لقد بادرت بعض الشخصيات الإسلامية البارزة في تركيا الحديثة لبناء علاقات مع أتباع الديانات المختلفة في إطار فكرة التسامح والحوار. وقد أثمر نظام “المِلل” العثماني تجاربَ رائعة لعلاقات أكثر تناغمًا بين الأديان المختلفة؛ فلم تكن الدولة العثمانية تتكون من المسلمين فحسب، بل من العديد من المجموعات المسيحية واليهودية وحتى من بعض الديانة الزردشتية (المجوسية) أيضًا. وقبل ظهور الأفكار القومية العصرية نجح المسلمون والمسيحيون واليهود في التعايش داخل مناخ سلمي ومثمر في العصر العثماني أكثر مما كان الوضع بعد ذلك في مرحلة متأخرة من القرن العشرين. ونستطيع أن نزعم أن هذا التراث من الاعتراف المتبادل فيما بين أفراد المجتمعات ذات الديانات المختلفة يرجع -ولو جزئيًّا- إلى تعاليم بعض العلماء الروحانيين الأتراك مثل: أحمد يَسَوِي (ت. 1166م) ويونس أَمْرَه (ت. 1321م) والحاج بَيرام الولي (القرن 15 الميلادي)، وآق شمس الدين (القرن 15 الميلادي)، الذي كان شيخًا لمحمد الثاني (محمد الفاتح). وقد تحلى جميع أرباب القلوب هؤلاء في تلك المرحلة المبكرة جدًّا بروح وأفكار التسامح بين الأديان، وإلى حد ما، الحوار بين الأديان.
كولن ومفهوم الرحمة
ويُعد كولن أحد الممثلين المعاصرين لهذا التقليد الروحي، فعند دراسة فكره بتعمق يتضح أنه أحد علماء المسلمين القلائل في عصرنا هذا والذين يدعون إلى الحوار والتسامح بين الجماعات المسلمة المختلفة -التي تختلف فيما بينها في عدة جوانب مهمة- وبين أصحاب الديانات الأخرى.
وعند التأمل في أفكار كولن حول حوار الأديان نلاحظ أنه يؤصّل لفكرة التسامح في ضوء المبادئ الإسلامية الرئيسة، متخذًا “البسملة” نقطة انطلاق؛ لما فيها من تكرار لاسمي الله “الرحمن” و”الرحيم”، فإن الله تعالى يريد أن يُعلّم المسلمين بتلك العبارة -إلى جانب حِكَمها الأخرى- أن يكونوا رحماء في علاقاتهم مع الآخرين من الناس وحتى مع الطبيعة. ويرى كولن أنه ينبغي التفكر كثيرًا والوقوف طويلًا على حكمة تكرار هذه العبارة مائة وأربع عشرة مرة في القرآن.
ويقول كولن في إحدى مقالاته:
“إن الرحمة هي الخميرة الأولى للوجود، وبدونها يصبح كل شيء في فوضى، وكلُّ شيء إنما جاء إلى الوجود بالرحمة؛ ويبقى في الوجود بالرحمة، وبالرحمة يكون كل شيء في نظام”.
“…فكل شيء في الوجود يفكر في الرحمة وينطق بالرحمة ويبشر بالرحمة، وبذلك يمكن النظر إلى الكون على أنه سيمفونية من الرحمة.
كل الأصوات والأنفاس على اختلافها وتعددها، وكل الأنغام الزوجية والفردية تترنم بالرحمة في إيقاع بحيث يكون من المستحيل ألا يدركها المرء أو لا يشعر بالرحمة الواسعة التي تحيط بكل شيء.
فيا ويح الأرواح التعسة التي لا تستطيع رؤية ذلك…
…إن الإنسان -بوصفه إنسانًا- مسؤول عن إبداء الرحمة بشكل مركز تجاه المجتمع الذي يعيش فيه وتجاه الإنسانية وحتى نحو جميع ذوي الأرواح، وكلما كان رحيمًا أصبح أكثر رُقيًّا، وكلما لجأ إلى الشر والظلم والقسوة كان حقيرًا وعارًا على الإنسانية.
