لعل أبرز التقنيات التي يلوذ بها الدكتور “فريد الأنصاري” – رحمه الله – في النمط من الكتابة بوصفها فعلاً مقاومًا، هو تقنية المجاز، وفي القلب منها التشبيه الذي يتجاوز في هذا العمل حدود الأداة البلاغية الكلاسيكية إلى آفاق أرحب في صناعة المعرفة، وصناعة البهجة، وصناعة الأمل، وصناعة الحضارة المتأنسة. إننا أمام نص صادر عن سياق مقهور، وصادر لتصوير حياة نفس أبية مورس عليها القهر، لكنها طارت هناك بعيدًا بأجنحة من النور، وفي يدها سيوف من النور.

١- خطاب النوع

يمثل فحص خطاب النوع لأي عمل أدبي بالأساس، أهمية خاصة في السعي إلى تشغيله الحضاري في واقع الأمة. و”آخر الفرسان”(١) يتنازعها من منظور نظرية الأدب عدة أجناس أدبية، وبيانها مهم في سياق الدعوة إلى الانتفاع بها، واستثمارها في عمليات النهوض الحضاري. وفيما يأتي تحليل انتماءات النوع:

أ- ترجمة نفس أو سيرة نفس:

تعرف نظرية الأدب السيرة فتقرر أنها “عمل مستقل يُكرّس لحياة فرد”(٢). ويعرفها الدكتور “مجدي وهبة” بأن السيرة: تاريخ مدوّن لحياة شخص، وفن ترجمة الحياة لشخص ما، وهي الجنس الأدبي لقصّ ترجمات الأشخاص”(٣).

وهذا الانتماء هو أظهر ما يجذب “آخر الفرسان” إلى مجاله، بدليل ما أورده المؤلف في صفحة الشكر عندما نبه إلى أصول عمله، قائلاً (ص7): “وجب التنبيه إلى أن أصل هذه الرواية يرجع -من حيث المعلومات- بالدرجة الأولى، إلى الخلاصة البديعة التي ألفها مترجم “رسائل النور” الأستاذ “إحسان قاسم الصالحي” عن حياة بديع الزمان “سعيد النورسي” بعنوان “الرجل والإعصار”، كما يرجع في بعض التفصيلات إلى الكتاب الأصل وهو “كليات رسائل النور”، خاصة المجلد التاسع الذي يتضمن السيرة الذاتية لــ”النورسي”.

ومن تمام الدلالة على مسارات التشغيل الحضاري لهذه السيرة أن تُقرأ من منظورين:

أولاً: منظور كونها سيرة الإصلاحي العظيم بديع الزمان سعيد النورسي، حيث يشير المؤلف (ص١٣): إلى أن “آخر الفرسان” تصور مكابدات بديع الزمان سعيد النورسي.

ثانيًا: منظور كونها استهلالاً للدخول إلى عالم المصلح العظيم “فتح الله كولن”، حيث يقول المؤلف (ص٥)، مُهديًا عمله هذا: “إلى الذي قضى حياته مغتربًا في الخلوات يلتقط لآلئ الأسرار على “التلال الزمردية”.. إلى وارث السر الأستاذ محمد فتح الله كولن، أهدي هذه الورقات”. والعمل بالأساس يندرج ضمن كتب التراجم التي لها نسب عريق في الكتابة التاريخية عند العرب المسلمين.

بـ- رواية تاريخية:

يبدو هذا الانتماء واضحًا جدًّا من تحليل عتبة الغلاف، الذي تصدره مصطلح “رواية” أعلى عنوان “آخر الفرسان”، ومن تحليل عتبة المقدمة التي قرر فيها كاتبها ذلك بقوله (ص٧): “وجب التنبيه إلى أن أصل هذه الرواية، يرجع من حيث المعلومات إلى الخلاصة البديعة التي ألفها مترجم رسائل النور … كما يرجع في بعض التفصيلات إلى الكتاب الأصل، وهو كليات رسائل النور … كما أنني حققت بعض التواريخ المتعلقة بالدولة العثمانية في مرحلة السقوط من كتاب “رجل القدر” للأستاذ الفاضل “أورخان محمد علي”.

