لقد ظهرت محاولات عديدة لاستنقاذ العقل قادَها أعلامٌ كبار منهم ابن رشد وآخرون، إلا أنّهم استرفدوا لمشروعهم التجديدي متون المنجز الإغريقي، وحاولوا أن يتفاعلوا معها بمنطق انتخالي لِما شابها من أسطورة وشرك، غير أن نتائج ذلك التفاعل كانت محدودة أو حصرية في دائرة الوسط النخبوي لا غير، لأن الناهضين بها لم يراهنوا على إحداث القطيعة والخروج من شرْنقة فكر الأقدمين.ذلك لأن التعاليم الأرسططاليسية ظلّت في نظر النخبة المسلمة المتعقْلنة، تتصدَّر السلَّم المعرفي الإنساني. وهكذا توطدت عوامل الاحتباس في الفكر الإسلامي، وساد شعار “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأناخت قرون الانحطاط بكلكلها على العقل فقيّدته، وخرجت الأمّة من الحلبة، وقبعت طويلا في موقف الغائب عن التاريخ، إلى أن قيض الله من الحوادث ما آذن ببزوغ فجر نهضة إسلامية معاصرة مباركة، تَعِد باستعادة الصحوة، وباستصلاح آثار الانحطاط، واستزراع الأرض بما يجدد الحياة.
يحتلّ الأستاذ كولن موقعا مفصليًّا وديناميًّا ومُسَرِّعا من خطا الحراك الإحيائي البطيء الذي انخرط فيه عالمنا الإسلامي مؤخرا.
كولن والحراك الإحيائي
في هذا الإطار يحتلّ الأستاذ فتح الله كولن موقعًا مفْصليًّا وديناميًّا ومُسَرِّعا من خطا هذا الحراك الإحيائي البطيء الذي انخرط فيه عالمُنا الإسلامي منذ مُوَفَّى القرن الثامن عشر.
والمؤكد أن الأمة لم تبخس حظ البحث الفكري الفلسفي إلا لأنها وجدت نفسها تتوفر على كتاب منزل تجاوز بها حال الحيرة والتساؤل الميتافيزيقي الذي طالما رست عنده الفلسفات القديمة.
فالقرآن أجاب عن تساؤلات الإنسان بخصوص إشكالية المنشأ والمصير، وأبان أصل الوجود، والقوة الموجدة له، والمُسيِّرة لأكوانه وعوالمه، ووضح الغاية من وراء هذا الوجود. وكل ذلك أسّس لقاعدة الإيمان، إذ إن الإيمان في الإسلام موصول أصالة بعالم الميتافيزيق.
وإن قوَام هذا الإيمان هو الإقرار بألوهية الرب الصمَد، والتصديق بوجود عوالم وحقائق فوق العقل (عالم الملائكة ومبدئيّة القضاء خيْره وشرّه، والاعتقاد باليوم الآخر، والبعث، والحساب، والجنة والنار، إلخ..).
تجافى المسلمون عن الفلسفة، إذ اعتبروها حقل الشكّ والحيرة الوجودية واللايقين.
مبررات معقولة
من هنا تجافى المسلمون عن الفلسفة، إذ اعتبروها حقل الشكّ والحيرة الوجودية واللايقين، خاصة وأنهم اطّلعوا على شواهد الفلسفة الإغريقية التي انغمست في الافتراض والوثَنية وتربيب الأجرام والأفلاك. ذلك لأن صدق إيمان المسلم يقتضي -ابتداء- نفْي الشك الوجودي، والإقرار بالعبودية للخالق، والأخذ بالاستنارة التي كفلها القرآن والسنة في تجلية المغاليق الوجودية الكبرى التي لبث الإنسان يجهلها ويتأرق لأجل معرفة كنْهها وماورائيتها.
من هنا استغنى المسلمون في تلك العهود عن الفلسفة في طرازها القديم، بل واسترابوا منها، وتخوّفوا من مغبة تعاطيها، لما شابها من وثنية، وما توجّسوه منها، من بلبلة فكرية تتأذى بها سلامة المعتقد.
ولقد انعكس هذا التحرز من الفلسفة على نظرتهم إلى علْم المنطق كذلك، إذ اشتجر حوله هو أيضا جدلٌ؛ فمِن مقرٍّ له بالجدوى والمشروعية من حيث التمكين للدين والمحاججة عليه، ومن مُحَرِّم له باعتباره مدخلا إلى الفلسفة وشريكا لها في الأثر، من حيث هو علم فذْلكي يرتبط (أكثر) بأوضاع تَفَشِّي ثقافةِ الشكِّ وتَدَنِّي منسوبِ الإيمان، ولذا كان غلْقُ بابه يعني غلقَ بعض أبواب التشكّك، وسدًّا للثغرات التي يمكن أن يفضي إليها فنّ المساجلات العقدية.
ومن المؤكد أن موقف عالم مرجعي مثل أبي حامد العزالي من كلٍّ من علمَيْ الفلسفة والمنطق يكشف عن الإشكال الذي كان الفكر الإسلامي يعرفه في تلك العهود (القرن الرابع وما بعده)، فقد سفَّه الغزالي الفلسفة واعتبرها علم التهافت، فيما اعتمد فنّ المنطق واعتبره من صميم آليات الإسناد العقلي التي يقتضيها بلوغ الإيمان اليقيني.
أوشك أن يكون كولن الأوحد في العصر الحديث ممن قرن الفكر بالعمل، وجعل الكلمة تصدر محملة ببرنامج تطبيقي.
النهضة المعاصرة ومنظومة العلوم
ولا ريب أن النهضة الإسلامية المعاصرة قد عدَّلت من هذه الرؤية حيال منظومة العلوم، وتجاوزت منطق الاقصاء الذي أضرّ بشجرة المعارف الإسلامية نتيجة الاشتغال شبه الحصري بفقه الفرائض وبفرائض السلوك (الزهد)، إذ عملت (النهضة) بجد وجهد كبيرين على استيعاب المعارف العصرية، وإعادة الاعتبار للعقل المفكّر، ولم تبخس من المناهج إلا ما يمسّ بالدين ويتحلل من تعاليمه.
من هذا المآل الإحيائي، التوسعي، انطلقت النهضة الإسلامية المعاصرة، وضمن هذا الجو التفتحي التأصيلي، سار الأعلام يحصفون الرؤية من جديد، ويوصلون ذهن الأمة بمفاعيل العقل تارة أخرى، بقصد تحقيق الإقلاع.
أخوة الفكر والفكر
وإن موقع الأستاذ كولن في هذا الحراك النهضوي لبارزٌ، ومتميّز، إذ أوشك أن يكون الأوحد في العصر الحديث ممن قرن الفكر بالعمل، وجعل الكلمة حين تصدر، تصدر وهي محملة ببرنامج تطبيقي؛ فلقد أقام فلسفته على الملازمة بين الفعل والفكر، وجعل الفكر عملاً، والعمل فكرًا.
هكذا تتفرد فلسفة كولن بكونها تستند على عقل نبت على أرضية القرآن والسنة، واستقى مَلِيًّا من أنهر الصالحين، وترعرع متواصلا مع علوم العصر، فكان له من الإنجازات في حقل التفكير التطبيقي الممنهج ما سنحاول رصد بعض جوانبه في مقالات لاحقة.
المصدر: كتاب “الانبعاث الحضاري في فكر الأستاذ فتح الله كولن”، سليمان عشراتي، دار النيل للطباعة والنشر
Leave a Reply