مفهوم «الخدمة» والمصلحة العامة عند كولن من الإستراتيجية إلى خطة العمل
“«الخدمة» عند كولن معناها: أن ينذُر الشخصُ حياته للإسلام، وأن يقدم كل ما في وسعه لنفع الآخرين، ليعود ذلك عليه بالنفع في الآخرة؛ وكولن نفسه لا يهدأ أبدًا، ويسأل نفسه دائمًا: ماذا يمكن أن أقدم أكثر في سبيل الله؟ ومحركه لذلك العمل الشاق هو ذكر الموت والخوف من يوم الحساب حتى غدا ذلك سمة أساسية في خطبه”[1].
النشطاء الإسلاميون بشكل عام فريقان: الأصوليون ذوو الوجه الأصولي الواضح، والثاني إسلاميون ذوو آراء راديكالية لتغيير نظم الحكم، ومن الصعب على غير المتخصصين التمييز بينهما، فالتمييز يفتقر إلى فهم أعمق لمبادئ الإسلام الروحية، وقد ظل كثير من المتخصصين أمدًا مديدًا يرون في تاريخ حركة الخدمة سمات إحياء التراث الإسلامي والتصوف والنشاط الاجتماعي.
يرى بعض المراقبين أنّ كولن من علماء الإسلام التقليديين، ويراه آخرون صوفيًّا عصريًّا، ويميل غيرهم إلى أنه لا هذا ولا ذاك بل هو داعية وواعظ إسلامي عصري[2]؛ وليس مرد هذه الآراء المتباينة حول هوية كولن ومادة خطابه إلى سِمات أو أساليب غريبة في كتابته، بل مردها إلى الأفكار المتناقضة حول العقيدة الإسلامية والسياسة والتصوف؛ وفي هذا الإطار يقول زكي ساري توبراك: “تقف الصوفية من الشريعة الإسلامية موقف عيسى من الشريعة اليهوديّة، ثم انحرف بعض المتصوفة كثيرًا، فاستخفوا بمبادئ إسلامية أساسية بل أهملوها بالكلية؛ فظهرت حركات سرية متطرفة، واحتدم الجدل حتى يومنا بين السلفية والصوفيّة”[3].
وظلّ عدد من علماء المسلمين البارزين دهرًا في حالة ارتباك، ولا يستطيعون إحداث توازن بين التأويلات التقليدية لمبادئ الإسلام والالتزام الصارم بها وبين التأويلات المتحررة وتطبيق أسلوب الحياة الإسلامي، وبعبارة أخرى: حاروا في الجمع بين ثبات الفرد على الدين والتساهل مع الآخرين في الالتزام بالدين في الأماكن العامة واتخاذ موقف من القضايا العامة؛ ولكولن موقف فريد في هذه القضايا، فرغم أن كتاباته تبدو تقليدية في تفسيرها لمبادئ الإسلام الأساسية، لكنّ منهجه العملي واقعي مرِن، أساسه محبة الآخرين والتودد إليهم، ويلخص ساري توبراك بدقة موقف كولن الفريد من التصوف فيقول:
“لا يمكن حصر المنهج الصوفي لدى كولن بطريقة صوفية محددة، فكولن ليس صوفيًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن في ضوء تعريف «هوجويري» السابق يمكن عدّه صوفيًّا عمليًّا لا نظريًّا، فقد يسمَّى صوفيًّا لكنه صوفيّ برؤيته الخاصة”[4].
كيف تكون مسلمًا متزنًا؟
هذا هو أكثر إنجازات كولن تميزًا، فلم يحدث أن تخلى كولن عن وظيفته الدعوية الخاصة في أنشطته كلها، ومد يد العون إلى نشطاء كثيرين ممن نذروا أنفسهم لأعمال الخير المجتمعي والتنوير الثقافي؛ أما بعض الجماعات الدينية الأخرى فالظاهر أنها جماعات شعائر، تتجاهل مسؤولياتها تجاه المجتمع عمومًا وتجاه شركاء الوطن خصوصًا، وهذا يبين أن من أخطر مشكلات التفسير التقليدي للإسلام أنه يُعنَى بجوانب صوريّة للشعائر الإسلامية على حساب القيم الداخلية والأهداف التي من أجلها تقام هذه الشعائر؛ ويزعم منتقدو الإسلام أن المسلم الملتزم بدينه يفقد اهتمامه كليًّا ببناء مجتمع إنساني رحيم، ويرى آخرون نقيض ذلك، أي الفعالية الإسلامية عندهم تنتج راديكاليين في السياسية، وكلا الرأيين لا يصح إلا في بعض الصوفية اسمًا ممن لا يبالون بمعاناة الآخرين، وفي النشطاء السياسيين في عدة مجتمعات إسلامية تراهم مشغولين بقضايا الدين ولا يبالون باحتياجات غيرهم الاجتماعية والاقتصادية.
