استفاض الأستاذ “كولن” في استقصاء الفوارق التي تميز الدين الإسلامي وتفرده عن الأيديولوجيات الدنيوية، وسجّل مواطن الاختلاف بينهما في كثير من مكتوباته. ومن المعلوم أن الأمر مع العقيدة الدينية الحق (الإسلام) يختلف، فسواء أثبت الأتباع في عقيدتهم على حرفيه النصوص والْتزموا بصميم أصوليتها، أم توسّعوا في استقرائها – إيجابيًّا- واجتهدوا في استنطاقها تيسيراً، فإن الناتج في الأحوال جميعًا واحد. إذ إن مبادئ العقيدة الإسلامية مبادئ إنسانية، ومُثله مُثلٌ تكريمية، الآدمي بمقتضاها مشرّف من قِبَل الله، مستخلف في الكون، يستمدّ قوته من قوة الله خالق الخلق، ومسطرة الجزاء والعقاب تسري على الآدميين جميعا بمنطق واحد ومعيار مشترك.
الخلاف بين الرؤي في الإسلام، ليس حول مبدأ الانتماء إلى العبودية لله (فالرّب رب العالمين)، إنما الخلاف حول مستوى ودرجة الالتزام بمبادئ شرع الله. وعلى العكس من ذلك فإن الشريعة الْمُوسَويّة تمنع الانتماء التعبّدي مبدءاً، فلا يحقّ استيفاء مقام التهوّد إلا لمن استوفى شرط العرقية (يهوديّة الأم)، لأن وراء المعطى الديني شرطاً أيديولوجيًّا، عنصريًّا، وبذلك تختلّ المعادلة ويضيع البعد الإنساني فيها.
إن مقاصد الأيديولوجية هي مقاصد دنيوية نفعية، تمايزية، ترجّح العاجلة على الآجلة، والحصريّ على الشمولي، فيما مقاصد القرآن أخروية، احتسابيّة، شمولية.
إن الأيديولوجية توجّه النظر والوجدان نحو أهداف السلالة والحزب والعُصبة، وتربط الحشود بمنحى فكري أصم، وتُفعِّل ضميرهم نحو إكبار الذات الجمعية، بعد أن تضفي على تلك الذات صفات الامتياز والمخصوصية، وقد تأخذ الأيديولوجية صبغة استغلالية شمولية، فتدين بمنطق القوّة والهيمنة والانتهازية، وهو ما تجترحه العولمة في ثوبها الغربي الأصولي (الكتابي المحافظ).
إن مقاصد الأيديولوجية هي مقاصد دنيوية نفعية، تمايزية. إنها ترجّح العاجلة على الآجلة، والحصريّ على الشمولي، فيما مقاصد القرآن أخروية، احتسابيّة، شمولية، فالعمل الصالح في الحياة يكفل سعادتي الدنيا والآخرة.. ولا أهمّية لمكاسب الحياة إلا على قدر ما تُجَسِّدُ من مصْداقية الإيمان بالله والعمل الصالح الذي يستهدف المخلوقات جميعًا، ولا يميّز بين العباد، ذلك لأن رؤية المسلم للحياة رؤية موصولة بالآخرة وبالغيب والمابعد، من هنا كانت واقعة الوجود بالنسبة للمسلم مسترسلة، أبَدية، تبدأ بالحياة الدنيا، دار العمل، وتنتهي بالدار الآخرة، دار الحصاد.
البعد الأخروي بُعد فاصل وفارق بين المدوّنتَين الأيديولوجية والقرآنية، وإذا كان لفظ “الآخرة” قد تكرر في النص القرآني بصورة ضافية، فهو شبه غائب في أسفار العهد القديم.
الأيديولوجية تحتسب المكاسب الدنيوية، فهي تقيس نجاحاتها بما يتحقق لها في مضمار الرأسمال والنفوذ والهيمنة في الأرض (السلطان الأرضي).
إن مبادئ العقيدة الإسلامية مبادئ إنسانية، ومُثله مُثلٌ تكريمية، الآدمي بمقتضاها مشرّف من قِبَل الله، مستخلف في الكون، يستمدّ قوته من قوة الله خالق الخلق.
والإيمان الذي يعْنيه القرآن هو الإيمان بالربّ خالق الأكوان (الربّ الذي لا حاجب دونه، ولا حاجر، ولا وصيّ). وكذلك يعني بـ”العمل الصالح” كلّ جهد تتحقق به مأمورية الاستخلاف في الأرض، أي مسؤولية الإنسان حيال أخيه الإنسان وحيال الموجودات طرا، إذ حتى البيئة وما يعمرها من عوالم حيّة، يجب أن تشملها مسؤولية الإنسان، متى ما سما إلى مطمح تَبَوُّء مكانة الاستخلاف في الأرض.
———————————————
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:34-36.
ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.