جميلة فتيات تركيا ، وصرخة “واعربيتاه”
تُصدِر مئذنةُ المسجد على الدوام آذانا بأصوات ونغمات مختلفة في فجر ليالي إسطنبول الشتوية. يكون الطقس باردًا بالخارج، لكن مع فجر ضياء المآذن تئنّ الروح بدفء أصواتٍ تتصاعد من شرفات المآذن ومنابر المساجد.. صداها المنعكس بنداء التوحيد في كل مكان: الله أكبر، الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح.. الله أكبر، الله أكبر.. لا إله إلا الله…
يتماوج بلطف في الهواء البارد، ليسري في أوصال من يكون قيام ليله وسجوده في ظل الشوق إلى ساعة الوصال.. في جو الصلاة الفوّاحة بعطر الحياة الروحية.. تلمع أضواء أعماق عوالم كافة السماوات وما وراءها من عوالم الضياء، وتتواصل إضاءات شموع من أنوار تسيل على قلوبنا… وبينما كنت أستنشق عطر هذه النفحات النورانية وأشكر الله على نعمه، وصل إلى سمعي أنين صوت خاشع يتلو آيات من الذكر الحكيم، وصلت نبراته الرقيقة بسرعة البرق.. فلامست مشاعري، وأوقفت بسرعة نظم أفكاري ورشفة لساني بالذكر فما شعرت إلا بشلال منهمر من الدموع ينزل على خدي.. يا سلام إنه صوت فتاة تركية… سبحان الله، فتيات لا يتقن اللغة العربية ولا يعرفن معاني ما يتلونه من آيات الذكر الحكيم، ومع ذلك يتلون بصوت يجهش بالبكاء.. يتْلون وهن يحملن حرقة أستاذهم فتح الله في غيبوبته عند الآية الكريمة ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(الشُّعَرَاء:3). فأين أنا من قسوة نفسي؟ أين أنا من خشوع هذه القارئة التي لا تعرف معاني الكلمات؟ أين أنت يا مريم، من درجات الترقي في مراتب الوصال، عند تلاوة الآيات التي تعرفين معانيها جيدا؟!
واحرقتاه على نفسي وعلى أبناء عمومتي من العرب.. العرب الذين تنكروا لعروبتهم.. العرب الذين استبدلوا لغتهم العربية (مفتاح حب الله ورسوله) بلغة أعجمية، تشربوا حبها في قلوبهم، وعشقوا ثقافتها نهجا لأبنائهم.. العرب أعراب يا جميلتي التركية، يا من أتحفتني هذا الفجر بتلاوتك الربانية.. العرب أشكال وألوان، منهم عرب العزة والشهامة والكرامة والأصل، ومنهم عرب التنكر والجحود.. منهم من يمسك بجذور أصوله العربية على جمر ملتهب، ومنهم من باعها في أسواق نخاسة المعاجم الأعجمية.
جميل يا جميلة الجميلات، أن يتقن العربي لغة أقوام، لتحقيق السنن الكونية القرآنية في التعارف والتعايش، ولكن من العار أن يتهاون بنسبه، ويفضل العيش بين أقرانه لقيطا بالتبني، من دون أصل ولا نسب..
ذكرتني -يا فتاة حلمي- بقصة عشتُها مرة في دروب أزقة مدينة الرباط، حين كنت أتجول في أعياد العاشوراء، وهي مواسم بيع هدايا الألعاب للأطفال.. كنت أمشي وراء سيدة تداعب يد طفلتها الصغيرة وهي تشاور لها على دمية تحمل في يدها رضاعة حليب زجاجية، وتقول لها “أمّي أمّي، أريد هذه الدمية”، تشير الصغيرة في تعنت للدمية، وتجرّها أمها وهي تضربها ضربا خفيفا على كتفها، حسبته من أجل إيقافها عن البكاء والمطالبة بشراء الدمية. لكن بعد هنيهة، تبوح الأم بسر حرقتها، وتفسر لصغيرتها السبب الذي جعلها تضربها.. أتدرين ما هو يا جميلتي التركية؟ يا من تحملين حرقة همّ تعلم العربية!
