نتيجة الجَزْر الحضاري والتخلّف الثقافي اللذين كانت تركيا -كبلْدان المسلمين الأخرى- ترزح تحت وطأتهما، حدث شرخ في ذات الأمة بين العقل والروح، مما أوجد انفصامًا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وأظهر تناقضًا بين الأفكار والمشاعر، حتى بدا الإسلام في شعور كثير من المسلمين وسلوكياتهم كأنه دين “لاهوتيٌّ” لا علاقة له بعمارة الحياة.
نجح كولن في إعادة الروح إلى العقل الإسلامي، وتمكّن من روْحَنَة العقل وعقْلَنَة الروح، بحيث أعاد طاقتَيهما إلى دائرة “التكامل” بعد أن انزلق بها التخلف إلى دائرة “التآكل”، فكانت الثمرة غثائيةً مرّغتْ وجه الأمّة في أوحال الهزائم والمذلّات.
ولأن مشاريعنا هي انعكاس لشخصياتنا، فأول ما ظهر هذا الدمج في شخصية كولن نفسه، فقد امتلك عددًا من “الموازين” الدقيقة بين مكوني الفاعلية الفردية والاجتماعية، حيث جمع بين “استنارة” المفكر و”حرارة” الداعية، وجمع بين “بصر” العقل و”بصيرة” القلب.
وبهذه المساوقة الدقيقة، امتلك هذا الرجل “فكر الإرادة” و”فعل الإدارة”، فكان في كليهما سديدًا ورشيدًا، وكلّما ضيّق المسافة بين العقل والقلب ازداد “ولوجًا” إلى عالم الإنسان، حيث حقوق الناس، ليزداد “عروجًا” في سماوات الله، لأن الله يوجد حيث البطون الجائعة والأكباد الظامئة والأجسام العليلة والأبدان العارية!
إنه مفكر عملاق وداعية عظيم، في إهاب شخص واحد متوسط الحجم، لكنه بهذا الدمج الدقيق أشاع أجواءً من المشاعر الروحية، وصنع مساحات من الأفكار، وهو في كل الأحوال لا يمل من استثارة الأفكار واستجاشة العواطف، في سياق استفزاز الأمّة للحركة والنهوض، والدفع بها من أجل العودة إلى متْن الزمن الأبيض.
إن شفافية روحه جعلته بكّاءً، حتى لقَّبه بعضُ محبيه بـ”النّاي” لكثرة معزوفاته البكائية، لكنه ليس البكاء على الأطلال، بل البكاء الذي يُحيل الانفعال إلى فاعلية، بفضل “الأفكار” الرشيدة التي وهبها من بصره وبصيرته ما صيّرها “أفعالا” سديدة، وصلت به إلى سدرة المنتهى من مجَرَّة الفاعلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فؤاد البنا، عبقرية فتح الله كولن بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة، دار النيل للطباعة والنشر.