لم يكتف فتح الله كُولَنْ بالوعظ في المساجد فحسب؛ فقد خرج للوعظ في المقاهي في أولى سنواته بـ”إزمير”، ثم بدأ في إلقاء سلسلة من المحاضرات والمؤتمرات بدءًا من منطقة “إِيجَه” ومرورًا بالخارطة التركيّة كاملةً، وقد تناول في محاضراته هذه مواضيع عدة مثل: العلاقة بين القرآن والعلوم الطبيعية، والعدالة الاجتماعية في الإسلام ونظرية التطوّر، كما كان يُجيب عن أسئلة طلابِ الجامعة بصفةٍ خاصّةٍ في الجامع عقب الصلوات أحيانًا، وفي أحد المنازل أحيانًا، وفي البراري أحيانًا أخرى، وحين ننظر إلى مواضيع مواعظه ومحاضراته والأسئلة المطروحة عليه وندرسها نفهم الجانب الحركي والعملي في شخصيّة كُولَنْ أكثر فأكثر، وكذلك نظرتَه إلى الإسلام، وعلى أيِّ المواضيع ركّز باعتباره مربّيًا تربويًّا، ومن بين المواضيع الرئيسة التي شدّد وركّزَ عليها عدَّة أسابيع أحيانًا أدلّةُ التوحيد (أدلة وجود الله ووحدانيته)، ثم سلسلةُ عقيدة الحشر والبعث التي استمرّت شهورًا وجُمعت في كتاب بعنوان “نفخة البعث(ÖlümÖtesiHayat)” وكذا تربية الطفل التي استمرت شهورًا أيضًا، وقد جُمعت في كتاب بعنوان “من البذرة إلى الثمرة”، وكذلك الحياة الأسرية وما شابهها، أما في مواعظه التي استأنفها فخريًّا عام (1989م) فقد تحدث فيها عن سيدنا رسول الله ﷺ بكل جوانبه على مدار عامٍ كامل، وجُمعت مواعظه هذه في كتاب بعنوان “النور الخالد محمد ﷺ مفخرة الإنسانية(İnsanlığınİftiharTablosu: SONSUZNUR)”، أما في مواعظه التي اضطلع بها أعوام (1990-1992م) فقد تناول مواضيع أكثرُها من قبيل معرفة الله ومحبته، ومعرفة الرسول ﷺ والصحابة الكرام، وإنسان الإرادة والروح، وحقوق الوالدين، والأخوة والرحمة والصبر…

يهتمّ كُولَنْ في أجوبته بإقناع العقل لكنه ينتبِهُ كذلك إلى القلوب ويهتمّ بأن تنال نصيبَها من الطمأنينة، وأن تَحصُلَ الملكاتُ الإنسانيةُ الأخرى أيضًا على غذائها اللازم لها.

وقد نُشِر قسمٌ بسيط فحسب من أجوبة فتح الله كُولَنْ التفصيليّة حول أسئلة العصر كطبعةٍ أولى مختصرة، ثم نُشِرَت لاحقًا في أربعة مجلدات بعنوان “أسئلة العصر المحيّرة (AsrınGetirdiğiTereddütler)” ، وقد جاء كلُّ واحد من هذه المجلدات في الصفوف الأولى من قائمة أكثر الكتب مطالعة ومبيعًا في تركيا، وهاكم بعضًا من تلك الأسئلة التي طرحت عليه، وأجاب عنها:

نماذج من أسئلة الشباب المحيرة

كيف يقال إنه سبحانه في كل مكان مع أنه واحد أحد؟

يُقال إن الله خلق كل شيء.. فمَن -حاشا لله- خلق الله؟

لِمَ لَمْ يخلق الله تعالى الناس سواسية، وكان فيهم الأعمى والأعرج؟

يتساءل البعض لماذا لا نرى الله في هذه الحياة؟ كيف نجيب هؤلاء؟

يقولون: إن الله تعالى تكفل بالرزق، فما لنا نرى أناسًا في بعض الدول يموتون من الجوع والقحط اللذين استغرقا خمسين أو ستين يومًا؟

يقال إن الإنسان عندما لم يستطع إيضاح وتفسير بعض الظواهر الطبيعية اخترع فكرة الدين، فهل تقدُّم المدنية يزيل الحاجة إلى الدين؟

يقال إن الاسلام دين يلائم العقل والمنطق، ولكنه يستند إلى النصوص وهذا يستوجب التسليم والإذعان، فكيف الجمع بينهما؟

ألا يمكن أن يكون القرآن من كلام رسول الله ﷺ ؟ إن لم يكن كذلك فكيف يمكن البرهنة على هذا؟

كيف يستطيع ملك الموت وحده القيام بقبض أرواح العديد من الذين يموتون في لحظة واحدة؟

ما هي “وحدة الوجود” وهل توافق عقيدة أهل السنة؟

لِم حُرِّم زواجُ الأخ بأخته وقد كان حلالًا لأولاد آدم وحواء عليهما السلام؟

هل وجود “الأثير” حقيقة؟ إن كان موجودًا فما هو؟

لماذا يصرّ الشيطان على الكفر وهو يعلم أن مآله إلى جهنم؟

هل هناك علاقة بين “الإيدز (AIDS)” و”دابّة الأرض” التي تعدّ من علامات يوم القيامة؟

 لا يجيب فتح الله كُولَنْ على أيّ من الأسئلة التي طرحت عليه تحريريًّا، وبالطبع لم يكن يعرف مسبقًا أيّ الأسئلة ستطرح عليه، فكان يجيب عن الأسئلة بطريقة ارتجاليّة.

