إن الوعي الإسلامي وعي مشترك فوق الجماعات والفرقاء. ولا يمكن إرجاعه إلى مصلحة جماعة معينة أو فريق بعينه. وإذا كنا نعني بالوعي عدم الاكتفاء بتدين بسيط فهذا صحيح، وهو يتماشى مع أسس الإسلام (القرآن والسنة والإجماع). وهو يشكل جواباً أو حلاً لهوية المسلم التي تعرضت للتخريب بسبب الانحدار الاجتماعي–الاقتصادي، والاجتماعي- الثقافي. وهذا لا يعني أن الوعي ليس بالضرورة أن يكون بديلاً ضد الأزمة الاجتماعية والثقافية. لأن وضع وإنتاج الهوية السياسية هو من وظيفة الأحزاب السياسية. ولا يمكن اختصار أهداف الدين الإسلامي على نطاق الفرد والمجتمع إلى مجرد وعي سياسي. ثم إن أبسط الأهداف الدنيوية ومثلها مرتبطة به بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحياة الأبدية ومع السعادة الأخروية. ولا يمكن للأهداف الدنيوية الضيقة والعقيمة، والأهداف السياسية استيعاب واحتضان أهداف الإسلام الممتدة إلى اللانهاية. لذا ليس من الصحيح (108-107-106) قراءة تصاعد الوعي الإسلامي على ضوء الأهداف الدنيوية والسياسية البحتة، لأن هذا يعني هدم مُثل الإسلام اللانهائية والأبدية. وهذا ما لا يقبله حتى المسلم الاعتيادي.

والحقيقة فقد أصبح من المعروف النية الحقيقية للذين اعتادوا أن يرجعوا جميع أنشطة المسلمين وكأنها موجهة لتحقيق أهداف سياسية. فهم لكي لا يواجهوا ردّ فعل جماهيري غاضب إن قاموا بعداء واضح للإسلام بشكل مباشر، فقد اختاروا –لإخفاء عدائهم هذا– عدّ كل نشاط أو حركة إسلامية وكأنها حركة سياسية. فالإسلام السياسي (أو الإسلامية التاريخية) على أي حال متهم على الدوام.

وقد وجهت حركة محمد فتح الله كولن ضربة إلى هذا الوهم الذي يملك ماضياً طويلاً. فقد أرادوا أن ينظروا إلى هذه الحركة بالمنظار المعتاد نفسه، أي باعتبارها حركة إسلامية ذات أهداف سياسية. ولكنهم لم يستطيعوا الحصول على أي دليل في هذا الصدد. ولن يستطيعوا أن يجدوا.. لأن جميع آليات وديناميكيات هذه الحركة وماضيها التاريخي لم تتوجه إلى أي هدف سياسي أو غاية سياسية.([5]) لذا فهي حركة مثالية تجمع القيم الدينية مع القيم الإنسانية والاجتماعية في وحدة متكاملة. وهي تقدم تجربة فريدة في هذا الخصوص. وأنا أرى أنها –ولا سيما بعد نجاحها الفذ في مجال التعليم والتربية– قدمت حلاً وجواباً لمشكلة الأزمات الثقافية التي تعمقت عندنا سنوات عديدة وطويلة

إن حركة محمد فتح الله كولن حركة ديناميكية نشطة قد أفرزت روحاً تعبوياً عاماً، بحيث يجد كل شخص فيها وفي مؤسساتها العديد ما يناسبه من ألوان النشاط. وهذا هو السبب في تأثيرها على مختلف أنواع الكتل الجماهيرية. وهي تطالب منتسبيها بتضحيات جسيمة. كما أنها لا تشبه الحركات الأيدولوجية التي تحاول جمع الأنصار والسيطرة على الشارع بإطلاق الشعارات. ولا تستمد قوتها وتأثيرها من الشارع، بل من قلوب الناس الذين نذروا أنفسهم للخدمة. وعادة ما نرى أن الحركات الأيدولوجية بشكل عام لا تستطيع إجراء أي تأثير اجتماعي قبل سيطرتها على الشارع. بينما نرى أن الفئات المختارة التي تسيطر على نواحي الاقتصاد والاجتماع والسياسة قد أبعدت الكتل المكونة للشارع، والتي تتألف من جماهير الأحياء الفقيرة وأحياء الضواحي الذين تراكمت عندها مشاعر النقمة والانتقام، وتكون موجة معارضة اجتماعية عنيفة. وغالبا ما يستولى على الشوارع من قبل المتذمرين من الحياة والناقمين عليها، والذين يُتوقع منهم كل مكروه. وتقوم الحركات المرتبطة بالشارع بتهيئة منتسبيها ليكونوا قدوة في الدولة الأيدولوجية التي يطمحون في تأسيسها، والتي تحمل قيماً معارضة لقيم المجتمع وغريبة عنه.

بينما تستند حركة محمد فتح الله كولن إلى الوعي الإسلامي ورُقيِّه وإلى الإنسان المتوازن المستقر. (109-108) لذا فهي ليست حركة لاستقطاب فئة الناقمين في المجتمع لفرض تحريك الشارع، بل هي حركة ترى في الأمة بكافة شرائحها رصيدها الذي لا ينفد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد أنس أركنه، فتح الله كولن، جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.