سيطرت أنباء الانقسامات داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا منذ 2002 على المشهد السياسي بالبلاد مؤخرًا. فقد أعلن الرئيس التركي السابق “عبدالله جول” استقالته من الحزب، وكذلك وزير الاقتصاد الأسبق “علي باباجان” استقالته من الحزب في يوليو 2019، ومؤخرًا استقال رئيس الوزراء الأسبق وزير الخارجية “أحمد داوود أوغلو”، وقد لحق بهم أكثر من 800 ألف من أعضاء الحزب بمختلف المحافظات التركية. والقادة الثلاث كانوا من أهم حلفاء “أردوغان” وأصدقائه بيد أنه انقلب عليهم وناصبهم العداء مما يؤكد أن هذه أكبر أزمة داخلية يتعرض لها الحزب الحاكم منذ نشأته. وهنا يجب أن نطرح تساؤلا هاما لماذا ينقلب “أردوغان” على حلفائه ؟ وهل جمعه تحالف مع الأستاذ كولن؟
يخطئ من يظن أن “أردوغان” يتبع إيديولوجية دينية أو مبادىء سياسية بل هو يتبع كل ما يحقق هدفه بالبقاء في السلطة حتى 2023 وربما حتى نهاية عمره.
تعد قرارات الاستقالة هذه رد فعل من “جول، أوغلو، وباباجان” على تهميش دورهم داخل الحزب منذ الانقلاب في 15 يوليو 2016 فضلا عن الحملات الإعلامية ضدهم وإنكار دورهم في تأسيس الحزب حيث اعتمد “أردوغان” على نسب الفضل لنفسه في كل نجاحات الحزب السابقة. فقد أسس هذا الحزب عام 2001 بناء علي تحالف قوي بين قادة سياسيين محافظين جدد هم (عبد الله جول، أحمد داوود أوغلو، على باباجان، رجب طيب أردوغان) وكان كلا منهم يضطلع بمهمة محددة في الحزب فقد عمل “أوغلو” على صوغ سياسة خارجية جديدة للحزب، و”أردوغان” اهتم بالسياسات الداخلية نظرا لقدرته على الحشد واقناع الجماهير، و”باباجان” كإقتصادي وضع خطة قصيرة الأجل وناجحة لإنقاذ إقتصاد بلاده من الإفلاس وجذب الاستثمارات لها، بينما نجح “جول” في توثيق علاقة أنقرة بدول الاتحاد الأوروبي، وعلى مدى 8 سنوات نجح كلا منهم في تحقيق مهمته. بيد أن الخلافات دبت بينهم إثر رفضهم سياسات “أردوغان” بعد عام 2010، والتي ابتعدت تماما عن أهداف الحزب عند تأسيسه وهي (تطبيق النظام الديمقراطي، ضمان حرية الرأى والتعبير، حل المشكلات التركية المزمنة، احترام مبادىء القانون الدولي)، فقد سيطرت النزعة الاستبدادية والتدخل في الشأن الداخلي للدول العربية علي سياسات “أردوغان”، الأمر الذي رفضه مؤسسي الحزب ودفعهم للاستقالة.
نفى الأستاذ “كولن” تمامًا وجود أي تحالف سياسي أو إيديولوجي بينه وبين “أردوغان” في أي فترة زمنية.
ونفس الموقف قد تكرر مع المفكر الإسلامي التركي “فتح الله كولن” فقد روج “أردوغان” عن وجود تحالف بينهما في بدايات حكمه ووجه له تحية خاصة بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية في 2010 ثم تنكر لهذا التحالف المزعوم واتهم الاستاذ بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة والإرهاب!
فما سر هذا التحول وهل جمع التحالف السياسي بين الاستاذ كولن وأردوغان؟
نفى الأستاذ “كولن” تمامًا وجود أي تحالف سياسي أو إيديولوجي بينه وبين “أردوغان” في أي فترة زمنية، وأكد عقد 3 لقاءات بينهما بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2002، حيث حثه الأستاذ “كولن” علي تنفيذ البرنامج الانتخابي المعلن للحزب آنذاك، الذي كان يعتمد على تطبيق صحيح للديمقراطية وإتاحة المجال لعمل منظمات المجتمع المدني وضمان حرية الرأى والتعبير. ولقد نفى الأستاذ في كافة حواراته أن يكون “أردوغان” تلميذا له لوجود خلافات جذرية بينهم نظرا لاستغلال الاخير للدين من أجل مصالح سياسية.
نفى الأستاذ في كافة حواراته أن يكون “أردوغان” تلميذا له لوجود خلافات جذرية بينهم نظرا لاستغلال الاخير للدين من أجل مصالح سياسية.