هل يمكن لقاء الخَضر عليه السلام؟

كيف وصل الإنسان إلى قارة أمريكا؟

ما الفرق بين أسماء الله تعالى وصفاته؟

ما حقيقة التوسل؟ وما المشروع منه والمحظور شرعًا؟

هل الشفاعة حق؟ ومن له أن يَشفع؟ وإلى أي مدًى؟

هل لجهنم دور في إصلاح وتهذيب أهلها؟

ما السبب الكامن وراء إصرار بعض المحافل العلمية على نظرية داروين رغم ظهور بطلانها وانكشاف عَوَارها؟

ما الخصائص التي لا بدّ من مراعاتها عند تعلمنا للدين وتعليمه لغيرنا، وما الذي يجب أن يكون عليه منهجُنا في التبليغ؟

هل يمكن أن تحدِّثَنا عن جهود ومساعي النبي ﷺ والمسلمين الأوائل الرامية لإنقاذ إيمان غيرهم؟

كيف نتصرف تجاه إخوتنا المسلمين الذين تهاونوا في خدمة دينهم وأمتهم، وفقدوا نشاطهم وانفعالهم في القيام بأفعال الخير؟

إلامَ يكون الشدُّ المعنويُّ عند المؤمن؟ وكيف يجب أن يكون؟

هل يمكن أن تشرحوا لنا كيف نحافظ على جيلنا ضدّ عمَليات التخريب التي يقوم بها المفسدون؟

كيف نستطيع صيانة أنفسنا من أخطار الحياة ونزوات الشباب؟

ما السبب في انتشار الإلحاد كل هذا الانتشار؟

ما الذي يجب ذكره أولًا للمُنكِر والمُلحِد، وكيف؟

هل توجد مشارب ومدارس مختلفة في الإسلام؟ وهل حدث مثل هذا الخلاف بين الصحابة الكرام؟ وما الفكر الذي يوحّد بينها؟

لقد انتشر في أيامنا الاستعانة بالعلوم الحديثة في شرح الإسلام، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟

كيف يمكننا أن نعوّد إنساننا على القراءة؟

ما الذي ينبغي للإنسان من تهيئةٍ فكريّةٍ عند المثول في حضرة مولاه •؟ وما الذي يتوجب عليه وهو في هذه الحضرة الإلهية؟

كيف يكون حالنا إزاء فتن آخر الزمان؟ وكيف نحمي أنفسنا؟

ما معنى الجهاد؟ وهلّا تفضلتم بتعريف الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر؟

في أوقات فراغنا يُلقي الشيطان في قلوبنا كثيرًا من الشبهات والشكوك وتصبح إرادتُنا أُلعوبةً في يد مشاعرنا حتى نحسّ بأن صبرنا عن المعاصي قد بدأ ينفد، فبماذا توصوننا؟

ما المعيار الذي يجب أن تكون عليه أزياؤنا وأثاث بيوتنا؟

ما الذي يجب أن يكون عليه مقياسُ العَفْوِ والسماحِ عند المسلم؟

طبيعة أسئلة “الموشور”

هذا غيضٌ من فيضِ الأسئلة التي طُرِحَتْ على الأستاذ فتح الله كُولَنْ في أماكن مختلفة وأجاب عنها تفصيلًا، وعلاوةً على هذا أيضًا فقد وُجِّهَتْ إليه في أوقات مختلفةٍ أسئلةٌ تتضمّن مواضيع تتعلّق بالظروف الراهنة نوعًا ما، وقد جُمِعَت الأجوبة المفصَّلَةُ التي أدلى بها عن تلك الأسئلة أيضًا في سلسلة “الموشور” التي نُشِرَت في تسعة أجزاء حتى الآن (2015م).

هذا وهناك أسئلة أخرى انتلقت مع أجوبتها إلى الكتب، وكانت إجابات كُولَنْ عن الأسئلة التي تطرح عليه في أثناء الدروس والمواعظ واحدةً من مناهج وأساليب بنائيَّتِه الأذهانَ والعقول.

كولن كإنسان ملمٍّ باللغة والبلاغة كان إذا ما شعر واقتنع بأنه استخدم كلمة خاطِئَةً سرعانَ ما يُغيِّرها ويُصوّبها.

