لا يفتأ الأستاذ “فتح الله كولن” -بين وقت وآخر- يُقَلِّبُ صفحات فكره، ويعرض مكنونات صدره على الملأ بصراحة ووضوح حين يلتقي مندوب صحيفة، أو رجل فكر، أو أيَّ إنسان آخر يريد المزيد من العلم بأحواله وأفكاره من دون أنْ ينتابه أدنى شعور بالضيق أو الحرج.. فهو يضع نفسه وفكره، بل حتى أخصَّ شؤونه الأسرية تحت أنظار الناس ليروا ويسمعوا ويحكموا.. فليس لديه ما يخْفيه أو يحرص على كتمانه.

إنّهُ يحاكم نفسه وفكره، ويحتكم إلى الآخرين فيه… ولا يهمه أنْ ينشر طوايا ذاته كما هي مجرّدةً من أيِّ تجميل أو تزويق؛ فهو داعية “الكلمة الحُرَّة” يقولها ويريد من الآخرين أن يقولوها فيه صادقةً خالصةً مُبَرَّأةً من الظلم والغِلِّ والحقد والحسد.

أعمدة الفكر لدى كولن

ومنذُ خَبرَ الحياة ووعى رسالته فيها، وهو يعمل دائبًا من أجل قيام فكره على أَعْمِدَةٍ من “الحب الإنساني” و”التسامح الفكري” و”التعاون الحضاري”.. فالإنسان عنده -أيُّ إنسان- طاقة خَلاَّقية إعجازية ينبغي التعامل معه بإيجابية فاعلة لكي يستطيع أنْ يعطيه أفضل ما عنده، ويأخذ منه أفضل ما عنده.

الخشية من فناء أفكار الحق والعدل والخير والجمال في هذا العالم يوجب على المفكر التوكيد عليها على الدوام، وتحميل “ضمير البشرية” واجب صيانتها والحرص عليها كإِرثٍ إلهي لا ينبغي التفريط به.

وهذا الاهتمام الشامل للبشرية جمعاء، وتحميله نفسه واجب المسؤولية الأدبية والأخلاقية عن أفكارها وعقائدها، والتنبيه إلى انحرافاتها، نابع من فكر عالمي شمولي النظر، يتبنّاه “الأستاذ” ويدعو له من منطلقات عالمية الإسلام نفسه، ولأنّ المسلمين جزء لا يتجزأ من هذه البشرية يؤثر بهم صلاحها أو فسادها.

فالخشية من فناء أفكار الحق والعدل والخير والجمال في هذا العالم يوجب على المفكر التوكيد عليها على الدوام، وتحميل “ضمير البشرية” واجب صيانتها والحرص عليها كإِرثٍ إلهي لا ينبغي التفريط به.

فخلود هذه المعاني في ضمير البشرية هو الذي يعطي لنضال الإنسان من أجلها معنًى لحياته، ويبقى الإنسان مخلوقًا باهتًا وهَشًّا ما لم يُحْكِمْ ارْتباط وجوده بوجود الله صاحب كل معنى جميل وجليل في هذا الوجود.. فيأخذ منه أسباب وجوده وديمومية هذا الوجود، وعندئذٍ يستطيع أن يقول مفتخرًا: “ها أنذا موجود لا أشك بوجودي.. أُسَامِتُ السماء، وأُناطح الكون، وأخوض بحار الوجود بثقة واعتداد…”.

ضمير الفكر نور داخلي

فضمير الفكر -عند الأستاذ- أعظم من الفكر نفسه.. لأنّ هذا الضمير هو الذي يعطي الفكر أحقّيته، ويمنحه مصْداقيته.. فهو نور الإنسان الداخلي، وهو الفرقان الذي يفرق بين ما هو زائف من الفكر وما هو أصيل متوافق مع الحق الذي ينشده الإنسان وينشده العالم.

ضمير الفكر عند الأستاذ كولن أعظم من الفكر نفسه.. لأنّ هذا الضمير هو الذي يعطي الفكر أحقّيته، ويمنحه مصْداقيته.. فهو نور الإنسان الداخلي، و الفرقان الذي يفرق بين الفكر الزائف والأصيل المتوافق مع الحق.

فضمير الفكر هو الذي يدفع الأستاذ إلى خوض غمار الإنسان للكشف عن جوهره الإنساني ذي النفخة الإلهية… فترسيخ فكرة “الوجود” و”الخلود” في ضمير الإنسان يفتح آفاقًا عالية وواسعة في الفكر والحياة.. ومن هنا دعا الأستاذ إلى فهم محمد صلى الله عليه وسلم كظاهرة إعجازية عظيمة المصداقية، وكونية في أبعادها، وإنسانية في انتسابها، وإلهية في استمدادها؛ والتعامل مع القرآن كطاقة تنوير، وقوة تغيير… ومن ثمة حاول أن يجيب: لماذا محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن دون سواهما من كتب ورجال…؟!

والإجابة على هذا السؤال هو محور ما كان يدور عليه “ضمير الفكر” عنده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، الضاربون في الأرض، دار النيل للطباعة والنشر، طـ1، 2013م، ص66 ــ67.

ملحوظة: العناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.