اسأليني رجاءًا “لماذا؟”، فأنا هنا لأجيب عن سؤالك. اسأليني لترحميني من عذاب عروبتي المهانة.. اسأليني رجاءا اسأليني، لأجيبك بكل حرقة أن هذه الأم كانت تضرب ابنتها، وهي تصرخ في وجهها قائلة: “أنا لا أضربك من أجل شراء الدمية، كنت سأشتريها لك، لولا أنك نطقت بما علّمته لك جدتك أم والدك من ألفاظ، لا تليق بمقامنا الاجتماعي، لماذا تسميها دمية كالعوام، ولم تسمها poupée بوبي كما علمتك بالفرنسية”…
فالعقاب -يا سيدتي- هنا لم يكن عقابا من أجل المطالبة بحق تملك الدمية، وإنما كان عقابا تربويًّا من أجل الانسلاخ عن هوية اللغة العربية.. تضربها وهي تردد بحرقة من تخاف التحاق عدوى اللغة العربية أو حتى الدارجة المغربية بابنتها.. نسمّيها (poupée، poupée) وليس الدمية.. تنهدت بكل حرقة، وتدخلت بلطف يحمل مرارة المرارة لأقول لها: “دعي لها شيئا يا سيدتي من تراثها.. دعيها تفتكر مواسم ومراسيم أعياد أجدادها.. دعيها تسمّي الأشياء بمسمّياتها.. دعي لها على الأقل كلمة “دمية” لتحتفظ بها في موسوعة معجمها الفرنسي الكامل”..
دعيني أيتها الحسناء الفاتنة التركية، أحكي لك حرقتي على اللغة العربية.. فنحن المغاربة أمازيغ، نفخر بأمازيغيتنا، نتكلم بها مع أبناءنا، في بوادينا وحواضرنا ورفقة عوائلنا.. لكن أيضا نعشق لغة القرآن كما تعشقونها في تركيا، نصلي بها كما تصلون بها، نعلن بحروفها شهادة التوحيد كما تنطقونها في تركيا، نؤذّن بها في صوامعنا، ونرفع بها تكبيرة الإحرام للصلاة، عربا وأمازيغا..
هكذا عشنا في المغرب، وهكذا امتزجتْ دماؤنا وألسنتا بلهجات دارجية بربرية.. تاشلحيت في الجنوب والجنوب الغربي، وتمازيرت في جبال المغرب الأوسط، والزناتية في الشمال الشرقي، والحسانية في الصحراء، وجبلية في جبال الشمال.. بفضل الانصهار كم من قبائل عربية تمزغت، وكم قباءل أمازيغية تعرّبت… هكذا تعايشنا في المغرب بدون أي مشكل تحت راية الإسلام… إلى أن جاءنا من المدينة قوم سعوا إلى فصل اللغة العربية من قاموس المعجم المغربي كما فصلت العربية من المعجم التركي.
ماربيا السياحية.. ودرس الهوية
دعيني أيتها الأعجمية المتحرقة شوقا لتعلم العربية، دعيني يا ابنة حراء المعنى، المتعطشة لبناء جسور التواصل العربي التركي.. أحكي لك موقفا حصل لي في مدينة ماربيا الساحلية الإسبانية…
ماربيا بحر جميل من استثمارات العرب.. قصور ومنتجعات سياحية ومطاعم ممتدة.. ماربيا جنة الهاربين من حر الصحراء ولهيب آبار البترول.. ماربيا أرض الخمسة نجوم في الاستجمام، تستقطب أمما وأجناسا من حول العالم..
