في عام 2003م أصدرتُ أول كتاب لي وهو كتاب «حرق الكتب في التراث العربي»، وحرق الكتب ظاهرة مرتبطة منذ القدم بالتسلط والقمع غالباً، وليست حكراً على مجتمع دون غيره، وإنما هي ممارسة عامة وفي جميع العصور والأزمان. وبالرغم من وجود صيحات منددة بهذا الفعل المشين إلا أنها ما زالت مستمرة. ففي العالم الحر مثلاً يحدث أن توجد مطاردات لكتب معينة، وتنكيل بمن يؤلفها ويطبعها مثلما حدث في أمريكا مع كتاب فهرنهايت 451. وكما يعرف من اطلع على هذا الكتاب أنه صرخة احتجاج على الحرب العالمية الثانية وقنبلتي هيروشيما ونجازاكي ومحاكمات مكارثي. قوة هذا الكتاب تكمن في أن العالم الحالي يعيش نفس مشاكل الأمم قبل ستين عاماً. فحرق الكتب مثلاً وهو مبنى رمزي في الرواية ما زال موجوداً، والسلطة ما زالت تحرق الكتب والرجل المكلف بإطفاء النار أي الإطفائي هو الذي يؤجج سعيرها حتى تصل إلى 451 فهرنهايت، وهي درجة احتراق الكتب بفعالية.
ما حدث في تركيا شبيه بما حدث في رواية فهرنهايت، فالشخص الذي يفترض به صون الكتب والحفاظ عليها وأعني هنا مالكها هو من يقوم بإحراقها خوفاً وجزعاً من المطاردات الأمنية، وذلك بعد الانقلاب المكذوب الذي رتبه أردوغان من أجل فرض الهيمنة والسيطرة على تركيا في عام 2016م، وتصفية الخصوم. فالأمن التركي يتابع ويراقب النفايات وينبشها. وما يجده من كتب محروقة على عجل أو شبه محروقة يفحصها. فإذا كانت من كتب رجل الدين فتح الله كولن اعتبر صاحبها من أتباعه أو مريديه. وهنا تأتي مرحلة التتبع والتحري للعمل على القبض على هذا المجرم الأثيم. لقد قام السوقة والرعاع والأوباش المأجورون بتمويل قطري من الذين حركهم أردوغان، المعروفون باسم حراس الديموقراطية، بعمل محارق لكتب فتح الله كولن في الساحات العامة. واستهدفت كل الكتب المناوئة لحكم رجب طيب أردوغان من كتب ومؤسسات كردية أو قومية. وسحبت كتب من مكتبات المدارس والجامعات بذريعة علاقتها بفتح الله كولن بعشوائية غبية. وحدثت أشياء غريبة في هذه الأحداث. فأحد دكاترة الجامعة أعتقل لوجود كتاب لفتح الله كولن عنده، على الرغم من أن هذا الأستاذ علماني يجهر بمخالفته لكولن! وبالرغم من هذا لم يسلم من الاعتقال والمحاكمة. لقد كان هذا الواقع فرصة مهمة لأردوغان للتخلص من خصومه، ولكن ما الذي يجعل أردوغان يكره كولن كل هذا الكره؟ يبدو أن أردوغان يستشعر الخطر من فتح الله كولن، خصوصاً أن هذا الداعية له أتباع كثر، وله مشروع خدمي يعم جميع تركيا، كما أن له مدارس وصحفاً ومشاريع خيرية. لقد كان رجب طيب أردوغان من أتباعه ومريديه. وقبل فترة صرح كولن في لقاء أن رجب طيب أردوغان هو صنيعة للاستخبارات الأمريكية. وعلى ما يبدو أن أردوغان يخشى من تكرار نموذج الخميني في تركيا من خلال كولن. وهذا ما يبرر عنده التوحش الذي عومل به أتباع كولن ومريديه والمتعاطفين معه. ويبدو أن كولن لم يفهم المطلوب، وهو صناعة فوضى في أوروبا وآسيا وفي العالم الإسلامي بقدر فهم أردوغان لهذا الأمر فرحبت أمريكا بأردوغان كمنفذ لأجندة الرمق الأخير للقوة العظمى، وبقي كولن كفزاعة لأردوغان في أمريكا. فرجل مثل كولن يستطيع أن يحرك الشارع التركي بكل اقتدار ويصنع وضعاً مضطرباً شبيهاً بالوضع الذي كانت عليه إيران زمن الشاه، مع فارق أن صناعة الفرد الموالي لصانعه ليست ناجحة دائماً بعد انقلاب الخميني على جميع الوعود والشعارات التي أطلقها في فرنسا لطمأنة الرأي العام الأوروبي والأمريكي. لقد صنعت فرنسا كارزيما الخميني في العالم الإسلامي ووصل بهم الحال أن عمل مع الخميني في فرنسا 450 لقاء صحفيا خلال تسعة شهور تقريباً. وكانت دروسه الأسبوعية تنقلها محطة البي بي سي الفارسية الموجهة لإيران. هكذا صنع الخميني على عجل، أما فتح الله كولن فرجل دعوة خرج من عباءة سعيد النورسي رحمه الله «ت1960م» وهو بعيد عن تسييس الدين. ويغلب عليه التصوف، إذ هو لا يصلح للمرحلة الراهنة لكنه يصلح كرمز يقض مضجع أردوغان.. هذه هي السياسة.
بقلم: ناصر الحزيمي
المصدر: موقع عكاظ