انقطعت عن الكتابة عن مراكز الدعم المدرسي فترة بسبب انشغالي بمشاريع فكرية وثقافية مختلفة. ولكن ها قد عدت من جديد لأوثق ما رأته عيناي من مشاريع تربوية إنسانية تنموية فريدة أطلقها رجال “الخدمة” في تركيا بريادة الأستاذ فتح الله كولن ودمرتها حكومة حزب العدالة والتنمية على خلفية الانقلاب المزعوم بدون أي سند قانوني.
واجب الوفاء
عدتُ إلى الكتابة من جديد، لأنني أومن من كل قلبي أن الكتابة عن “الخدمة” واجب يقتضيه حس الوفاء إزاء تلك المشاريع الفريدة ورجالها الذين أسسوها وسهروا عليها وعملوا على إنجاحها.
وإنني أعترف أنني لست كاتبا، ولا أحسن الكتابة، ولست ماهرا في فنونها، وإنني أعجمي إلى حد كبير تغلب عليّ اللغة التركية والثقافة التركية رغم أنني نشأت في صغري في بيئة تتحدث اللهجة السورية. لكن من واجبي أن أدلي بشهادتي وأصف ما رأيته من إنجازات “الخدمة” في مجالات شتى من باب الأمانة سائلا المولى عز وجل أن يسخر لهذه المشاريع الرائعة من يوفيها حقها في الكتابة والدراسة والتحليل.
الأمل بدل اليأس
سأواصل من حيث انتهيت في مقالي الأخير حيث كنا نتجول في مركز صغير من مراكز الدعم المدرسي في إسطنبول، أجل، مركز صغير في حجمه لكنه كبير في عمله. كان لقاؤنا مع الطلبة في الفصل مؤثرا جدا، كلمات التلاميذ لمست أوتار قلوبنا، وأكبرنا هذه المراكز فيما تقوم به من عمل تربوي إنساني عظيم.
الكتابة عن “الخدمة” واجب يقتضيه حس الوفاء إزاء مشاريعها الفريدة ورجالها الذين أسسوها وسهروا عليها وعملوا على إنجاحها.
خرجنا من الفصل وقلوبنا تخفق فرحا لهؤلاء الطلبة المحظوظين، نعم محظوظين بحق، إذ لولا هذه المراكز ماذا كانوا سيفعلون؟ بالتأكيد سيضيعون كأمثالهم من الشباب اليافعين، يتشردون في الشوارع ويعانون قسوة البطالة، ويقعون طعما سائغا في يد عصابات الإجرام. أما هنا في هذه المدرسة الصغيرة فإن قلوبهم تنبض بالأمل وينظرون إلى المستقبل بعين أخرى.
رياضة وترفيه
قادنا المدير الشاب عبر ممر طويل إلى جناح واسع يشتمل على كافيتريا وكراسي وطاولات من أجل الاستراحة وشرب الشاي والقهوة، وقد علق على الجدار شاشة تلفزيونية كبيرة، وعلى بعد أمتار من ذلك منضدتان كبيرتان لكرة المضرب. قال المدير: “نحاول هنا أن نلبي حاجة الشباب إلى اللعب والرياضة بقدر ما نستطيع، ونقيم مسابقات في كرة المضرب أحيانا، وهناك جوائز للفائزين”.
“والتلفاز؟” سأله أحد الضيوف. “التلفاز يلبي حاجة مهمة كذلك، هنا نعرض على الشباب أفلاما سينمائية هادفة ورسوما متحركة جيدة ومسلسلات يحبونها، وهي جميعا تغرس قيما سامية وسلوكيات راقية في قلوبهم. بالإضافة إلى مشاهدة مباريات كرة القدم. هناك منافسة شرسة بين النوادي الرياضية في تركيا، وكل شاب له فريق يشجعه، نحن هنا نوفر لهم إمكانية مشاهدة المباريات الأسبوعية بثا مباشرا في جو من النزاهة، بدلا من أن يذهبوا إلى مقاهي وكافيتريات غامضة لإشباع هذه الرغبة فيتعلمون فيها التدخين والسباب والشتم وعادات سيئة أخرى. نحن نحاول أن نضع أمامهم بديلا أفضل”.