كنت عابرة منها لمدة يومين، وكان الصيف بجوه الحار، يغري الأطفال والكبار بالاستباق نحو محلات المثلجات… في زاوية ميناء بانوس محل كبير ومشهور بالتفنن في نكهات المثلجات، دخلتُ لأشتري منه ما يغريني من نكهات الفستق والفرولة. كنت أقف في صف الانتظار حين وجدت قبلي فتاة عربية بعبايتها الخليجية، تحاول إيصال رغبتها فيما وقع عليه اختيارها من نكهات باللغة الإنجليزية. بينما تجيبها العاملة باللغة الإسبانية وهي تردد بعصَبية “قُولي لي ما النكهة التي تريدين، وبسرعة”.. أمامي صف طويل عريض من الزبائن.. الفتاة العربية تحاول مرة أخرى التواصل باللغة الإنجليزية، من دون جدوى.. وبطريقة فجة تدير العاملة الإسبانية وجهها نحو الزبون التالي الذي كنت أنا، وبنفس الطريقة تعمدت أن أشرح لها ما أريد.. لكن هذه المرة باللغة العربية. فما كان منها إلا أن تلفظت بكلمات مهينة للعرب، ووصفتهم بالأغبياء.. تركت لها المجال لأن تكمل ما بجعبتها وتفرغ جم عنصريتها، ثم طلبتُ منها بلغة إسبانية أنيقة أن تنادي صاحب المحلّ.. اندهشتْ من معرفتي باللغة الإسبانية وتمتمت تريد الاعتذار.. فما كان إلا أن صممتُ على طلب مدير المحل.. تحركت زميلتها التي ربما كانت تبحث لها عن مأزق.. وبسرعة فائقة حضر المدير. حكيتُ له القصّة وأنا مستغربة كون هذا المحل السياحي لا يوظف ناطقات بلغات أخرى حتى يتواصلن مع السائح:
– سيدي، أموالكم تجنون أرباحها من السياح.. ومصدر رزقكم من هؤلاء الأقوام الذين عيّرتْهم مستخدمتك بالغباء، لأنهم لا يتكلمون لغتها.
اعتذر لي مدير المحل اعتذارًا شديدا وهو يحاورها:
– ألست حاصلة على ديبلوم اللغات وتتحدثينها جيدا كما اختبرتك؟!
في صمت لم يتجاوز الثانية أجابت العاملة الإسبانية عن سر تعاملها برأس مرفوع لم تخفضه أبدا رغم عتاب المدير لها، وبلغة جدا هادئة أجابت الجواب الذي أحرجني، قالت:
– نعم سيدي أنا أتقن الفرنسية والإنجليزية، لكن علّمني أبي أن من يتكلم لغة غير الإسبانية في بلده فهو خائن للتراث اللغوي، للهوية الثقافية، للمعجم اللاتيني الإسباني…
ساعتها تجمدت أصابع يدي، ليس بفعل انسياب ثلجه على كفي، وإنما من وقع ما سمعتُ. فقلت:
– كفاك سيدتي اعتذارًا عن فعلتك التي فعلتيها معي ومع بنات عمومتي من العرب.. فإن في الجواب معنى كافيا قد أتفق معه وقد لا أتفق… لكن لسان حالك نطق بعلم من المعاني..
ساعتها فقط رجعت لسيدتي المغربية صاحبة الدمية، وقلت لها:
– إن أردت معرفة عزّ أمة، فاسأليهم عن لغتهم. إن الحال بالحال يُعرفُ….
فمن ذلّت لغته ذل وراءها
إن العزيز للغته لا يفقد
فما بالنا ننسى عربية
نزل بها خير كلام مجودُ
أم أنه لهو لاهٍ فى ظل هيمنةٍ
وعولمةٍ وغرب مسيّدُ
فإنجليزية تسعى فى الآفاق
وكذا فرنسية والحق مقيّدُ
فلا والله لن تموت لغتنا حتى
شهادة آخر جند مجنّدُ
بلى والله إن النصر حليفنا
ذلك وعد من رب مقلّدُ
فالعربية محفوظة ما حفظ القرآن
إن القرآن للحفظ مسدّدُ
فلا غرب ولا شرق قادر على
محوها، إن الكفر لذلك يحقدُ
فياقوم هبّوا لنصرة لغتكم
إن الذليل فى ذلك يرقدُ
لغة… ثلاثية الأبعاد
أيتها الفاتنة التركية… أنت لم تحْك لي تفاصيل حوارات أجدادك، ومناظراتهم مع من نسخوا حروف العربية واستبدلوها بحروف لاتينية.. لكن دعيني أحكي لك قصّتي مع من يريدون فصلها من أبناء عمومتي الأمازيغ في مغربي الحبيب.. دعيني أحكي لك أيتها العاشقة للغة القرآن.. يا من طلبت مني كتابة اسمك بحروف عربية، لتضعيها تميمة فوق صدرك.. فقد حركتْ تلاوتك الممزوجة بلكنة أعجمية مواجعي، وأيقضت وهج حرقتي وآلام أحزاني…
سألت ذات يوم ابن عمومتي الأمازيغي، عن سبب التنكر للسان العربي المبين. استحلفته أن يجيبني بوضوح عن سر استخدامه للفرنسية، وهجر العربية فوق المنابر العلمية. فمِن حقّي أن أعرف، إن كان كل الأمازيغ يكرهون العربية! فأنا أمازيغية، وأحب العربية!.
