قبل الانتقال إلى مدخل هذا الكتاب موضوع الدراسة، فقد بدا لي كلام  الإمام الذهبي رحمه الله، في سياق الحديث عن إعادة النظر في منهج فهم القرآن الكريم، حين قال رحمه الله تعالى: “ظل المسلمون على هذا يفهمون القرآن على حقيقته وصفائه، ويعملون به على بيِّنة من هَدْيه وضيائه، فكانوا من أجل ذلك أعزَّاء لا يقبلون الذل، أقوياء لا يعرفون الضعف، كرماء لا يرضون الضيم، حتى دانت لهم الشعوب وخضعت لهم الدول. ثم خَلَف من بعدهم خَلْفٌ تفرَّقوا في الدين شيعاً، وأحدثوا فيه بَدعاً وبِدعاً…وكان من بين المسلمين مَن أهمل هداية القرآن، وركب رأسه في طريق الغواية، فَلم ينهج هذا المنهج الواضح القويم الذي سلكه سَلَفه الصالح في فهم القرآن الكريم والأخذ به، فأخذ يتأوَّل القرآن على غير تأويله، وسلك في شرح نصوصه طريقاً ملتوية، فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول، وكان الذي رمى به في هذه الطريق الملتوية التي باعدت بينه وبين هداية القرآن، هو تسلط العقيدة على عقله وقلبه، وسمعه وبصره، فحاول أن يأخذ من القرآن شاهداً على صدق بدعته، وتحايل على نصوصه الصريحة لتكون دعامة يقيم عليها أصول عقيدته ونزعته، فحرَّف القرآن عن مواضعه، وفسّر ألفاظه على تحمل ما لا تدل عليه، فكان من وراء ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير…”[1]

وكأني بالإمام الذهبي يؤكد تنبيه رجال التجديد من مدرسة المنار؛ الذين سطروا ذلك في تفسير المنار بالقول ” كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها مايصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباط الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات… تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن[2].

إن إطناب الكثيرين ممن ألفوا في فهم القرآن وتفسيره في بعض العلوم من يشي وكأنهم يتجاوزون سلطنة القرآن التي يفترض أن تهيمن على ما سواه، وذلك بالحديث عن أمور لا علاقة لها بفحوى ومفهوم ما يرد بآياته الحكيمة. وكأني ببعضهم يدخل إلى القرآن ليخرج منه ويدخل في بيان أو تصحيح أو معارضة علم ما أو عقيدة ما أو بيان ما، ولا يكاد يبين بخصوص ما تحمله الآيات الكريمة من الهدى والرشاد. وذلك ما جاء واضحا في النصوص التي أشرنا إليها.

وتجاوزا لما حصل من تشويش- في عدد من التفاسير- على فهم رسالة القرآن، والذي نبه إليه عدد من العلماء، وجدنا فتح الله كولن كعادته، تجاوز ذلك دون أن يوجه النقد لأحد، بل يسجل رأيه دون الالتفات إلى رأي غيره، على علمه به. ذلك ما لاحظناه حين صدّر مدخل كتابه تدقيقه لحد ومعنى لفظ “الكتاب”؛ وهي إشارة واعية من الرجل بأهمية الحدود والمصطلحات؛ للتفريق والتمييز بين المعاني والمآلات. فبعد حديثه عن مصطلح الكتاب حدد المفهوم الذي يقصده.  ويظهر من كلامه أنه لا يرى كتاب أجدر بهذه التسمية غير القرآن الكريم، لأنه وبتعبير المؤلف هو “لسان عالم الغيب في عالم الشهادة”. فمن مطلع الكتاب وعبر هذا المدخل أحكم الرجل ما هو مقبل على كشفه وبيانه بتحديد المفهوم من الكتاب الذي يقصده.

ومن يعرف أسلوب الكاتب، يعلم جيدا أنه لايضع الكلمة موضعا إلا عن قصد وبتأويل معين. وقد يستغرب أحدنا ذلك، لكن الدارسين لفكر ومنهجه وأسلوبه في الكتابة والتعبير، يؤكدون ذلك. وهذا يعني أن تعبيره ب”المدخل” عوض تقديم أو غيره…يعني كما يدل لفظ “مدخل” وهو مصدر ميمي، يتعدى بـإلى وعلى وفي وبالباء. الشيء الذي يؤكد أننا مقبلون مع المؤلف في هذا الكتاب على الدخول في، وإلى، وب، عوالم هذا الكتاب، كتاب رب العالمين، وهي عوالم لا تحدها حدود. إنه مدخل يقربنا حقيقة إلى مضامين هذا المؤلّف المتميز. مدخل يطل بك على عوالم الغيب والشهادة، عبر أبعاد إنسانية واجتماعية ونفسية وروحية. ومع هذا وذلك يشرع أمام باب الأمل لتجد نفسك  مسرعا و مهرولا إلى من كُلف بمهمة بيانه للناس، محمد صلى الله عليه وسلم، لتسبق الناس إلى ما جاء به من الخير والهدي في الدنيا والآخرة؛ تارة عبر محراب الكون وأخرى عن طريق محراب المسجد، كما سيأتي تفصيله في الكتاب، إن شاء الله تعالى.

(يتبع)

[1] :أنظر كتابه التفسير والمفسرون.

[2] : أنظر مقدمة تفسير المنار.

About The Author

أ.د. عبد المجيد أبو شبكة،أستاذ التعليم العالي، ورئيس شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة-المغرب، وعضو مجلس الكلية. منسق ماجستير"الاجتهاد التنزيلي" وعضو فريق دكتوراه: "فكر الإصلاح والتغيير في المغرب والعالم الإسلامي"، مستشار بجهة الدار البيضاء سطات. له عديد من الأعمال العلمية والفكرية منها: كتاب"فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم" وكتاب "ري الظمآن في عد آي القرآن" وكتاب "علم العدد ". نُشر له عدد من المقالات والحوارات في مجموعة من الصحف والمجلات الوطنية والدولية.

Related Posts