وهنا يوضح كولن مبادئ الإسلام بطريقة تبصر كل فرد بدوره في بناء مجتمع يسود فيه الحب ويتعايش فيه البشر لتحقيق غايات أكبر بالتضحية والإيثار، وهذه ليست مهمة سهلة في مجتمع يهتم كل فرد فيه بمكاسبه المادية فقط؛ فراح كولن يبين بلا كلل ولا ملل أن على المسلم أن يتبع أسلوبًا إسلاميًّا في حياته ولو في الرخاء المادي فقط، وأن المرء بحاجة إلى إشعال نور الإيمان في قلبه وروحه ليوازن بين طموحاته المادية وأهدافه الروحية؛ ورأى ياووز في دراسته لفكر كولن ما يلي:
“مما يوعَظ به المسلمون دائمًا أن البعد عن الذنوب وحده لا يكفي، وإنما على المسلم مخالطة المجتمع، والعمل على بناء عالم أكثر إنسانية، فالنجاة لا تعني “الخلاص” من الذنوب فحسب، بل أن تكون مشاركًا بشكل فعال في تطوير العالم للأفضل، ويرى كولن أن الوعي الأخلاقي بالثقافات الأخرى لا يمكن رقيه إلا المشاركة الفعلية، فلن يستطيع المرء بلوغ الكمالات الأخلاقية إلا بالسلوك الأخلاقي الواعي”[5].
وترك المشاركة في المحرمات واجب على كل مسلم مكلف، ولكن هب أن النظام المجتمعي والرسمي لدولة ما يقوم على الرأسمالية الواسعة أو الشيوعية المتطرفة أو الاستهلاكية الموحشة، فمن الصعب أن يتجنب المرء المشاركة في الأنشطة المحرمة دائمًا، فالغالبية العظمى من المسلمين إما هجروا ما يسمى بالمبادئ والقيم الإسلامية المتزمتة، وإمّا تبنوا موقفًا تشاؤميًّا منها لشغفهم بعملية البناء القومي والأنشطة المبتكرة للسعي وراء الاكتشافات العلمية والاستخدام المبتكر للآفاق التكنولوجية الواسعة.
بلور كولن أفكارًا ومفاهيم جديدة حول مبادئ الإسلام تدعو الناس عامّة والمسلمين خاصّة إلى استكشاف الفروق الدقيقة بين المادّية المتطرفة والروحانية المعطلة؛ فالحياة الدنيا بتعريف الإسلام مزرعة للمسلم، يجمع فيها المسلم رأسماله الجديد ليستثمره في الدار الآخرة، وطريق النجاة الروحي ذاتيّ بطبعه، أمّا زراعة الأرض وإنفاق المال للآخرة فهو جهد جماعيّ يعزز الإيمان في كل مرحلة من مراحله.
ظلت الجماهير التركية زمنًا تعتقد أن كولن من أتباع بديع الزمان سعيد النُّورْسِي (1877–1960م). نعم، لمؤلفات النورسي[6] أثر كبير طبعًا في سير كولن على طريق الدعوة السلمية نحو العالم، غير أن كولن بوصفه واعظًا فاعلًا مليئًا بالنشاط والقوة، وناشطًا اجتماعيًّا، ونصيرًا للمبادئ الإسلامية، حمل رسالة الإسلام إلى مدى أبعد بكثير من الإحداثيات التي وضعها النُّورْسِي، ومع هذا، لم يقلل ألبتة من تأثير النُّورْسِي على العقلية التركية المتدينة، بل كان ينظر بكلّ اعتزاز إلى نموذج النُّورْسِي وجهوده الرامية لجذب مزيد من الأتراك نحو كنف التعليم المبني على القيم الأخلاقية الحميدة أيًّا كانت الهوية القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية.
