نحن البشر هبطنا على الأرض، ونزلنا بساحتها، ونصبنا خيام إقامتنا فوق ظهرها.. فلم تنكرنا، بل أكرمتنا وبالغت في قِرانا، وواست غربتنا، وأكرمت وفادتنا.. فصار لزامًا علينا أن نبادلها الإكرام، وأن نتقرّب منها، ونتعرّف عليها، ونقرأ ما بين سطورها ونتعمّق في قراءتنا، ونتعلّم منها، ونفيد ممّا تعطينا.. وهي- أي الأرض- حين تكلمنا تفصح أحيانًا، وترمز وتشير أحيانًا أخرى، ثمّ تتركنا لنستخدم مواهبنا وقدراتنا في حلِّ الكثير من ألغازها وطلاسمها، وتفسير ما غمض من رموزها، وما خفي من إشارتها… والذين يعيشون على ظهر الأرض بلا مبالاة ولا يشغلهم همُّ القرب منها والفهم عنها، فإنهم بالتأكيد قليلو الاحترام لعقولهم، لذلك كثيرًا ما تهتزُّ الأرض وتتزلزل من تحت أقدامنا احتجاجًا على جحود الإنسان وإساءة الأدب معها، بما يُرْتكب فوقها من آثام وذنوب، وما يستعر بين الناس من نيران العداوات والخصومات والحروب والدماء، وكأننا قد جئنا الأرض لكي نحوّل ما عليها من حياة موتًا، وما فوقها من مياه دمًا، وبدل أن تكون مرتعًا فائضًا بالجمال غدت بفعل حماقات الإنسان مكانًا كالحًا يفيض بالأحزان والآلام.
وأرضنا الحنون لا تنفك تبعث بنداءاتها إلى البشر الساكنين في كنفها وتقدم لهم “الشجرة” كنموذج ورمز لهذا التماسك الحميمي بين كل جزء من أجزائها، من الجذر والساق إلى الأغصان والأوراق.. وتدعوهم لكي يتخذوا من الشجرة أستاذًا ملهمًا يتعلمون على يده كيف ينسجون من توحدهم وتماسكهم، ونبْذ عداواتهم، نسيج محبّة ومودة وتعاون وتساند، وأن يصغوا إلى إلهامات الروح التي تكمن في صميم كل كائن حي، وهي تدعوهم ليرتفعوا فوق الجانب السفلي من كيانهم البشري ويرتقوا إلى جانبهم العلوي الذي يحقق لهم ما يطمحون إليه من الطمأنينة والسلام.. فكم هو مدهش أن نتعلم من “الشجر” العقل والحكمة والشجاعة الأخلاقية التي تجعلنا ألا نستنكف من التعلم من كل شيء على هذه الأرض نباتًا كان أو حيوانًا أو جمادًا، ففي كل معنى ومغزى يكتشفه المتيقظون ويغفل عنه الغافلون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر، طـ1، 2013م، صـ98/ 99/ 100.
ملحوظه: المقال كما قال الأستاذ أديب الدباغ في مقدمة الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ كولن؛ لأنه من وحي فكره، ولكنه ليس للأستاذ كولن لأنه كتب بغير قلمه، وبغير مفرداته.