أسست المقاربة العقلانية للدرس المعرفي الإسلامي في مراحل نشأته وتطوره، وطبعتْه على نطاق جلي ومُؤصَّل؛ فالشريعة الإسلامية كعقيدة روحية اقتضت أن يكون السبيل إليها سبيل الإقرار القلبي، معززا بالإقرار الإثباتي. ولعلّ الطابع التمحيصي الذي بُني عليه منهج التأويل في حقل التفسير، واعتمدته إجرائية العدل والتجريح في قراءة الحديث النبوي الشريف مثلاً، هو أحد شواهد ارتكاز الفكر الإسلامي على مبادئ المنطق والعقلنة.
واستندت شجرة العلوم الوارفة المعارف، التي نمت في تربة الحضارة الإسلامية، على العقل. على أن نهج الرواية والنقل قد شكّل أيضًا مظهرًا من مظاهر الاستيثاق التي اعتمدتها الثقافة الإسلامية في تفاعلها مع المنحى الميتافيزيقي الجلي في منظومة المعارف الإسلامية.
أوشك كولن أن يكون الأوحد في العصر الحديث ممن قرن الفكر بالعمل، وجعل الكلمة حين تصدر، تصدر محملة ببرنامج تطبيقي.
ولقد نشأ التصوف وسعى إلى أن يكفل للبيئة المعرفية الإسلامية انبعاثًا تجدديًّا، غير أنه فشل حينما لوّثته روح الخرافة، لاسيما بعد أن أضحى يُشكِّل المعين الرئيس للثقافة الشعبية ومصدر قيمها، فجرفت ذهنيتُهُ البِدْعِية مساحةً واسعة من مكاسب العقلنة التي تأصلت للفكر الإسلامي على مدى الثلاث قرون الأولى.
ولقد ظهرت محاولات استنقاذٍ عقلي قادَها أعلامٌ منهم ابن رشد وآخرون، إلا أنّهم استرفدوا لمشروعهم التجديدي متون المنجز الإغريقي. وكانت نتائج ذلك التفاعل حصرية في دائرة الوسط النخبوي، لأن الناهضين بها لم يراهنوا على إحداث القطيعة والخروج من شرْنقة فكر الأقدمين. وهكذا توطدت عوامل الاحتباس في الفكر الإسلامي، وساد شعار “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأناخت قرون الانحطاط بكلكلها على العقل فقيدته، وخرجت الأمّة من الحلبة، وقبعت طويلا في موقف الغائب عن التاريخ، إلى أن قيض الله من الحوادث ما آذن ببزوغ فجر نهضة إسلامية معاصرة مباركة، تعد باستعادة الصحوة، وباستصلاح آثار الانحطاط، واستزراع الأرض بما يجدد الحياة.
يحتلّ كولن موقعًا مفْصليًّا وديناميًّا ومُسَرِّعا من خطا الحراك الإحيائي البطيء الذي انخرط فيه عالمُنا الإسلامي منذ مُوَفَّى القرن الثامن عشر.
والمؤكد أن الأمة لم تبخس حظ البحث الفكري الفلسفي إلا لأنها وجدت نفسها تتوفر على كتاب منزل تجاوز بها حال الحيرة والتساؤل الميتافيزيقي الذي طالما رست عنده الفلسفات القديمة. فالقرآن أجاب عن كل تساؤلات الإنسان الوجودية والمصيرية.. مما أسس لقاعدة الإيمان. من هنا تجافى المسلمون عن الفلسلفة، إذ اعتبروها حقل الشكّ والحيرة الوجودية واللايقين،ذلك لأن صدق إيمان المسلم يقتضي -ابتداء- نفْي الشك الوجودي، والإقرار بالعبودية للخالق، والأخذ بالاستنارة التي كفّلها القرآن والسنة في تجلية المغاليق الوجودية الكبرى التي لبث الإنسان يجهلها ويتأرق لأجل معرفة كنْهها وماورائيتها.
وانعكس التحرز من الفلسفة على نظرتهم إلى علْم المنطق كذلك، إذ اشتجر حوله هو أيضاً جدلٌ؛ فمِن مقرٍّ له بالجدوى والمشروعية من حيث التمكين للدين والمحاججة عليه، ومن مُحَرِّم له باعتباره مدخلا إلى الفلسفة وشريكا لها في الأثر، من حيث هو علم فذْلكي يرتبط (أكثر) بأوضاع تَفَشِّي ثقافةِ الشكِّ وتَدَنِّي منسوبِ الإيمان، ولذا كان غلْقُ بابه يعني غلقَ بعض أبواب التشكّك، وسدًّا للثغرات التي يمكن أن يفضي إليها فنّ المساجلات العقدية.
ولا ريب أن النهضة الإسلامية المعاصرة قد عدَّلت من هذه الرؤية حيال منظومة العلوم، وتجاوزت منطق الاقصاء الذي أضرّ بشجرة المعارف الإسلامية نتيجة الاشتغال شبه الحصري بفقه الفرائض وبفرائض السلوك (الزهد)،.
عملت النهضة الإسلامية المعاصرة بجد وجهد كبيرين على استيعاب المعارف العصرية، وإعادة الاعتبار للعقل المفكّر، ولم تبخس من المناهج إلا ما يمسّ بالدين ويتحلل من تعاليمه.
من هذا المآل الإحيائي، التوسعي، انطلقت النهضة الإسلامية المعاصرة، وضمن هذا الجو التفتحي التأصيلي، سار الأعلام يحصفون الرؤية من جديد، ويوصلون ذهن الأمة بمفاعيل العقل تارة أخرى، بقصد تحقيق الإقلاع. وإن موقع الأستاذ “كولن” في هذا الحراك النهضوي لبارزٌ، ومتميّز، إذ أوشك أن يكون الأوحد في العصر الحديث ممن قرن الفكر بالعمل، وجعل الكلمة حين تصدر، تصدر محملة ببرنامج تطبيقي؛ فلقد أقام فلسفته على الملازمة بين الفعل والفكر، وجعل الفكر عملاً، والعمل فكرًا.
———————————
المصدر : سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص:39-43.
ملاحظة: بعض العبارات من تصرف المحرر.