“أدى الاضطهاد السياسي الرسمي إلى ولادة نوع جديد من أنواع الفاعلية الإسلامية من رحم التقليد الفكري العثماني التركي؛ صاغ سعيد النُّورْسِي منهجًا جديدًا للإحياء الديني بحلقات قراءة جماعية أسهمت في رفع الوعي الديني؛ فلك أن تعرِّف كتابات النُّورْسِي بأنها النص المرجعيّ لفتح الله كولن، فهو يتبع منهج النُّورْسِي نفسه في رفع الوعي الديني، وكذا أسلوب حلقات القراءة لبناء شبكات دينية عابرة للقوميات”[7].
كلما درس منتقدو الإسلام الوعي الإسلامي المؤدِّي إلى الفعالية والخطاب الفكريّ، تبادرت إلى ذهنهم مسألة «الإسلام السياسي» القائم على الطائفية وسياسة العداء للوصول إلى الحكم والسيطرة على سوق المال؛ لكن كولن لا يحصر الإسلام في «مشروع سياسي» يجب تطبيقه.
وإذا كانت حركة النور -التي استلهمت مبادئها من كتابات بديع الزمان سعيد النُّورْسِي- حركة شعائرية عمومًا تركية النشأة، فإن فكر كولن يرنو إلى الخارج بمنظارَي الرؤية الكونية والدولية؛ والاختلاف بين النُّورْسِي وكولن ليس أساسيًّا، فكولن تيسر له قدر أكبر من الوسائل، فأفاد منها.
ولم يكن المجتمع التركي خاصة في العقود الماضية ليتقبل داعية إسلاميًّا بمستوى كولن، لكن كولن استغل كل ما يسره الله من سُبُل ليصل إلى الناس جميعًا داخل تركيا وخارجها، فاعتزاز المسلم بوطنه لا يحول بينه وبين أن يكون مسلمًا حقيقيًّا في رأي كولن، ولا يعيقه عن المشاركة في أنشطة عابرة للقوميات تهدف إلى الاستفادة من جميع البشر؛ هذه الطبيعة الشمولية المميزة لكولن في الإرشاد والدعوة أكسبته شهرة سريعة تقريبًا بين الجمهور التركي وغيره، فدعوته لإقامة نظام تعليمي أساسه القيم الأخلاقية كانت مفتوحة للجميع، وهدفها إثراء الروح الإنسانية لإفادة الآخرين.
وأدت التفسيرات الخاطئة لما ورد في القضاء والقدر من آيات وأحاديث إلى أن يميل المسلمون الملتزمون عمومًا إلى الإيمان بمبدأ القدرية، ثم إلى فتور العزيمة والتقاعس عن بذل الجهود الكافية لإحداث تغييرات إيجابية في مجتمعاتهم؛ وأصبح البؤس والشقاء يهددان حياة الجماهير وكرامتهم من الأعراق والقوميات والأجناس كافة، وعُدّ هذا قدرًا محتومًا على هذه الجماهير البائسة، ورغم أن هذا التشاؤم المفرط ليس له مكان في الوعي الإسلامي، فإنه قد يرجع إلى استغلال الاحتلال القاهر والصراعات الداخلية بين البلدان الإسلامية والأقليات العرقية، حتى إن كثيرًا من المسلمين المتدينين خنعوا لمثل هذا الوضع الرهيب المقيت الذي تقبَّلَتْه الجماهير.
يرى كولن الكونَ كتابًا مفتوحًا، ولكلِّ فرد أن يحدد ماهيته وفق إرادته وطاقته وظروفه، لكن لا أحدَ يقدِر أن يضيف بعدًا جديدًا لهذا دون مساعدة نشطة كريمة من الآخرين؛ فالجهود الجماعية المخلصة هي وحدها القادرة على أن تجعل من الإسهامات الفردية في أي مجال من مجالات العلوم والتربية إسهامات ثرية نافعة للآخرين ولكل الكيانات المحيطة بها.
يقول ياووز: “يمثل كولن الزعيمَ الملهِم لحركة تربوية عابرة للقوميات، بينما يمثل النُّورْسِي عملاقًا في صياغة الخطاب الفكري؛ وكان اهتمام النُّورْسِي منصبًا على التحول الفردي، أما كولن فاهتمّ بالتحول الفردي والمجتمعي مستفيدًا من الظروف السياسية والاقتصاد الحر”[8].