سكت قليلا يستجمع أفكاره، ثم أجابني:
– سيدتي، أنت ابنة القبائل الأمازيغية، أنت الأصل.. بينما اللغة العربية لغة المستعمر، اقتحمت ثقافتنا الأمازيغية بدعوى الفتوحات الإسلامية، فاستعمرتْنا بلغة عربية آتية من المشرق!
سبحان الله.. أجبته:
– أولم يكن طارق بن زياد ابن القبائل الأمازيغية؟! ألم يفتح هذا البطل الأمازيغي الأندلس تحت راية الإسلام “الله أكبر، الله أكبر”!. ألم يدوي صوت جيوشه وجيوش القائد الريفي عبد الكريم الخطابي بحماس عربي “الله أكبر، الله أكبر؟”.. بالله عليك أجبني.. إن كان هذان القائدان قد باعا قضيّتهما الأمازيغية؟ متعطشة أنا لفهم حرقة أبناء عمومتي الأمازيغ.. فأنا أمازيغية ومن حقي أن أعلم! أجبني بالله عليك سيدي، فأنا عاشقة للأمازيغية، والدارجة والعربية.. ماذا عن اللغة الفرنسية؟ اللغة التي قدمتها بولاء تام على العربية، والعامية (الدارجة) والأمازيغية.. تعشق الحديث بها في البيت والمقهى والعمل، وتفخر بمعجمها فوق المنابر رافضا نطق فقرة بحروف عربية؟! ماذا عن هذه اللغة التي ثملتَ في هواها، وصرتَ تفكّر بها، وتكتب أشعار الفناء في حبها قصائد لأبناءك؟! هل كانت هي لغة الأمازيع الأوائل؟ ألم تكن لغة مَن استعمرنا واستباح دماء أجدادنا؟ رمل جداتنا، ويتم آباءنا! استغل ثرواتنا، واستباح عرض أراضينا وخيراتنا.. سخر أجساد أجدادنا مدرعات في مقدمة حروبه مع أعداءه.. ألم يشهد التاريخ كم من المساجد حوّلت بسياسة أهلها إلى كنائس، وكم من أستاذ حكم عليه بالسجن لمدة سنتين بتهمة تعليم لغة القرآن؟! ما لكم أبناء عمومتي، كيف تحكمون؟ كيف تتنكرون للغة القرآن؟ تبخسونها حقها في الحفاظ على استقرار الإسلام وعقيدته في أرض المغرب.. كيف تنسون فضلها على توحيد صفوف الجهاد، ضد المستعمر تحت راية “الله أكبر، الله أكبر؟”..
