إن الاهتمام بأمور الأمة ورصد أحداثها، والعمل على تشخيص دائها، والتفنن في معالجة مشكلاتها بما يتناسب وروح الأمة، لهو من أعمال العظماء حقًّا؛ فقد قل من يُوَظِّف قلمه شطر تلك المهمات، ويصرف روحه وهمه وفكره إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي أغلقت بل غُلِّقَت فيه جُل الاهتمامات التي على شاكلة هذا العمل السامي، وصُرِّفت الهمم نحو الأسافل من الموضوعات، فترى الشباب مثلا وهم عصب الحياة وتروس آلة الزمن الذي يتحرك بلا توقف أو انتظار لمتخلف، تراهم منشغلين بفلانٍ اللاعب الموهوب، أو بفلان الممثل المشهور، أو بأحدث الأزياء العالمية، ونحوها مما أعجز عن حصره من سفليات الأماني التي استهوت القلوب وشغلت العقول. ولست أقلل من قيمة ما سبق إلا أن خلط الجد بالهزل عقباه الندم، وقديما قالوا: “لا تخلطن بالجد هزلا، ولا بالهزل جدا، فإنك إن خلطت بالجد هزلا هَجَّنْتَهُ، وإن خلطت بالهزل جدا كَدَّرْتَهُ”.
أعود فأقول: ولأنه قلما تجد شخصا جديرا بالمتابعة والاهتمام، شخصا يرى راحته في راحة أمته، وهمه في همومها، فقد رأيت ذلك متحققا في ذلكم المفكر الإنساني -قبل أي وصف آخر- الأستاذ/ محمد فتح الله كولن، رأيت أن أقرأ مقالاته بتفكِر مهتمٍ، وشغفِ طالبِ علم، واحترام متعلِّم، ثم ألخص المقال بأسلوب مختلف نسبيا وألفاظ متقاربة متفقة في المعنى والمضمون، مُرَكِّزًا على عناصره الأساسية، مُبْرِزًا لنقاطه المحورية، وذلك بتوفيق من الله تعالى العليم بما في الصدور.
وقد اخترت من كتبه المترجمة للعربية كتابا من أهم كتبه الفكرية، إنه المُسَمَّى: “ونحن نقيم صرح الروح”، المشتمل على واحد وعشرين مقالا.
(1) قراءة في مقال: “دنيا في رحم الولادة” للأستاذ/ محمد فتح الله كولن
لقد أدرك الأستاذ “كولن” أن الأمة تعيش أزمة ضاربة، هي الأشد في تاريخ الأمة على الإطلاق، أزمة تغلغلت بضراوة في جسد الأمة الهزيل، شملت مناحي: العقيدة والأخلاق والفكر والمعارف والصناعة والعادات والتقاليد والأوضاع السياسية والاجتماعية.
لم يبق في جسد الأمة موضعا حيويا إلا ودخله المرض الخبيث!
حقا؛ إنه لمن المحزن أن تعيش أمتنا كجارية القصر المأمورة المطيعة لأسيادها بعد أن كانت سلطانته الآمرة الناهية فيه بلا معقب لأمرها المقدَّسِ بقدسية السلطنة، يا للأسف أن تعيش ذيلا للأمم بعد أن كانت رأس الأمم كلها، إذا قالت سمعوا وإذا قامت انتبهوا مخافة غضبها.
فيا عجبا ما سِرُّ مكانتها العالية قديما، واضمحلال شأنها أخيرا؟! كيف تبدل الحال هكذا؟!
إن سر النجاح الباهر يوضحه لنا الأستاذ “كولن” في النقاط التالية:
- شدة التمسك بالدين، ومعايشتهم له من غير خلل
- الالتزام القوي بالأخلاق الكاملة
- سلامة الأعراف والتقاليد
- سعة الأفق السياسي والاجتماعي
- العقل العلمي الذي سبقوا به الناس جميعا
- الاعتماد في سلطتهم على أعمدة ثلاثة: الإلهام والعقل والتجربة
نعم، لما كنا متحققين بهذا الخصال وغيرها، امتدت سلطة الأمة الإدارية حتى بلغت الآفاق البعيدة، فأحيت بتلك الأنظمة المثالية من كان في عهدتها من الشعوب حينئذ، حتى جعلت الدنيا بُعدا من أبعاد الجنة، وذلك في زمان كانت الدنيا تمر فيه بأحلك العصور ظلمة.
إن الأمة بتأثيرها الملحوظ في العالم التي رفعت هامته قرونا طويلة، لمّا تقهقرت وابتعدت عن رسالتها للعالم، تأثر العالم كله فوقع أسيرا في قيود الجهل القاتل، والانحلال الأخلاقي الفاضح، والخرافة المثبطة، والأهواء البدنية والجسمانية الصارفة عن كل هدف سامق، فخسر العالم مثالية هي الأجدر بالقيادة له لحاجته إليها حاجة المولود للبن أمه وعطفها، وتربية أبيه ورعايته.
ولكن السؤال الأهم الآن: هل فقدنا الأمل في انبعاث جيل يكافح ويناضل للخلاص من هذا الأسر المذل؟
كلا لا نفقد الأمل أبدا ما دام فينا نَفَسٌ، فلنقتلع المستحيل من قاموسنا، ونعزّز الأمل في نفوسنا ليحل محل الألم الذي يقض مضاجعنا.
إن المصائب والنكبات التي تحل بالأمة صباح مساء لهي رسائل تنبيه قوية لهذا الجيل المهموم بشأن أمته أن استعينوا بالله تعالى وحده، وكونوا كفتية أصحاب الكهف الذين قاموا فاتخذوا شعارهم التوحيد الخالص وإن حاربتهم الدنيا بأسرها، لا يبالون بخسارة دنيا زائلة، فقد كان كل همهم أن يهيء لهم ربهم من أمرهم رشدا، فكان الجزاء من جنس العمل، فلقد تبدلت نواميس الكون لأجلهم تبديلا خَلَّدَ ذكراهم في آخر الكتب المنزلة من السماء على آخر رسل الله إلى أهل الأرض.
إنها رسالة لكل داعية أو مصلح أن “الحق يعلو ولا يُعلى عليه”، {والعاقبة للمتقين}، وإنه لا شك سيأتي اليوم الذي نشهد فيه معاني سورة النصر بعظمتها وهيبتها فترى الناس يدخلون في دين الله أفواجا مرة أخرى كما دخله أولئك السعداء سابقا.
إن الإسلام بما يمتلكه من سمات لا تتوافر لأي منهج آخر لَجدير بهذه النتيجة المرجوة، والهدف المنشود، والأستاذ “كولن” يوضح لنا أبرز تلك السمات في نقاط هي:
- توافق روح الإسلام مع طبع الإنسان
- إعانته للإنسان على ارتقائه المادي والمعنوي
- موازنته السامقة بين الدنيا والعقبى
إن تلك السمات وغيرها الكثير مما ليس المجال تفصيله، جعلت الناس يهرعون إلى الإسلام في كل أنحاء العالم ومن كل الفئات حتى صار الإسلام الشغل الشاغل لهم؟
إن الأستاذ كولن يبعث في هذا المقال رسائل أمل للمسلمين خاصة، ثم للعالم أجمع، ثم لكل فرد على هذا الكوكب الأرضي أن يحاولوا الاستفادة من تلك النسائم المنعشة، كلٌ بقدر ما تسع فطرته وأفق فكره؛ لينعموا بالإيمان الصحيح والأمل والأمن، فالاطمئنان والحبور.