وقد كانت الرواية التاريخية وسيلة افتتح بها العقل الإصلاحي العربي الحديث الطريق إلى النهوض والإحياء بصورة بالغة الوضوح، إذا ما حكمنا منجز الإصلاحيين العرب والإسلاميين في القرن التاسع عشر، وأول القرن العشرين. إذ لجأ إليها كثير من أصحاب مشاريع النهضة ورواد حركات التحرير الوطني لكتابة الرواية -ولا سيما الرواية التاريخية- لتكون سبيلاً نحو تحقيق التحرر والاستقلال الوطني.

جـ- نص في أدب الرحلات:

إن تحليل “آخر الفرسان” يكشف عن تتبع دقيق لأسفار بديع الزمان سعيد النورسي، وانتقاله بين البلدان، أو في المنافي والسجون التي تنوعت واستوعبت جغرافية تركيا بكاملها، مما يجعل هذا العمل نصًّا في الجغرافيا الأدبية من خلال هذا التتبع الدقيق لأسفار صاحب الرحلة ومشاهداته المتنوعة.

وقد حرص فريد الأنصاري على أن يصور الأماكن، ويرصد ما يميز طبوغرافيتها، وتضاريسها، وحدودها، وتخومها، والطرق الموصلة إليها.

د- نص في تاريخ الأفكار:

يمكن أن ينتمي هذا العمل إلى ميدان تاريخ الأفكار وتطورها، ذلك أنه يصور في كثير من المواضع سياقات كتابة سعيد النورسي لـ”رسائل النور”، والظروف التي حكمت هذه الكتابة، وطبيعة الغايات التي حكمت تأليف كل رسالة على حدة، وطبيعة المستعملين الذين توخى بديع الزمان خدمتهم بما نهض به. وربما يرتقي “آخر الفرسان” ليكون عملاً بيبليوغرافيًّا لمؤلفات سعيد النورسي وأفكارها، وأساليب نشرها وتوزيعها.

والحقيقة إن هذه الانتماءات الأربعة مهمة جدًّا في طريق توظيف هذه السيرة أو الرواية التاريخية في واقع السعي نحو صناعة الاستقلال الوطني من طريق تحرير الأفكار، بعيدًا عن الخيال أو الاختراع الذي قد يقلل من نجاعة التأثير، وتمدد مداه وقوته، وإصابته الأهداف والغايات المنشودة في الإعانة على تهيئة المناخ للانتقال الآمن نحو كامل الاستقلال الوطني على قاعدة الهوية العربية الإسلامية، المؤسسة على حقائق المرجعية العليا في الكتاب العزيز (القرآن الكريم) بوصفه منبع النور.

٢- موجز زمني لسيرة حياة النورسي على طريق النور

يتحرك هذا المطلب هادفًا إلى أمرين واضحين هما:

أولاً: التدليل على انتماء “آخر الفرسان” إلى ما قرّرناه من السيرة والتراجم، والرواية التاريخية، وتاريخ الأفكار، وأدب الرحلات.

ثانيًا: تقديم خلاصة لحياة هذا المُصلح العظيم.