ويمكننا فهم تصور كولن عن نوعية الرحمة التي يقصدها هنا بشكل أفضل من خلال ما ذَكره في مقابلة أجراها معه الصحفي التركي “أيوب جَانْ”، فمن هذه المقابلة يتضح أن مفهوم الرحمة عند كولن يتسع ليبدأ من تأثره الشديد وتألّمه لضحايا الأسلحة الكيماوية المساكين في شمال العراق، ويمتدّ ليشمل رهافة حسّه التي تجعله يحترم حياة مخلوق ضئيل كالحشرة مثلًا؛ لأن التربية التي تلقّاها والمعارف التي حصّلها ترشِد إلى أن كل مخلوق مهما كانت ضآلته فإنه يسبّح ربّه سبحانه بلغته الخاصة به، ومن ثمّ فإنه يستحق الرحمة والتقدير الملائمين.
كولن وإعادة نموذج التصوف الأصيل
ونستطيع أن نقول: إن ثمة تشابهًا بين الموروث الروحي عن الطبيعة وبين منهج كولن الحديث؛ فعلى سبيل المثال يقال: إنه كان قد طُلب من “يونس أَمْرَه” ومن بعض المريدين الآخرين إحضار باقة من الزهور لمرشدهم وشيخهم؛ حيث أراد الشيخ أن يعين خليفة له، ولهذا فقد رأى أن يختبر مجموعة من تلامذته المرشحين لهذا المنصب. وفي المساء حضر الجميع وفي يد كل واحد منهم باقة من الزهور ما عدا “يونس أَمْرَه”، فقد جاء خالي اليدين، وعندما سأله الشيخ لماذا لم يأتِ بالزهور قال: “إنه كلما كان ينوي قطف زهرة كان يسمع تسبيحها؛ ولهذا فلم يستطع قطف أيّ زهرة”.
تلك القصة المعروفة ترسم صورة توضيحية رائعة للفهم الروحي للطبيعة الذي يميز المرشدين الربانيين كما يميز كولن أيضًا.
وبعد أن وضحنا كيف تتماشى نظرة كولن للرحمة مع أفكار التصوف الأصيل، يمكن لنا الآن التركيز على مفهوم “الحُبّ” الذي اتضح لنا من خلال كتاباته؛ ففي حديثه عن الحب في التقليد الروحي يركز كولن اهتمامه على أحد أسماء الله الحسنى وهو “الودود” كما تناوله الفكر الروحي، يقول كولن -ما معناه-: إنه يتوقع من المسلمين أن يعكسوا هذه الصفة في حياتهم وأن يصبحوا أمة مُحِبّة، كما كان سعيد النورسي الذي جعل الحب شعار فلسفته الخاصة. يقول كولن:
“لا سلاح أقوى في الكون من الحب”
يتضح فهم كولن للحب من خلال عباراته التالية:
“الحب هو العنصر الأساس في كل كائن موجود، وهو نور مشع وقوة هائلة تستطيع مقاومة أي عدو والتغلب عليه. الحب يسمو بكل روح تتشربه ويُعِدّها للعوالم الأخرى، وهذه الأرواح التي ذاقت الخلود وشعرت به تضحِّي بأنفسها لغرس ما تلقته في الأرواح الأخرى وغمرها به. ولأجله تتحمل جميع أنواع الصعاب حتى النهاية، تموت وتحيا مرارًا في هذا الطريق؛ وتلهج ألسنتها بـالحب عند الموت، وتشهق بالحب عند البعث”[8].
من الواضح إذًا أن مفهومَي: الرحمة والحب مبدآن أساسيان في أفكار كولن. وبالإضافة إلى ذلك فهو يدعو بصوت قوي إلى التسامح والصفح والتواضع، وهذه قيم إسلامية أخلاقية أساسية مرتبطة ومعتمدة على بعضها البعض. وفي إحدى المقالات تحدث كولن عن التسامح حيث يقول:
“إن هؤلاء الذين يغلقون طريق التسامح ليسوا سوى أشخاص وحشيين فقدوا آدميتهم…
…ونعتقد أن العفو والصفح والتسامح ستضمد الجراح وترأب الصدع طالما هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته وإلا فمعالجتنا الخاطئة ستنتج العديد من التعقيدات الجديدة وتربكنا”[9].
الأسس التي يستند عليها كولن
يجد كولن جذور هذه الأفكار في سنة نبي الإسلام نفسه ويستشهد بحديث يقول فيه : “وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ. “وأسس كولن لحوار الأديان من هدي هذا الحديث الذي يعد محورًا للأخلاق الإسلامية وفي رأيه أن الحوار سيكون النتيجة الطبيعية لتطبيق الأخلاق الإسلامية؛ أما الشخص الذي يؤمن بأفضليته على غيره فلن يرغب في الحوار، وفي المقابل فإن المتواضع الحق يملك القدرة على تسوية الخلافات بالحوار مع الآخرين.