تميل قوى المؤسسات الإسلامية التقليدية إلى العمل على بقاء الوضع القائم كما هو، ويعد مثل هذا الموقف المحافظ خطرًا كبيرًا على شرائح مُعدمة وأقل حظًّا في أي مجتمع كان؛ صحيح أنه لا بدّ أن يكون المرء ثوريًّا ليعارض مثل هذه الأفكار الدينية الخاطئة الشائنة، غير أن كولن حافظ على وجوده في حظيرة الدوائر الدينية التقليدية، ونشر أفكاره عن التغيير الاجتماعي بالتفوق التربوي لبناء صرحٍ فكري جديد في الوعي الإسلامي.
إستراتيجية كولن: إدراك سرّ القوة بلا عنف
يرى كولن أنه إذا أراد الإنسان رضا الله أو أراد أن يصبح إنسانًا كاملًا، فعليه أن يضحي بالكثير من وقته وطاقته وموارده في سيبل الآخرين؛ وإلا فليس له أن يظن أنه مسلم حقيقي أو إنسان حقيقي بذل ما في وسعه لخدمة الإسلام والإنسانية، يميل نشطاء حقوق الإنسان والدعوة الإسلامية إلى دعوة غيرهم للأخلاق الحميدة واحترام القيم الإنسانية، إلا أنهم عمليًّا يقولون ما لا يفعلون، أو هم كمستهلك شره يستغل العمالة المحلية الرخيصة، فهم يستغلون إخوانهم المتدينين والوطنيين.
لم يغفل كولن عما يُبتلى به المتدينون عامة والمسلمون خاصة من إعجاب بالنفس، فجاهد نفسه ليكون أسوة في الإيثار، وهذا من أهم مبادئ الحركة الإسلامية في التربية وخدمة القضايا الإنسانية؛ فمنهج كولن العقلاني في تفعيل القيم الدينية أو الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الحديثة لصالح البشر يتناغم تمامًا مع السياق الاجتماعي السياسي ومع القيم الإنسانية الأُمّ.
ويشرح كورو هذه النقطة قائلًا: “يرى كولن أن الأخلاق والمبادئ أمران أساسيان في تثقيف البشر بشكل حقيقيّ، فللحفاظ على الوفاق والسلام والسعادة في حياة البشر ينبغي تحقيق التثقيف العقلي والروحي للإنسان… فالعقل لا يوافق الوحي فحسب بل يعزّزه”[9].
هذا الفكر رسالة ثورية لعدة مؤسسات دينية تقليدية تعادي مثل هذه النظرة الشمولية، فالإنسان مخلوق عاقل لا يستطيع أن يقبل عدة ظواهر طبيعية بدون تفسيرات معقولة تؤطر الظواهر بوصفها حقائق عليا جاءت للبشر في فترة نزول الوحي؛ ولما انقطع الوحي زاد الاعتماد على العقل كثيرًا، لكن كثيرًا من علماء العقيدة والعلوم الاجتماعية لا يعيرون اهتمامًا كافيًا للعلاقة التلازمية بين النصوص المقدسة وعملية تثقيف المجتمعات الإنسانية؛ فأدى ذلك إلى نشوب نزاعات بين القوى الدينية والعلمانيين قد تمثل خطرًا على قضايا حقوق الإنسان والعدالة الشاملة.
ظهرت عدة قوى دينية في العالم الإسلامي بوصفها برنامجًا سياسيًّا معاديًا للاحتلال والإمبريالية، ولكن لم ينجح أي منها في اتخاذ دور إيجابي فترة طويلة لأن أنشطتها كانت تُبنى أصلًا على إستراتيجيات رد الفعل؛ لكن يشير «أَنَس أَرْكَنَه» في تحليله إلى أن حركة الخدمة مختلفة جذريًّا؛ فهي لم تنشأ عن رد فعل:
“إن «الاستشراق» كان يحمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته، وهكذا وُلدت في العالم الإسلامي الأيدولوجيةُ الإسلامية التقليدية مقابل هذا الاستعمار والاستغلال.
…إن هذه الحركة ليست حركة رد فعل، وليس لها علاقة بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردودِ فعلها”[10].
يُذكِّر كولن بكل ما ارتكبه المحتلّ من شرّ بحق المسلمين، ويطرح عدة إستراتيجيات جديدة لمحاربة قوى الاحتلال الحديثة؛ فهو يرى الجهل والفقر والفُرقة أرضًا خصبة للاحتلال، فيتعاطف كثيرًا مع البسطاء ويشعر بمعاناتهم الاقتصادية والاجتماعية؛ وبهذا يخالف كثيرًا من الدعاة المعاصرين البارزين؛ فبعضهم كغيرهم من رجال الدِّيانات الأخرى همُّهم الحفاظ على العقيدة الصحيحة، ويغفلون تصحيح كثير من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فأدى هذا إلى عزلة عدة جاليات مسلمة رغم أن الأصل في الدين الإسلامي الشمول.
