يرى “كولن” في الإنسان أبرز فواعل البناء الحضاري، وأهم وسائله ومرتكزاته؛ لذا شدّد على وجوب تكوينه التكوينَ الذي يجعل منه قوة فاعلة، ومرَشَّدة، وموقنة من أن ما تبذله من كدّ وكدح، هو عطاء يندرج ضمن روحية الحمد التي لا ينبغي أن يغفل الإنسان عنها حيال ربه، المنعم بالوجود، والمتكرم بالمنن. وفي غياب النظام السياسي الراشد، الذي يجعل من بناء الإنسان وتكوينه غايته الأولى، يتحتّم على المجتمع أن يتولى أمر إعداد نُخَبه بذاته.
لا ينبغي أن تُصاب الأمة باليأس؛ إذ العناية الإلهية تدخر لها دائمًا صالحين، ينهضون ضميرًا يحدو الناس إلى الهدى.
بعد الليل .. ينبلج الفجر:
ما اكفهرت الحياة واشتدت حلكتها بالأمم، إلا هيَّأ الله لعباده منارة تضيء الليل، وصوتًا يشدو بالسُّرَاة. إن التمحيصات الدامغة التي تتعرض لها الشعوب حين تجثم عليها المُلِمّات، تعمل حتمًا على إظهار القوة المضادة التي تتصدى للكابوس.. فالأمم كالأفراد تُبدِي من القوة والتفجر حين يُطبِق الخطبُ الداهمُ عليها، ما لا قِبَلَ لها به، ومن حيث لا تحتسب، حتى لكأن هناك طاقات خارجية انضافت فجأة لقواها، وساندتها في لحظة الخطر، وردَّت عليها الشر.
من المؤكد أن قابلية الخير في الشعوب، هي التي تجعل الأسماع تعاود الإصغاء إلى أصوات الخيرين، وتهيب بهم أن يثبتوا، وأن يصمدوا في وجه الكواسر.
وكل فذّ من الخيرين إنما يكون مَطْلَعُه في قومه بمثابة الفجر بعد الظلمة، أو كالماء العذب ينبجس في قلب الفلاة، بل إن ظهور الأفذاذ الذين هيَّأهم القدر لأن يكونوا صُناعًا للتاريخ، وبُناة للمدنية، لا يكون إلا وقْت اشتداد العتمة واستفحال الخطوب؛ إذ لا يجود بالنفس، ولا يبذل الروح حين تنتكس الرايات وتنحني الهامات، إلا جبابرة الروح، أولو العزم، ورثة الأنبياء.
ورثة الأنبياء.. سُنة التوازن في الكون:
لكأن ظهورهم في قلب البأس، وبروزهم في عتمة المحنة، إنما يندرج ضمن ما هيَّأ الله من قانون توازن تَطَّرد به الحياةُ والعمران. أجل، إن سعي العظماء، قادة الفكر والروح، إنما هو مظهر من مظاهر الشِّرْعة الإلهية التي ما أوجدت داءً إلا أوجدت له دواءً يقاومه ويزيله.
يتحول الأفذاذ إلى جذوة متأججة، ويتنامى جهدهم فيغدون مشكاة فيها مصباح، ثم لا يلبثون أن يضحوا عامود نور يضيء القارعة، وما يعتمون أن يصيروا فَلَقًا في السماء، وشمسًا تحضن المدى، وتستقطب الورى من حولها. ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾(الأَنْعَام:95).. كذلك هو شأن الصالحين في أممهم، ينبلجون من عمق الظلمات، وينجمون من صميم النسيج البشري الذي استلبته سلطةُ البغي، وصيَّرتْه مجردَ جموع من الموات.
هنالك ينتصبون في الميدان، شاهرين سلاح الإيمان وحده في وجه الباطل، فُرادى في المُنازَلة، كل شيء ينكرهم ويدفعهم، لا يكادون يجدون حانيًا ولا شفيقًا،
لكأن قومتهم كانت تناصب الحقَّ العداءَ، ولم تكن للحق مُناصِرة ولا عن الكرامة باحثة! حتى عموم المستضعفين يقفون من أولئك الشُّهُب موقف المتفرج والخاذل، بل وأحيانًا -وتحت تشويش أهل الباطل- يبدون النُّكر والعداء لمن نهضوا يحامون عنهم ويدافعون، فلا يُحزِن أهل العزم ويُدمِي قلوبهم إلا أن يروا السهام تختلف إليهم من كل حدب، والحراب تتناولهم من كل صدد، لكنهم يستميتون في المواجهة، يخوضون المعركة كرًّا لا فرًّا، يثبتون ولا ينثنون.
يقف هؤلاء الربانيون في قلب المعمعان، ومنهم ومن صبرهم واحتسابيتهم تتولد المقاومة، هيِّنة، ضعيفة كالبذرة في رحم الأرض. قليلون من يوقنون أن تلك المصابرة المطوقة من كافة الجهات، سيُكتب لها أن تصمد وتستمر، لكن أهل الإيمان يزداد يقينهم في الانتصار على قدر اشتداد الضراوة التي تستهدفهم، وشيئًا فشيئًا تنجُم الأكمام، وتتفتح البراعم، ثم يلوح الربيع.
—————————————-
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:202-204.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.