ما لكم، كيف تفكرون؟ قد أصدقك ابن عمومتي في ادعائك كراهة للغة العربية، إن وافقك آبائي وأجدادي من أحرار الأمازيغ، وأقرّوا رفع الآذان بمنارات صوامع مداشرهم وقبائلهم باللغة الأمازيغية! إن وافقوك الرأي وقرأوا القرآن بالأمازيغية!. قد أوافقك في ادعائك إن وفرت لي قائمة من مكتبات تاريخية تسجل لي فيها، قوائم كتب أجدادي ومخطوطاتهم العلمية والمعرفية باللغة الأمازيغية.. فلن تكون اليوم أكثر انتماءً لأصلك الأمازيغي من أجدادي وأسلافي الأمازيغ!. أجدادي من العلماء الأمازيغ كانوا فقهاء في اللغة العربية، أفاضوا وأجادوا، بل كانوا أساتذة العرب والعجم.. الإمام محمد بن داود الصنهاجي نزل من صنهاجة (إنزكان) إحدى قبائل سوس بمقدمته الآجرومية… والإمام الجزولي ابن جزولة، نزل برائعته دلائل الخيرات التي يتلوها العرب والعجم.. أتعلم شيئا عن أرجوزة المبنيات للعالم محمد أباراغ؟ أقرأت شرح ألفية ابن مالك وشرح الآجرومية لسعيد الكرامي السملالي؟ أم عرجت على إعراب أوائل الأحزاب لداوود بن محمد السملالي؟ أتريد إقناعي بأن هؤلاء الأفذاذ أُجبروا على التأليف باللغة العربية؟! أم كانوا خائنين للهوية الأمازيغية؟! هؤلاء -سيدي- كلّهم تخرجوا من جامعة القرويين أبطالا في مسيرة العلم والتأليف.. لم يتنكروا لهويتهم الأمازيغية، لكن اختاروا العربية لغة لمؤلفاتهم وكنزا لمعارفهم! فهل خانوا بذلك القضية الأمازيغية؟!
قل لي بالله عليك، هل تشرف بجدنا المختار السوسي مفخرة لسوس، أم أنت عليه من الناقمين؟! لقد كان العمل العظيم الذي قدّمه جدك وجدي المختار السوسي في حوالي ثمانين جزء ردا حاسما علميا على الظهير البربري، الصادر في نسخته النهائية سنة 1930 والرامي إلى الفصل بين العرب والأمازيغ.. لقد كان صوته مدويا كزئير الأسد في أرجاء المغرب، مزلزلا مشاريع “فرق تسد” التي جاء بها أهل لغتك الأعجمية، منبّها من أرادوا إحياء لغتهم الميتة على حساب المغاربة، أن المغاربة على اختلاف ألسنتهم لن يتفرقوا.. فقد انصهروا بدمائهم في بوتقة واحدة هي الإسلام واللغة العربية.. قل لي بالله عليك، هل كان مفخرة سوس العالمة خائنا لقضيته الأمازيغية؟!.
ما لكم أبناء عمومتي، كيف تتقلبون؟
رب المشرقين ورب المغربين
كنتُ الصيف الماضي في جزيرة “بالي” رفقة المرحومة مخصوصة ويجاياتي بنت مدثر زوجة السفير الإندونيسي بالمغرب. فاستغربت أنها لا تجيد التواصل مع أهل المنطقة الذين لا ينطقون “بالباهاصا الإندونيسية”، اللغة الرسمية للبلد الملايو.. كنت أبتسم وأنا أردد:
– أنا وأنت يا مخصوصة الآن في الهوى سوى..
ضحكت رحمة الله عليها قليلا، ثم عقبت على كلامي قائلة:
– عزيزتي الغالية مريم، نحن في إندونيسيا 240 مليون نسمة.. لدينا أكثر من 700 لغة حية في إندونيسيا. أكثرها تعود لعائلة اللغات الأسترونيزية، وقليل من اللغات البابوانية. أكثر الإندونيسيين يتكلمون لغات محلّية مثل الجاوية.. كلّنا يحتفظ بلهجته وهويته الثقافية، لكن هل يمكن أن تطالب كل لهجة بدعوى العصبية تقديم لغتها على اللغة الرسمية والتي هي فرع من اللغة الملايوية؟ كيف يمكن أن نسير البلد ونوحّد مسارات مستقبلها تجاريًّا وإداريًّا وتعليميا وإعلاميا بـ 700 لغة؟!
تأملت في كلامها، وأنا أتذوق نسيم عطر قهوة جزيرة بالي من مصادرها الغابوية، وأجبتها:
– الحق معك سيدتي الأعجمية، يا من تحرقت شوقا لتعلم اللغة العربية.. يا من حفظت عن ظهر قلب قصائد البردة والهمزية ودلائل الخيرات.. يا من أخذت روحك في أرض الرباط، وأنت تعلمين بنات المغرب تفسير القرآن باللغة العربية..
