إن الإنسان يحبّ عائلتَه وأولادَه ووطنَه الذي وُلد فيه حبًّا جمًّا، فكم من شاعرٍ ترنم بالحنين للوطن ووحشة الغربة، فهذا إحساسٌ موجودٌ لدى الجميع. لذا نرى سيدنا “بلال بن رباحٍ” رضي الله عنه رغمَ ما تكتنفه المدينة المنورة من جمالٍ ساحر إلا أنه يبكي عندما يتذكّر مكة، وينشد أشعار الشوق لها، ولم يكن شوق “أبي بكر” رضي الله عنه وغيره أقلّ من هذا الشوق. لقد هاجروا إلى المدينة في سبيل عقيدتهم ودعوتهم، ولكن شوقهم لديارهم كان يكوي أفئدتهم، فشخصٌ مثل أبي بكر رضي الله عنه لم يفكر لحظةً واحدةً في فراق الرسول صلى الله عليه وسلم كان أيضًا يتفطّرُ شوقًا إلى مكة ويستاءُ من فعل المشركين الذين تسبّبوا في تركه ديارَه. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يقول لمكة حينما ودعها: “وَالله إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ الله، وَأَحَبُّ أَرْضِ الله إِلَى الله، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”[1].

 الشعورٌ الشوق والحنين إلى الوطن فطري، لذا يجب النظر إلي هذا عند تناولنا موضوع الهجرة، فالصحابة وُلِدوا في مكة وترعرعوا هناك.

 الهجرة وغريزة حب الأوطان:

الشعورٌ الشوق والحنين إلى الوطن فطري، لذا يجب النظر إلي هذا عند تناولنا موضوع الهجرة، فالصحابة وُلِدوا في مكة وترعرعوا هناك. وهناك البيت الذي بناه أبوهم إبراهيم عليه السلام الذي كان يأتي لزيارته الآلاف من الناس من أقاصي الأرض كلّ سنة، وكانوا هم سدنة هذه الكعبة وساداتها، فمنهم مَن أخذ على عاتقه مهمةَ إطعام الزائرين، ومنهم مَن أخذ على عاتقه مهمّة سقايتهم بماء زمزم، ومنهم مَن أخذ على عاتقه الاهتمام بالذبائح التي يقدمونها لبيت الله، كان لكلٍّ منهم مهمة يؤديها, وعادةً يصعب على الشخص ترْكَ ما تعوّد عليه، فنحن مثلًا تعودنا على تذوق المشاعر العميقة التي يبعثها فينا شهر رمضان والصوم والإفطار وأداء صلاة التراويح، وكذلك تنتابنا مشاعر وأحاسيس عميقة عند ذهابنا إلى الحج، ثمّ عودتنا منه ومشاعر الفراق المثارة في نفوسنا؛ وإن كان شيئًا مؤقتًا، وقد جرّب الكثيرُ منّا ولِعِدَّة مرات هذه المشاعر، بينما كان سادتنا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتركون أوطانهم ومساكنهم وأولادهم وعيالهم، فمثلًا عندما هاجر عمر رضي الله عنه لم يأخذ معه زوجاته، وعندما هاجر أبو بكر رضي الله عنه لم تكن معه ابنته عائشة رضي الله عنها.

عجبًا! أين كانت هذه السيدة العزيزة التي اكتسبت عزةً ما بعدها عزة بارتباطها بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت يا ترى!؟

 الهجرة في سبيل الحقّ كانت فوقَ كلِّ شيء وأولى من أي شيء، لذا أبقى هؤلاء الصحابة الكرام كلّ ما يملكون في مكّة وهاجروا.

أين بقيت هي وزوجات أبي بكر رضي الله عنه اللواتي لا نعرف أسماءهن، وأين بقي والده الشيخ الأعمى أبو قحافة، كيف تركهم الصديق رضي الله عنه وذهب؟ هل نستطيع لْصِقَ تُهمةَ قساوة القلب بهذه النماذجِ!؟ أبدًا… كان كلٌّ منهم مثالًا للرحمة، وعلاقاتهم الأسرية من القوّة بمكانٍ يجعلها تفوق أيَّ تقدير، ولكن الهجرة كانت فوقَ كلِّ شيء وأولى من أي شيء، لذا أبقى هؤلاء كلّ ما يملكون في مكّة وهاجروا،

كان منهم مَن يهاجر جهارًا نهارًا ومتحديًا الجميع، وكان منهم مَنْ لا يعرف شيئًا سوى أنه يهاجر في سبيل الله، أي كان يخطو ويشدّ الرحال نحو شيء غامضٍ، كانوا يملكون في وطنهم الذي يفارقونه كلَّ شيء: المساكنَ والأولادَ والمالَ، وكان الفقرُ والغربة والوحدة تنتظرهم في البلد الذي يتوجهون إليه، إذ لم يكن معلومًا لديهم أن أهل المدينة الأوفياء سيرحبون بهم ويقاسمونهم مساكنهم، كان هؤلاء المهاجرون يمثّلون قِوَامَ الإنسانية، ومن ثمّ ساعدوا على ظهور ثُلّةٍ فريدةٍ هي الأنصار، وصار الأنصار حواريّين، واكتسب المهاجرون صفة النصر والتآزر من الأنصار.

————————————————————

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 265-267.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

[1] سنن الترمذي، المناقب، 132؛ سنن ابن ماجه، المناسك، 103.