لما أخذ كولن بمبدأ تصحيح العقيدة في ضوء العقل وصل إلى كلّ المسلمين من قوميات وأعراق مختلفة عانت أزمة حقيقية في الهويّة؛ إذ العلمانية المتطرفة والتعصب القوميّ أوقعا تركيا فريسة للصراع الأيديولوجي، فعانت من أزمة هويّة معمّقة، وأخفقت المؤسسات الدينية التقليدية والعلمانيون في حلّ هذه المشكلة الخطيرة؛ فبرز كولن ناشطًا اجتماعيًّا ومربِّيًا لأجيال شابة بطرق مختلفة أثمرت تفاعلًا مع المجتمعات الأخرى، ونجح في التوفيق بين قضايا العصر والاكتشافات العلمية وبين الأفكار الدينية، والعكس صحيح؛ فتحدث عن «إسلامية الأناضول» أو «إسلامية الشعب التركي»، وليس إسلامًا تركيًّا إثنيًّا، فذلك لا يناسب حركته التربوية والروحية ألبتة[11]، وميَّزَ فعليًّا بوضوح بين الأبعاد الإيجابية والسلبيّة للهويّة القومية، فرفض القومية بمعنى كل تعصُّب عرقيّ الظلمُ غذاؤه، ودوامه رهن بعداوة الشعوب الأخرى، ونوَّه إلى بعد القومية الإيجابي المتمثل في التعاون والتكافل وغيرهما؛ وفي هذا ضمان لقوة المنفعة، ولتقوية رابطة الأخوة الإسلامية.
وحينما يتكلَّم المسلمون عن الإسلام في العصر الحديث يظن كثيرون أن التركيز سيكون على الأفكار الدينية المسيسة أو على قيم الحضارة الإسلامية التي ينظر إليها على أنها أيديولوجيا عفا عليها الزمن، ولا تناسب أسلوب الحياة العصرية، وإذا كان الحديث عن الحداثة فلقد أظهروها نظامًا تنصهر فيه أغلب قضايا التقدم الصناعي والتمدين والمرأة بصورة تتجلى فيها قدرة الجميع على التعايش والارتقاء الذاتي؛ فيزعمون أن الدين فيه تناقضات كثيرة وتعارض، وأن الحداثة نظام عملي مناسب للجميع عدا بعض الجماعات الدينية الأصولية؛ لكن كولن أثبت بمسؤوليته وحسّه المجتَمَعِيَّيْن بطلان هذا الافتراض مطلقًا، فهاجمه دعاة الحداثة والمتعصبون دينيًّا بشراسة، ويلخص أَرْكَنَه أسلوب كولن الفريد وطريقته البديلة بما يلي:
“كان طعامه وشرابه وملبسه منسجمًا مع الموقف الاجتماعي والنفسي للجماهير التي يخاطبها، عاش وهو يهتم جدًّا بكل حركة تبدر منه، وبكل كلمة تخرج من فمه، ويتصرف بشعورِ شخص موضوع تحت المراقبة.
…ولكن سرعان ما جاءته انتقادات من بعض الأوساط المحافِظة، لأن هذه الأوساط كانت تهتم بالمشاريع ذات الأمد القصير، بينما كانت مشاريع التربية والتعليم ذات أمد بعيد.
…وما فعالياته في التعليم والتربية على المستوى الدولي وتأسيسُه المدارسَ العديدة في مختلف الدول إلا لكي تكون هذه المدارس جسورًا بين الأديان والحضارات المختلفة”[12].
فمشروع حركة الخدمة الفكري والروحي المتمثل في حراك اجتماعيّ وتربويّ ليست له حدود قومية أو عرقية، فهو يعالج عمليًّا ما نتج عن الخواء الديني الذي غيَّب التخطيط العملي للحياة، وعن الحداثة التي تتمثل في الأنانية المفرطة والاستهلاكية الفجة؛ وهذا مشروع عملاق جعل من كولن مصلحًا اجتماعيًّا من طراز خاصّ له تأثير عالمي.