بيد أن “أردوغان” كان يروج دوما خلال الفترة (2002-2010) لوجود تحالف وثيق بينه وبين الأستاذ “كولن” ليعزز شعبيته داخل حزب “العدالة والتنمية” وداخل المجتمع التركي الذي يحظى فيه الأستاذ “كولن” باحترام كبير من ملايين المتعاطفين معه والعاملين بحركة “الخدمة”، وقد حدث ذلك بالفعل فقد دعم عدد كبير منهم حزب “أردوغان” في الانتخابات البرلمانية عام (2002-2007-2010). ثم انتقد الأستاذ “كولن” حادث “مافي مرمرة” الذي راح ضحيته 9 شهداء أتراك في مايو 2010، وانتقدت وسائل الإعلام التابعة لحركة الخدمة التدخلات التركية المستمرة في الشأن العربي الداخلي بعد عام 2011، كما انتقد الأستاذ “كولن” العنف الذي واجه به “أردوغان” احتجاجات “جيزي بارك” في مايو 2013. ثم تم الكشف عن قضايا الفساد في ديسمبر 2013 والتي أدت لاستقالة 4 وزراء بالحكومة التركية. الأمر الذي دفع “أردوغان” لإعلان الحرب علي الأستاذ “كولن” ومؤسسات حركة “الخدمة” والعاملين فيها، بعدما انتهت الحاجة لها وحقق “أردوغان” هدفه في السيطرة على الداخل التركي وتطويع كافة وسائل الإعلام والرأي ومؤسسات الدولة له. ولذا بدأ في تصفية مؤسسات حركة “الخدمة” واستهدافها. هذا فضلا عن استهداف كافة الأحزاب ووسائل الإعلام المعارضة.
سيطرت النزعة الاستبدادية والتدخل في الشأن الداخلي للدول العربية علي سياسات “أردوغان”، الأمر الذي رفضه مؤسسي الحزب ودفعهم للاستقالة.
ويرجع سبب عداء “أردوغان” لحركة الخدمة التي تقوم بأعمال ناجحة في مجال التربية والتعليم على نطاق العالم، أنها لم تتبنّ ما ادّعاه “أردوغان” بأنه “زعيم المسلمين في العالم” ولم تدعمه في ادعائه هذا؛ الأمر الذي أثار حقده، وجعله يحشد كل إمكانات الدولة التركية، ويستنفر جميع الدبلوماسيين وأجهزة المخابرات من أجل الضغط على إغلاق مدارس الخدمة وجامعاتها في العالم أو تسليمها إلى جمعية معارف، ويبذل كل ما في وسعه لإعادة أبناء الخدمة وترحيلهم إلى تركيا والزج بهم في السجون.
بيد أن أردوغان” لن ينجح في تحقيق مآربه، فقد جددت واشنطن في مطلع سبتمبر 2019 موقفها الرافض لترحيل الأستاذ “كولن” لتركيا حتى ترسل الأخيرة أي أدلة قانونية تدينه أو تربط بينه وبين محاولة الإنقلاب الفاشلة، الأمر الذى مثل صفعة جديدة على وجه “أردوغان” وهو لا يتناوى عن المطالبة المستمرة بضرورة ترحيل الأستاذ “كولن” من ولاية بنسلفانيا الأمريكية لمحاكمته في تركيا. حيث أكد مستشار وزارة الخارجية الأمريكية “جون سيتيليدي” إن الحكومة التركية لم تقدم دليل إدانة في حق فتح الله كولن؛ لذلك لن يتم ترحيله إلى تركيا ما لم يتم تحقيق الشروط القانونية اللازمة. هذه هي سيادة القانون في أي من الدول الغربية. كما وصف تقرير “الحريات الدينية في العالم لعام 2018” الذي أصدرته الخارجية الأمريكية الأستاذ “كولن” “بالداعية الإسلامية والشخصية السياسية”. مما آثار غضب الرئيس التركي وقدمت أنقرة احتجاجا على ذلك لتشعل المزيد من الخلافات بينها وبين واشنطن.
روج “أردوغان” عن وجود تحالف بينه وبين كولن في بدايات حكمه ووجه له تحية خاصة بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية في 2010 ثم تنكر لهذا التحالف المزعوم واتهمه بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة والإرهاب!
ولذا، يخطئ من يظن أن “أردوغان” يتبع إيديولوجية دينية أو مبادىء سياسية بل هو يتبع كل ما يحقق هدفه بالبقاء في السلطة حتى 2023 وربما حتى نهاية عمره، ولا يتواني عن إستغلال الشعارات العلمانية والشعبوية والبراجماتية والإسلامية المحافظة أو يخلط بينهم جميعا لحشد المواطنين وكسب أصواتهم في أي استحقاق إنتخابي قادم.