  • 1294هـ / 1877م: الميلاد. (ص28)
  • 1303هـ / 1885م: ترك القرية “نورس” والرحيل عنها. (ص29)
  • 1307هـ / 1889م: وفاة الأم. (ص25)
  • 1307هـ / 1889م: بدء الانخراط في سلك قراءة أوراد عبد القادر الجيلاني. (ص25)
  • 1309هـ / 1891م: وفاة أخته، وترك الحياة المدرسية النظامية، والانتقال إلى طور المدرسة الروحية. (ص35)
  • 1309هـ / 1891م: تلقيه لقب “بديع الزمان” من قبل الملاَّ “فتح الله” أفندي في سعرد. (ص41)
  • 1317هـ / 1899م: التفرغ لدراسة القرآن الكريم، وحصول الانقلاب النفسي، وبداية التوجه الحركي الجديد لـ”سعيد النورسي”.
  • 1323هـ / 1904م: الانتقال إلى إسطنبول.
  • 1328هـ / 1910م: الرحيل من إسطنبول إلى مدينة “وان” بعد تبرئته من تهمة التمرد. (ص96)
  • 1329هـ / 1911م: الشروع في تأسيس جامعة الزهراء بدعم السلطان محمد رشاد. (ص97)
  • 1335هـ / 1916م: بدء الدراسة حول جامعة الزهراء. (ص104)
  • 1337هـ / 1918م: الفرار من الأسر الروسي، ومن سجون سيبيريا، والعودة إلى إسطنبول (ص117)، وموت السلطان محمد رشاد.
  • 1346هـ / 1927م: نفي سعيد النورسي إلى “بارلا”. (ص172)
  • 1354هـ / 1935م: الاعتقال في مدينة “أَسْكِي شَهِرْ”. (ص189)
  • 1362هـ / 1943م: السجن في “دينِزْلي”. (ص195)
  • 1363هـ / 1944م: النفي إلى “قَرَه دَاغ”. (ص201)
  • 1368هـ / 1948م: السجن في “أفيون”. (ص203)
  • 1369هـ / 1949م: النفي إلى أمير داغ. (ص207)
  • 1372هـ / 1952م: العودة إلى إسطنبول للمحاكمة. (ص215)
  • 1373هـ / 1953م: نهاية المحاكمات. (ص223)
  • 1374هـ / 1954م: رحلات تفقُّد طلاب النور. (ص215)
  • 1376هـ / 1956م: السماح بنشر رسائل النور، ورفع الحظر عنها. (ص215)
  • 1380هـ / 1960م: الوداع والرحيل بالوفاة. (ص231)

٣- خطاب رمزية النور ونصوصه الكاشفة

يتحرك النور في ثقافات العالم بحزمة من الدلالات المكتنزة. يقول “جي. سي. كوبر” في “الموسوعة المصورة للرموز التقليدية”(٤): “النور (Light) هو التجلي الإلهي.. والتنوير، والشفافية الروحية، والمعرفة المباشرة، والمَلاءَمة الروحية، والعقل الفيّاض، ومصدر الخير، وتولد حياة جديدة.. والقوة التي تبدّد الشر وقوى الظلام، والمجد، وروعة الإشراق، ومبعث السرور.. والحقيقة والتحرر. وعند المسلمين من أسماء الله الحسنى النور، نور الله الساطع الذي ينير العالم، والجوهر الطاهر، والجلال والجمال والفطنة والكلمة”.

والمدهش أن فريد الأنصاري في “آخر الفرسان” استطاع أن يضع يده على هذه الدلالات في سرده سيرة صاحب رسائل النور (بديع الزمان سعيد النورسي)، وفيما يأتي معجم اقتباسات يعزز هذا الاستنتاج من جانبنا:

  • (ص٦٦): قلت لكل من لقيني في طريق النور بما وصلت إليه من يقين القرآن: لأبرهن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها.
  • (ص86): رأيت خفافيش الظلام.. يفزعها النور، ويرهبها انطلاق الضياء.
  • (ص107): كانت الطفولة.. هذا النور الصافي المتدفق مثل جدول البستان.
  • (ص122): رأيت كلماتي سيفًا من نور وهاج يمزق حجب الظلام.
  • (ص132): القرآن أسمى مرشد، وأقدس أستاذ على الإطلاق.
  • (ص135): كنت وحدي أضرب بنور القرآن في مسلكي.
  • (ص136): ثم جاءني سعيد الجديد بنور البصر الوهاج، عندما رأيته.. يحمل مشكاة ذات مصباح ينبض بالنور.
  • (ص183): الكل يشتغل بمد خيوط النور إلى كل مكان، خطوطًا يدوية وكلمات متوضئة ووريقات بلورية.. فتدفق النور في القرى.. ثم إلى كل مكان.
  • (ص186): وانتثرت الثريات شعاعات ولمعات في كل مكان فكان للنور فوق كل وادٍ وهج كاشف.
  • (ص200): وأشرقت الشمس.. ترسم على وجوه الشباب ابتسامة الربيع، تلك كانت رشحة واحدة فقط من شعاعات النور.
  • (ص252): التقى طلاب النور بموعدهم من جديد.. وانطلق برق عظيم في الأفق الأعلى أضاء.. ثم انطلق يركض.. وفي أقل من طرفة عين كان قوس قزح يحتضن سماء العالم، ويغمر عيون الأطفال بألوانه السبعة.. ويهطل المطر.

تحليل هذه الاقتباسات يؤكد أن بديع الزمان سعيد النورسي يترجم عن دلالات رموز النور جميعها، تلك التي تجسد الخير العميم، وصورة ارتباط النور بالمطر، وآخر فقرة من “آخر الفرسان” تكشف عن رمزية “هبوط الخير” والقبس السماوي الذي يحيل الوجود إلى “مادة إقمار” حقيقي ينقذ الإنسان وينجو به.

خطاب رمزية الظلام ونصوصه الكاشفة

يتحرك الظلام في ثقافات شعوب العالم بدلالات متعاضدة تدور -بحسب الموسوعة المصورة للرموز التقليدية (ص162: الظلام: Darkness)- حول: “الحالة الأولية للاضطراب.. والموت والتفسخ.. وإبليس والشيطان والظلمة الروحية، والأسر.. والسمة المهلكة.. وفي الإسلام: الضلال”.

والمدهش أن فريد الأنصاري استطاع في “آخر الفرسان” أن يقبض على هذه الدلالات الرمزية للظلام بصورة تفوق ما رصده “جي. سي. كوبر” في موسوعته، وكان ذلك ناتجًا عن إحاطته بمكابدات بديع الزمان، ورحلة معاناته الولود، وما تعرض له من آلام قاسية كانت ترجمة لما أحاط بالأمة المسلمة.

وربما كانت سيرة فريد الأنصاري نفسه، وما تعرض له من آلام، جزءًا من أسباب تمكّنه من القبض على دلالات معجم الظلام الثري في منجز سعيد النورسي. لم يكن “آخر الفرسان” إلا صورة لتمدد النور والإعلان عن “عودة الفرسان” من جديد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الكاتب: الدكتور خالد فهمي. أستاذ العلوم واللغة بكلية الآداب، جامعة المنوفية / مصر.

الهوامش

(1) رواية آخر الفرسان، فريد الأنصاري، شركة بروج للأدوات المكتبية والمدرسية، القاهرة ٢٠٢٥م.

(٢) ترجمة النفس.. السيرة الذاتية في الأدب العربي، تحرير: دوريت راينولدز، ترجمة: سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي (كلمة)، الإمارات العربية المتحدة، ط1، 1430هـ-2009م. ص:66.

(٣) معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1994م، ص:46، مصطلح:192.

(٤) الموسوعة المصورة للرموز التقليدية، ترجمة: مصطفى محمود، المركز القومي للترجمة، ع 1727، القاهرة 2014م، ص:329.

المصدر: موقع مجلة حراء

About The Author

موقع نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية فضاء عالمي إنساني مفتوح يتقاسم فيه مجموعة من المفكرين والباحثين نتاجهم المعرفي المتعلق بقضايا الإنسان والمجتمع والحضارة.

Related Posts