ويرى كولن أنه لا أحد يمكنه تسويغ سلطته الخاصة دون أن يقوم بخدمة الناس عامّة وبخدمة شركائه في الوطن خاصَّة؛ لكن في ظلّ العقلية الانهزامية التي غذاها وأنبتَ شجرتها نظام تعليم الاحتلال يصعب أن يثق المسلمون بالقوة الأصيلة للرؤى الإسلامية الشاملة، ومنها واجب خدمة الآخرين، ولما كان مقتضى جوهر الرسالة الإسلامية المقطوع به أنه لا سيادة بالإكراه لمنهج إسلامي في حياة البشر -هذا درس كوني ينبغي تطبيقه في كل زمان-، وجب تعزيز المصلحة العامة وحمايتها في كل وقت ونشاط إنسانيّ؛ فرؤية كولن ومهمته قائمتان على خدمة قضايا البشر والمصلحة العامّة التي تخدم الجميع أيًّا كان الدين أو الثقافة أو الجنس.
“فنحن نرى أن الماضي حي بكل جوانبه، نرى فيه عالمًا يفكر مِثلنا ويهمس إلينا ويتحدث إلينا بنهره وبحره وسهله، أما المستقبل فهو العالم الذي يضم لنا فرصًا كثيرة عديدة”[13].
وفي هذا تصبّ أفكار كولن، فهو يدعو الناس جميعًا إلى بذل الجهد والقيام بأعمال صالحة في سبيل أجيال قادمة سوف تشكل العالم في نهاية المطاف حسب طاقتها وسعيها نحو الإبداع والسعادة الحقيقية. نعم، فالمسلمون مأمورون بالعمل على هذا المبدأ الأساسي لتحقيق الغرض من وراء الوجود الإنساني على وجه الأرض.
[1] Bekim Agai, “The Gülen Movement’s Islamic Ethics of Education”, Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement. M. Hakan Yavuz and John L. Esposito (eds.), New York: Syracuse University Press, 2003, p.59.
[2] Zeki Saritoprak, «Fethullah Gülen: A Sufi in his Own Way», Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, p.167.
[3] Zeki Saritoprak, Ibid., p.159.
[4] Zeki Saritoprak, Ibid., p.169.
[5] M. Hakan Yavuz, «The Gülen Movement: The Turkish Puritans,» Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, pp.26-27.
[6] كان سعيد النُّورْسِي ولا يزال بتأثيره المستمر من أهمّ المفكرين والكتاب في العالم الإسلامي، نظرًا لإنجازاته المتنوعة، وشخصيته ودوره المحوري، ولم يكن النُّورْسِي كاتبًا تقليديًّا، من مؤلفاته كتابه العظيم «رسائل النور»، وهو مادة قرآنية تناسب العقل المعاصر، ويتجاوز خمس آلاف صفحة، وهذا الكتاب بحجمه يعكس دعوة النُّورْسِي وجهاده ضد نزعات الفكر المادي والإلحادي اللذين أفرزهما العلم والفلسفة، وحاول أن يقدم حقائق الإسلام للعقول والقلوب في العصر الحديث مراعيًا جميع مستويات الفهم والإدراك البشري: «Bediüzzaman and the Risale-i Nur,” Humanity’s Encounter with the Divine Series, New Jersey, Tughra Books, 2009.
[7] M. Hakan Yavuz, «Islam in the Public Sphere: The Case of the Nur Movement,» Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, pp.17-18
[8] M. Hakan Yavuz, «The Gülen Movement: The Turkish Puritans”، Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, p.19.
[9] Ahmet T. Kuru, «Fethullah Gülen’s Search for a Middle Way: Between Modernity and Muslim Tradition,» Turkish Islam and the Secular State: The Gülen Movement, p.123.
[10] محمد أنس أركنه: فتح الله كولن – جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص 49،47، دار النيل – 2011م.
[11] See Nevval Sevindi, Contemporary Islamic Conversations: Fethullah Gülen on Turkey, Islam and the West, Albany: State University of New York Press, 2008, pp.71-79; “Intellectual Roots of ‘Turkish Islam’ and Approaches to the ‘Turkish Model,›» Journal of Muslim Minority Affairs, Vol. 24, October, 2004, pp.327-346.
[12] محمد أنس أركنه: فتح الله كولن – جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص 52،41،39، دار النيل 2011م.
[13] محمد أنس أركنه: فتح الله كولن – جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، ص 274، دار النيل 2011م. انظر: فتح الله كُولَن: سلسلة العصر والجيل-1، دار النيل – إسطنبول 2010م، (لما يترجم عن التركية)، ص 122.
Leave a Reply