قالت لي ذات مساء ساحر في جبال جاوى الشرقية:
– سيحوا يا مريم في الأرض، فربّنا ربُّ المشرقين والمغربين.. انشروا قيم الكلمة الطيبة بلغات فرنسية إنجليزية إسبانية صينية عربية أمازيغية تركية.. كونوا بناة لجسور التواصل الحضاري، كما كان جدّكم الرحالة ابن بطّوطة المغربي، رائد حوار الحضارات والثقافات والأديان في العالم..
يا عزيزتي مريم المغربية، أدخل ابن بطوطة الاسلام بعلومه العربية لمناطق سوماطرا الهندوسية، فأعلنوا إسلامهم وأحبوا لغته وقيمه الإنسانية السمحة، واعتنقوه بالحب والمودة والإحسان.. كذلك أحبّ شعب إندونيسيا بلد لـ 240 مليون مسلم الأمازيغ في شخص الإمام الجزولي، ابن قبائل جزولة، والذي رأى النور في مدشر “تانكرت” بسوس الأقصى، الجزولي الذي جمع بين شرف النسب والدين، العلم والعمل، فألف رسالة التوحيد، وأجوبة في الدين والدنيا..
أتدرين يا مريم لماذا أحبه أهل إندونيسا؟! فالإندونيسين يعرفون جدّك أكثر مما يعرفون المغرب.. أحبوه لأنه ارتقى باللغة العربية، وجعل من قصائدها دلائل الخيرات، نشيدا تسمو به أرواحهم نحو مراتب المشاعر التعبّدية العلوية السامية.. ترتقي قلوبهم بمعانيها التي يحفظونها ويردّدونها بالعربية، ارتقاء يشعرهم بأن القيود التي تربطهم بالدنيا الفانية تنحل بوقار من سجن وثنية أجدادهم الطبقية، لتصل نسائم أرواحهم إلى الشوق الأزلي للسماء، فتفتح بتلاوتها أشرعة أرواحهم لربيع جديد..
سياحة العالم جدك الإمام الجزولي الروحية خلّدت في إندونيسا ألوانا من مواسم أعياد عربيةٍ احتفى بقصائدها أهل إندونيسا في مساجدهم، بعد صلوات مغربهم، كما يحتفي بها أبناء عمومتك الأمازيغ بعد مغرب عصرهم في كل مدشر وقرية..
أما جدّك الإمام النحوي محمد بن داود الصنهاجي ابن آجروم، فقد أرسى بمقدمته الأجرومية أسس مبادئ تعلم اللغة العربية لأكثر من 200 مليون مسلم في إندونيسيا، بفضلها تعلموا العربية وتلاوة القرآن.. اتركوا يا مريم ابنة الأمازيغ بصمة الفعل الحضاري كما تركها أجدادكم في بقاع الدنيا، شرفًا وعزًّا ورقيًّا…دعوكم من الذين يعملون في خفاء الخفاء من أجل شحنكم بعصبية الكراهية والسعي لشتات شملكم في أرض المغرب الذي ثملت في عشقها، أرض التعايش والسلم والأمان..
اقرأوا يا مريم تاريخ أجدادكم، أسياد مبادئ الحوار الحضاري الفعال.. فقد مر التاريخ وجاء يوم استرجعتم فيه حصاد البذور التي غرسها أجدادكم ابن بطوطة والإمام الصنهاجي والجزولي في إندونيسيا… نعم يا مريم جاء اليوم الذي ذقتم فيه ثمار حصاد خير أجدادكم في مؤتمر باندونج الآفروآسيوي 18-24 أبريل 1955م بإندونيسيا.. أو لم تقرأي عن محنة تاريخ قادة تحرير بلدك؟ ألم يحدثك آباؤك أبطال التحرير عن مأساة خيبة الأمل التي عاشوها، حين رفض المندوب الفرنسي إدخالهم قاعة المؤتمر، ومنعهم من تقديم وثيقة الاستقلال؟
أجبتها:
– نعم سيدتي، هكذا حكى لي والدي عمن حضر ممثلا لهم في الحركة الوطنية بمؤتمر باندونج، قال لي: “إن المندوب الفرنسي طلب من وفد جيش التحرير الانسحاب، ورفض دخولهم للقاعة مع ممثلي 29 دولة.. فما كان من الزعيم المرحوم أحمد سوكارنو رئيس إندونيسا، إلا أن أدخل وفد جيش التحرير المغربي غصبا عن المندوب الفرنسي، وأعطاهم مقعده، بل ورفع العلم المغربي فوق الكرسي الذي كان مخصّصا له، متيحا بموقفه البطولي الفرصة لقادة التحرير تقديم عريضة مطالبتهم بالاستقلال.. وبعد المؤتمر بسنة حصل المغرب على استقلاله، حصل على استقلاله بمواقف من أحبوا علماءكم من أجدادك الأمازيغ، وعاشوا قضية التحرير معكم على أمواج إذاعاتهم الإندونيسة لحظة بلحظة..
