إن تِيمَة النهوض والانبعاث أضحت هي القضيّة الفقهية المركزية التي يطرحها واقع الأمّة على المفكّر كُولَن، ويعرضها لسان حالها عليه، وتستفتيه بخصوصها أوضاع الشعوب المسلمة. ولقد أرسى أئمّة المذاهب الفقهية قديما أسس ثقافة العبادة وعلوم الشعائر، وكانت تلك الثقافة التعبّدية تمثّل في وقتها واجهة المقاصد التي لا محيد عنها لوضع قواعد البناء الحضاري.. وينبري اليوم رؤساء الفكر الالمعيين ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ (ص:24) لتدشين فقه النهضة وإقامة أسس الاجتهاد في مجال اليقظة والتعمير.

 “كولن” كمفكر نهضوي يرسم الخريطة التي تتحرّك عليها الأمّة، بتشخيص الأدواء، ووصف الأدوية، وتقدير مدّة العلاج، ثم يرافق بنفسه المراحل، ويصاحب الخطوات.

أهل العزم والعزائم

من فداحة النتائج التي أسفرت عنها المسيرة المؤدلجة، ومن كارثية المآلات التي انتهت إليها الأمّة وهي تلْهث وراء سراب العبث، باتت الجماهير لا تثق في حكّامها ولا في سياسيّيها. وحدهم القلةُ من الأفذاذ الذين سلخوا العمر في المنازلة والالتحام مع فئات المجتمع والشعب، أضحوا رادتها ومحلّ ثقتها، ومن تُسلِّم إليهم المقادة في حب ويقين، وتنصاع لتعاليمهم وتوجيهاتهم بلا تردّد؛ ذلك لأنها سلخت العقود وهي تراهم ملْء السمع والبصر عاكفين على العطاء، ممعنين في المناضلة ومكابدة ألوان الحرمان.. وأكبر وأقسى أصنافه انعدام العش والزوج والولد.

اختاروا الخلود فعاشوا ينجزون ما يضاعف الأجر ويؤهّل للديمومة.

وتلك -لعمري- هي بالذات آية الاصطفاء، وذلك هو عنوان البسالة والتفرّد الذي جعلهم ربّانيين بلا منازع.. وإلا مَن ذا الذي يطمع في أن يصيبه بعض غبار سنابك خيلهم وهي تطوي المدى في مضمار المقامية.. رابطوا العمر كله للحق بالحق وليس لشأنٍ يخصّهم أو مطمح يستوطنهم، إنهم أهل العزْم والكمال، يجودون علينا ببعض الحظوظ الربّانية التي نالوها بالعرق والبكاء والاستماتة.

النهوض بالتبعات

إن ما أحجمت الفئات عن المدافعة عنه من تحوّلات تطعن العقيدة والشرف والأصالة والانتماء في العمق، هبوا هم يساجلون دونه بكلّ ما أوتوا من قوة ودهاء، يستمدّون العون من الله، واثقين من أنّ الظفر في النهاية يكون للحقّ، مشفقين على الجماهير وهم يرونها تنقاد منكسة، تمتثل لما يصدر لها من أوامر وزواجر المستبدّين.. لكَم طفقت تدْمى أفئدتهم جراء أحوال الصغار التي كانوا يرون عليها أمّة النبي، والأجيال من أحفاد الفاتح.. لبثت أصواتهم تعلو وتهيب بالأمّة أن تستفيق وتعمل لأجل أن تنتقل إلى مستوى الكفاءة والقوامة.. كان يدحرهم وضع التخلف والحطة التي أَزْرَتْ بأمّتهم، ذلك لأنهم يعتبرون وضع التخلّف والانحدار وضْعٌ شاذٌّ لا يتناسب مع الشرط الإنساني، ولا تحتمله صفة التولية والتكليف التي أضفاها الله علينا نحن المحمّديين، “أورثَنا الانحطاطُ ليس التخلّفَ المادّي والترهل البنيوي فقط، ولكن عُقَدا استشرت وقمعت في الروح كل نزوع للانبعاث واليقظة. من هنا توجَّب العملُ الشمولي على التداوي ومعالجة الذات من عقد الحطة وتبعاتها المعنوية والأدبية”.

أدرك “كولن” أن تحقيق الهزّة التي تنتشل الأمّة من وهْدتها، يتم من خلال تشغيل محركات الانبعاث وبناء الهوية والتي هي الدين والتاريخ والانتساب إلى شجرة الإسلام المنفتحة على بني الإنسانية قاطبة.

 

كولن ومحركات الانبعاث

أدرك “كولن” أن النفاذ إلى تحقيق الهزّة التي تنتشل الأمّة من وهْدتها، وتعيدها إلى الجادة، إنما يتم من خلال تشغيل محركات الانبعاث وبناء الهوية والتي هي الدين والتاريخ والانتساب إلى شجرة الإسلام المنفتحة على بني الإنسانية قاطبة.

وإن خوض الأستاذ كولن لتجربة الخدمة هو -حقا- تدشين لآفاق نهضوية لا قِبَل للأمة بها. لقد عملت بعض الطرق، ومنها السّنوسية مثلا في القرن الماضي، على اتباع نظام الاكتفاء الذاتي فشجّعت أتباعها على إقامة مستزرعات في أماكن استقرارهم بالواحات وغيرها، سعيا منها إلى أن تضمن مستوى من التكفّل الذاتي، لكن تجربتها لم تخرج عن الجهد التمويني القطاعي، والمقتصر على منظومة زواياها ورُبَطها، وفي قسم من حاجاتها، ليس إلاّ.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ114 -117.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.