وَجدت أفكار كانط (ولوك أيضًا) عن الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية المتأصلة في الغرب تجسيدًا سياسيًا من خلال الديمقراطية الليبرالية للدولة القومية الحديثة، في حين طَبقت المجتمعات الإسلامية التزامها تجاه الكرامة الإنسانية بطرق أخرى. ولكن رغم هذه الاختلافات بين الغرب والبلاد الإسلامية، لا يرى كولن أي تعارض أصيل بين الإسلام والديمقراطية بشكل عام؛ فالالتزامات الأساسية تجاه البشر وحقوقهم الجوهرية تتسق مع بعضها البعض، رغم اعتمادها على منطلقين مختلفين (الأول ديني والآخر علماني). إلا أن كولن يؤكد أن الإسلام يمكنه الارتقاء بالديمقراطية في نواحٍ مهمة؛ حيث يَعتبر أن الديمقراطية في العصر الحديث قد تزاوجت مع فلسفات مختلفة من حولها -مثل المادية الجدلية والتاريخانية-يعتبرها كولن “فلسفات مدمرة”. كما أن النُّظم الديمقراطية يمكن أن تخلق حالة من الفردانية الطاغية التي تقوض أركان المجتمع بأكمله، وإن كان كولن يؤكد أنه في الإسلام “جميع الحقوق مهمة، ولا يمكن التضحية بحقوق الفرد بها في سبيل مصلحة المجتمع[1]“. ويرى كولن أن الإسلام هو مجموعة شاملة من المبادئ المستمدة من الدين يمكن أن توجه الديمقراطية في عملية نموها ونضجها المتواصل. ويوضح ذلك قائلاً:

“لقد تطورت الديمقراطية مع الوقت، وكما مرت بالعديد من المراحل المختلفة في الماضي فإنها ستستمر في التطور والتحسن في المستقبل. وخلال مسيرتها هذه، ستتشكل الديمقراطية لتصبح نظامًا أكثر إنسانية وعدلاً، لتكون نظاما قائما على الصلاح والحق. فإذا نُظر إلى البشر ككل، من دون تجاهل البعد الروحي لوجودهم وحاجاتهم الروحية، ومن دون إغفالِ أن الحياة الإنسانية لا تقتصر على هذه الحياة الفانية، وأن كل الناس يتوقون بشدة إلى الخلود -فإن الديمقراطية يمكنها أن تصل إلى ذروة الكمال، وأن تجلب المزيد من السعادة للإنسانية. وتستطيع المبادئ الإسلامية مثل المساواة والتسامح والعدالة أن تساعد الديمقراطية في تحقيق ذلك”[2].

 يؤكد كولن أن الإسلام يمكنه الارتقاء بالديمقراطية في نواحٍ مهمة؛ حيث يَعتبر أن الديمقراطية في العصر الحديث قد تزاوجت مع فلسفات مختلفة من حولها -مثل المادية الجدلية والتاريخانية- يعتبرها كولن “فلسفات مدمرة”.

وكما هو واضح، فإن كولن يرى نقاط ضعف في الديمقراطية يستطيع الإسلام أن يعالجها، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا الإنسانية وكيفية النظر إلى البشر. فالديمقراطية تميل إلى إهمال الأبعاد الروحية للحياة ذاتها وللطبيعة الإنسانية أيضًا، وهي الصفات التي تتطلب احترامًا عامًا بل وتبجيلاً من البشر أنفسهم.

يرى كولن أن الإسلام هو مجموعة شاملة من المبادئ المستمدة من الدين يمكن أن توجه الديمقراطية في عملية نموها ونضجها المتواصل.

ورغم كل شيء، يمكننا القول: إن تلك النظريات عن القيمة المتأصلة للكرامة الأخلاقية للبشر -سواء قال بها مفكرو التنوير الغربي أم علماء إسلاميون يتبعون تفسير القرآن أم غيرهم من أي مذهب كان-تلعب دورًا حيويًا في هذا العصر. فالدعاوى وحدها لا تحقق شيئًا. وكما نرى من حوادث التاريخ، قد يحدث أن ينتظم الناس تحت رايات وشعارات سامية مثل “الإنسانية” و”حقوق الإنسان” و”المواطن العادي” ثم يرتكبون فظائع وحتى إبادات جماعية ضد نفس البشر الذين يدعون احترامهم، وهذا هو النفاق بعينه والخطيئة التي تُلوث الحياة الإنسانية. ولكن عندما يكرس البشر أنفسهم بصدق وبإخلاص لتلك الدعاوى، ويحددون تصرفاتهم وفقًا لها، تصبح الثقافة والمجتمع أقل وحشية وأقل دموية وأقل بهيمية. ويبين لنا التاريخ أيضًا -بخلاف الاضطهاد والإبادة الجماعية-أن المجتمعات التي تُبقي القيمة الإنسانية المتأصلة حية في صميم وجودها السياسي والثقافي تسمح لأبنائها ومواطنيها بدرجة من السلام والاستقرار، وقد وُجدت هذه المجتمعات في كل زمان ومكان عبر التاريخ الإنساني. وعندما تُسقط تلك المجتمعاتُ نفسَها في الاضطهاد والإبادات الجماعية، يكون ذلك في أغلب الأحيان لأنها تركت مبادئ القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية.

* د. جيل كارول، محاورات حضارية (حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني)، دار النيل، مصر، 2011، ص43.

ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر

[1] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance, 221( كولن، نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح).
[2] Gülen, Toward a Global Civilization of Love and Tolerance, 224( كولن، نحو حضارة عالمية من المحبة والتسامح