قراءة في أجوبة كولن

يتحدّث فتح الله كُولَنْ بحذرٍ ودقّةٍ شديدة في مواعظه وأحاديثه وإجاباته على حدٍّ سواء، وقدرتُه على الخطابة حقيقة يُقِرُّ بها الجميع، ومع أن هذه القدرة هبةٌ من الله دون شكٍّ فهي مَلَكَةٌ نُمّيت وقُوّيت بالعمل عليها وتطويرها؛ ففتح الله كُولَنْ الذي كان يتحدّث بسرعة في صغره اكتسب قوَّتَه الخطابية الموجودة لديه أصلًا بفضل تعليمه نفسَه بنفسِه فنَ الإلقاء والحديث، هذا أولًا، أما ثانيًا فلأنّه نفسه كان يستخدم الكلمات والمصطلحات في مكانها الصحيح، سواء في خطاباته أو كتاباته، وهو كإنسان ملمٍّ باللغة والبلاغة كان إذا ما شعر واقتنع بأنه استخدم كلمة خاطِئَةً سرعانَ ما يُغيِّرها ويُصوّبها، وخلافًا لذلك كان إذا ما استنتج أن ما استخدمه من كلمة أو جملة أو ما عبر عنه من فكرة ربما يخطئ المستمعُ إليها فهمَها تحدَّث مع ذلك الشخص حديثًا خاصًّا في وقتٍ لاحق، وأوضح له الأمر، فيزيل الفهم الخاطئَ المحتمل.

حين ننظر إلى مواضيع مواعظ كولن ومحاضراته والأسئلة المطروحة عليه وندرسها نفهم الجانب الحركي والعملي في شخصيّة كُولَنْ أكثر فأكثر، وكذلك نظرتَه إلى الإسلام، وعلى أيِّ المواضيع ركّز باعتباره مربّيًا تربويًّا.

وكما يهتمّ كُولَنْ بإقناع العقل ينتبِهُ كذلك إلى القلوب ويهتمّ بأن تنال نصيبَها من الطمأنينة، وأن تَحصُلَ الملكاتُ الإنسانيةُ الأخرى أيضًا على غذائها اللازم لها، وذلك بحسب الموضوع المطروح في أجوبته عن الأسئلة المقدمة إليه سواء في مواعظه في المساجد أو في أحاديثه، وإن تباين ذلك واختلفت درجاته.

ويكثر كُولَنْ من استخدام الفنون البلاغية مثل التلميح والاستعارة والكناية والتورية، وهو بهذه الطريقة يُحمّلُ الكلمة معانيَ متعدّدةً ومختلفة إضافةً إلى وظيفتها الأصليّة، علاوةً على أنه يصوغ الكلمات التي دخلت اللغة التركية في المجال التقني في صورة مفاهيم، ويُحسن استخدامها، كما أنه يتميّز بأسلوبه وتضمينه المنظومات والأشعار في كتاباته وأحاديثه، ونظرًا لميزاته الأسلوبية فإنّه أحيانًا ما ينبِّه ويحذِّر من أمر بكلمةٍ قد يظنّها الكثيرون نوعًا من المجاملة، ولهذا السبب فربَّما يُفسَّر كلامه تفسيرًا مختلِفًا من قِبَلِ بعض مستمعيه من حين إلى آخر، ولتجَنُّبِ الخطإ في هذا الموضوع ينبغي فهمُ ووعيُ بنائِه الفكريّ ووجهة نظره وأسلوبه ولغته بمقاييس معيّنة على الأقل.

لم يكتف فتح الله كُولَنْ بالوعظ في المساجد فحسب؛ فقد خرج للوعظ في المقاهي في أولى سنواته بـ”إزمير”.

لا يجيب فتح الله كُولَنْ على أيّ من الأسئلة التي طرحت عليه تحريريًّا، وبالطبع لم يكن يعرف مسبقًا أيّ الأسئلة ستطرح عليه، فكان يجيب عن الأسئلة بطريقة ارتجاليّة.

وهو مطّلع وضليعٌ في العلوم الإسلامية وأصولِها مثل: التفسير والحديث والكلام والفقه، وهو يُدَرِّسُ هذه الموادّ كلَّها على نحوٍ خاصٍّ ، وهناك طلّابٌ نشَّأهم وربّاهم في تلك المجالات؛ فكُولَنْ صاحب التجربة والمعرفة العميقة في التصوّف أيضًا القائلُ: “انقضى عمري في دراسة السُّنة المطهرة”؛ مُطلعٌ على فلسفة الشرق والغرب، كما أنَّه يملِكُ معلومات موسوعيّة عن مبادئِ العلوم الطبيعية والأسُسِ التي تقوم عليها، فهو باختصار يُمثّل نقطةَ تقاطُعِ أو ملتقى العَالِمِ والعَارفِ والمثقّفِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ222/ 223/ 224/ 225/ 226.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.