، وهم مسرورن من هذا”.

مدارس الخدمة أحدثت تغيرًا أخلاقيًّا لدى الأطفال، وغَرَسَت في الطلاب احترامًا رائعًا يعتمد على القيم التقليدية.

أما “بكيم أغائي” فيؤكد على أن المدارس ما هي إلا واحاتُ استقرارٍ وسلامٍ.

والنتائج التي توصل إليها كُلٌّ مِن “جَنّتْ أَنْغِينْ دَمِيرْ (CennetEnginDemir)” و”عائشة بَالْجِي (AyşeBalcı)” اللتَين أَجْرَتَا دراسة حول المدارس الموجودة في “تركمانستان” و”قيرغيزستان” تحت إشراف أ. د. “فُوسُونْ آقُّوقْ (FüsunAkkok)” بقسم العلوم التربوية بكلية التربية في “جامعة الشرق الأوسط للعلوم التقنية (ODTÜ)” وذلك عبر لقاءات مباشرة مع الطلاب والمدرسين وأولياء الأمور فإنَّها لم تكن مختلفة عن ذلك؛ فهم -أي أولياء الأمور- أيضًا يذكرون أن الأسباب الرئيسة في تسجيلهم أبناءَهم بتلك المدارس تتمثّل في نشأة الطلاب مُتحَلِّينَ بالأخلاق، صادقين، منظمين ومجتهدين، يحسنون معاملة أبويهم وأصدقائهم إلى جانب نجاح تلك المدارس وتفوقها في تعليم اللغات والعلوم الطبيعية والحاسوب .

مدرسو مدارس الخدمة

وثمَّةَ شأنٌ آخر يجب التأكيد عليه فيما يتعلّق بالمدارس هو أن المدرّسين تربويُّون جيّدون وفدائيّون في الوقت ذاته، وهذه نقطةٌ مهمّةٌ جدًّا لفتَتْ انتباهَ جميعِ المراقبين، وأكَّدوا عليها بصفةٍ خاصّة، وتُبَيِّنُ كُلٌّ من “جَنّتْ أَنْغِينْ دَمِيرْ” و”عائشة بَالْجِي” أنَّ المدرسين والإداريين أقاموا علاقات طيّبة جدًّا بين المدرسة وبين أولياء الأمور، وأنَّ أولياء الأمور مسرورون جدًّا من هذا الأمر، علاوةً على أنّ المدرّسين يُساعدون طلّابهم دومًا، ويتصرّفون بإيجابيّة شديدة تجاه أولياء الأمور، ويلفت الباحث الاقتصادي “مصطفى أُوزَلْ (MustafaÖzel)” كذلك الانتباه إلى هذه النقطة التي تحظى بالمرتبة الأولى في انطباعاته فيقول:

مدارس الخدمة لا تكتفي بتقديم تعليم عالي المستوى فحسب، بل إنها -علاوةً على ذلك- تقدّم تربية في غاية الرقيّ والجَودة.

“تتراوح أعمار المدرسين الأتراك ما بين 20-25 عامًا؛ فكلّهم شبابٌ ومثاليّة، يُفهم من كلّ أحوالهم أنهم قَصَرُوا يومَهم على تربية طلابهم وتعليمهم، أما رواتبُهم الشهريةُ فكانت مقصورة على قدر احتياجاتهم الضرورية، أي إنَّ ما يدفعُهم لهذا العمل ليس المقابلَ المادي، بل الفكرةُ المثالية”.

المدارس ودورها في بناء جسور التعايش

وتوضح “بَرْنَا تُورَامْ (BernaTuram)” من جامعة “ماكجيل (McGill)” الأمريكية أن المدارس التي ارتبط ذكرها بـ”كُولَنْ” تهدف إلى بناء جسور بين الدِّين والمؤسسات العلمانية في إطار مشروع المجتمع المدني، كما تذكُرُ أنَّ كُولَنْ يضطلع بدورٍ مهمٍّ في تكوّن المجتمع المدني في تركيا وانضمامه إلى المجتمع الدولي، ثم تضيف قائلةً:

“إن المقررات الدراسية المعتمدة فيها لا تقدم الإسلام وتركيا على ما سواهما؛ فالتعليم فيها علماني، إنها لا تدرس تعليمًا دينيًّا، وإنّما تُدرِّسُ تاريخ الأديان، ومن هذه الناحية يتّضح أن المدارس لا تركّز على مصالح خاصّة بالذين بَنوها، ناهيك عن أن تركز أو تضع قضايا تركيا ومصالحها القومية في الصدارة، ومع هذا ومهما كانت اللغة الإنجليزية هي لغة التعليم الرئيسة في تلك المدارس؛ إلا أن فتح الله كُولَنْ يهدف إلى جعل اللغة التركية لغةَ تواصلٍ وتفاهمٍ عالميّة، كما أنَّ المدرسين الذين تحدثتُ معهم تطرّقوا إلى أهمية إجادة اللغة التركية وحُسن استخدامها، والطلاب الذين التقيتهم في كازاخستان يعرفون التركية جيّدًا، ويمثّلُ الخريجون جسرًا ممتدًّا ما بين تركيا وكازاخستان.

مدارس الخدمة تُقدّم تعليمًا وتربيةً في غاية الحُسنِ والجودة، وقد ثبت هذا الأمر بحصولها على أعلى الدرجات وأرفع القلادات والأوسمة خلالَ حقبةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ، وذلك عن طريق المسابقات العلميّة في شتّى بقاع العالم.

المدارس تمحو التصرفات والسلوكيات غير الأخلاقية الباقية من العهود السابقة، ويتكامل النجاح المتحقق في المسابقات العلمية العالمية، ويتجانس مع عنصر الثقافة والنظام والتعليم الأخلاقي.

والنموذج التعليمي الذي تتبعه المدارسُ يعمل على تحقيق التوافق بين المفاهيم والتقاربات المتصارعة ما بين الدِّين والعقل من ناحية والتعليم العلماني من ناحية أخرى، وبين الحداثة والتقاليد، ويُلاحظ في المدرسين تضحية وتفانٍ عالٍ جدًّا، ولم تُرصد في المدارس رغبةٌ في التوسع العالمي؛ فبالرغم من الشكوك والرِّيَبِ التي تردَّدَتْ من أن الأتراك سيحلون محَلَّ النفوذ والتفوق السوفيتي إلا أن المدارس تضطلع بمهمّة بناء جسرٍ للحوار بين الدول والحضارات، بينما القِيَم الإنسانيَّةُ تتصدّر قائمة أهدافها كلها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ164، 165، 166.

ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.