– مريم عزيزتي أنت أمازيغية الأصل، مسلمة النسب، كما أنا إندونيسية الأصل مسلمة النسب.. تعلّمي لغتك الأمازيغية، افخري بها واعتزّي بآدابها وشعرها الزاخر تراثا غنيا زاهرا في وطنك. لكن إياك أن تعلني الحرب على العربية، وتشجعي برامج وأدها باسم الأمازيغية!
فأجبتها:
– نعم سيدتي مخصوصة.. يا من خصك الله بالعلم والمحبة والسلام.. يا من سلمت روحك بأمان الأمان في أرض مغرب الأحرار، نامي في قبرك بأرض مديونة مرتاحة البال، فأنا لن أعادي الإسلام، من مدخل اللغة العربية.. لن أمحو مجد أجدادي الأمازيغ في وحدة ترابي المغربي.. أعِدك أيتها المرحومة التي جمعني بك رب المشرقين والمغربين، أنني لن أعادي الإسلام باسم الحفاظ على هويتي الأمازيغية، ولن أرفع شعارات التخويف من ضياع هويتي الأمازيغية باسم معادات العربية والإسلام.. لن أخون مبادئ أجدادي.. أعدك أنني سأمضي في الكتابة بالعربية، وأرفع راية المعرفة باسمي الأمازيغي، كما رفعها أجدادي ذات يوم في إندونيسا. فأنا أمازيغية الأب عربية الأم، توحدت مشاعرهما ليلة عرسهما، واتّقد نبض روح الجهاد الأندلسي من ابنة المجاهد الدريج الأنصاري مع نبض روح الجهاد لأحمد المانوزي ابن أكبر قبائل الجهاد بسوس أمانوز آيت أحمد.. نعم توحدت همم العريس الأمازيغي مع العروسة العربية، لتتشاركا معا في غاية افتداء الوطن.. وزينا معا بعض وعلى حين غفلة من أولياء أمرهما سيارة عرسهما بأجود أنواع الأسلحة… ومن تطوان إلى العرائش انطلق موكب العرسان يقوده الحماس الأمازيغي، وترعاه بالنضال الشابة العربية… سيارة عرس أمي وأبي كانت تمشي بهدي خطى الرحمن، وممكن في أي لحظة امتحان تتحول رمادا من قبل الفرنسيين، وخونتهم الذين حموهم وأيّدوا بطشهم ولغتهم وأموالهم بدراهم معدودة فوق جثث الشرفاء، وما يزالون!..
قولي لي بالله عليك عزيزتي الإندونيسية، كيف تريدني أن أختار لغة من كان سينحر أمي وأبي في مشانق ساحة الشرفاء وأهجر اللغة العربية؟ المغرب مغرب واحد، دم واحد، قلب واحد.. لن تقسمه النعرات القبلية ولا تمويلات مشاريع الفرنكفونية من الصناديق السوداء الأعجمية! أنا أمازيغية عربية، أنتمي لأمّة الإسلام التي تنهض بوحدة العقيدة واللغة والأرض والغاية والمصالح لبناء حضارتنا الإسلامية.. أتحدث بالأمازيغية مع أبناء عمومتي، وأحاضر بشرف اللغة العربية فوق المنابر في المحافل العلمية، وأعبر جسر الحضارات بلغة فرنسية إسبانية إنجليزية، لكن أبدا لن أرضى تقديم لغة أعجمية فوق منابر أرض أجدادي، ولن أرضى بالتنازل عن عزة شرف أمازيغيتي…
Leave a Reply