دورات في الحاسوب
على بعد أمتار من الكافيتريا لمحنا حجرة صغيرة، ذهبنا إليها فوجدنا فيها قرابة عشرة حواسيب يجلس إليها مجموعة من الطلبة، بعضهم يدرس، وبعضهم يلعب ألعابا شهيرة، والبعض الآخر يشاهد الأفلام وآخرون يعدون عروض باوربوينت. هذه غرفة الإعلاميات بالتأكيد، لكن أثار استغرابنا أن نرى بعض الطلبة يسرفون أوقاتهم في ألعاب الكومبيوتر، وهنا في هذا المركز الجميل.
وضعتُ نفسي مكان آباء وأمهات هؤلاء التلاميذ. هل يوجد في العالم من هو أسعد منهم يا ترى؟ لا أظن.
لمح المدير الاستغراب في وجوهنا، فأسرع يقول “نعم يلعبون، ولم لا؟ هؤلاء صغار، من حقهم أن يلعبوا ويستمتعوا، لكنهم يلعبون هنا تحت رعايتنا. تصوروا لو أنهم ذهبوا إلى مقاهي الإنترنت ماذا كانوا سيفعلون هناك؟ إننا ننظم موضوع الألعاب هنا، ونختار الألعاب بأنفسنا، بل نقيم مسابقات بين الشباب في هذه الألعاب ونوزع جوائز عليها. معلم الإعلاميات السيد أكرم يعلم الشباب كيف يستخدمون الحاسوب استخداما مفيدا، يعلمهم كيف يوظفونه توظيفا جيدا دون أن يتيهوا في سراديبه المظلمة”.
حدثنا السيد أكرم الذي كان يشرح لبعض الطلبة طريقة إعداد العروض في برنامج الباوربوينت عن أشياء كثيرة، مذهلة في الحقيقة، من ضمنها أن عنده قائمة مختارة من الألعاب يوصي بها للطلبة، وقائمة أخرى من الأفلام والرسوم المتحركة وقائمة من المواقع المفيدة، كما حدثنا عن دورات التعليم التي عقدها لتعليم برامج العرض والغرافيك والمونتاج وتصميم المواقع على الإنترنت وأمور أخرى كثيرة، مما أثار الغبطة في دواخلنا وتمنينا لو عدنا صغارا حتى نجلس بين يدي هؤلاء المعلمين ونتعلم منهم شيئا من العلم والخبرة الواسعة والأدب الجم.
سعادة الآباء
وضعت نفسي مكان آباء وأمهات هؤلاء التلاميذ. هل يوجد في العالم من هو أسعد منهم يا ترى؟ لا أظن. لأن أولادهم الذين كانوا يخشون عليهم الضياع والانفلات هم اليوم في أيدي أمناء يشملونهم برعاية فائقة ويوفرون لهم إمكانات هائلة يستحيل عليهم أن يوفروها لهم. فأيّ فضل هذا الذي منحه رجالات “الخدمة” من خلال تلك المراكز لهؤلاء المساكين!..
في هذه المراكز نوفر للتلاميذ إمكانية مشاهدة مباريات كردة القدم في جو من النزاهة، بدلا من أن يذهبوا إلى مقاهي غامضة.
اليوم لا أثر لتك المراكز في تركيا، دمرها السيد أردوغان وحزبه بتهمة أنها تمارس أعمالا إرهابية على خلفية الانقلاب المزعوم في صيف ٢٠١٦. أغلقها لأن فتح الله كولن عارضه في الرأي، بل وادعى أن كولن الإرهابي رقم واحد في العالم، هو ومن سار معه ودعم أفكاره.
وهل يفتح الإرهابي مدارس؟ وهل يحارب الإرهابي الجهل والفقر والتخلف؟ وهل يساعد الإرهابي الناس في إخراجهم من الظلمات إلى النور؟ أي نوع من الإرهاب هذا؟ أم هل تغير تعريف الإرهاب دون أن نعرف؟
على كل حال، تلك مأساة لا أريد الحديث عنها الآن، فالحديث عنها يدمي القلب، دعونا نواصل في رحلتنا نصف ما وقعت عليه أعيننا من جمال فريد وإنجازات إنسانية مبهرة في عالم “الخدمة”.