لقد رأينا الأستاذ كولن يُنيط مهمة إنجاز النهضات بقطاعات المتطوعين، أهل الخدمة، أولئك المُسَبَّلون الذين يستمدون القوة والاستماتة من مناخ التضحية الذي يتحركون فيه، ذلك المناخ المشحون بكهرباء الإيمان الذي لا يفتأ ينبعث من أفئدتهم العامرة بالتقوى، ولا ينفك ينتهي إليهم من الخيوط الموصولة مع مصادر التأطير التي ترعاهم بأبوة ومسؤولية. فهؤلاء الخُلَّص هم أيضًا يتقدمون في الأشواط على هدي استنارة قلبية وحماس روحي متصاعد.

إن انبعاثنا مجددًا بثقافتنا الذاتية يتطلب رجالاً متحفزين للإيمان، ومهندسي فكر سائحين في الغد بأفقهم الفكري.

وقدة العشق

هؤلاء الحواريون الذين أقبلوا على العمل، حاديهم ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(التَّوْبِة:105)، لهم هم أيضًا حظوظهم من العشق؛ إذ لا يدوم انخراط، ولا تتزايد نتائجه، إلا حين تستحكم رابطة الانتساب الروحي إلى صفّ أهل الخدمة وبذل الجهد، بحيث تضحى مسألة النهضة والمصير، مسألة وجود شخصي، ورهانًا ذاتيًّا تهون لأجله كل التضحيات.

يقول كولن واصفًا رجال الخدمة ودورهم في البناء: “إن انبعاثنا مجددًا بثقافتنا الذاتية يتطلب رجالاً متحفزين للإيمان، ومهندسي فكر سائحين في الغد بأُفقهم الفكري، وعباقرة يحتضنون الوجود والأحداث بأصواتهم الفنية، ويتعرفون بتحسساتهم وتفحصاتهم الدقيقة على آفاق جديدة أبعد من الآفاق التي نحن فيها”.

ويؤكد هذه الصفات التي يرشّح لها رجالَ الخدمة، قائلاً: “إن جند الإدراك الذين يؤدون وظائف مثل فتح الآفاق أمام نظامنا الفكري المنغلق، ويشغلون تبلدنا في المحاكمة العقلية المتقادمة، المبتعدة عن السماوية بتدويرها في الفلك القرآني، ولا يغفلون أثناء ذلك عن المناسبة المفعمة بالسر بين الكائنات والإنسان والحياة، ويمثلون نموذجًا للدين يجسد إحياء الأوامر الدينية وتحقيقها بحرص بالغ، إلى جانب مراعاتهم أصلاً مهمًّا من أصول الدوام والتمادي في السبل المسلوكة، وهو التوافق مع آفاق صاحب الشريعة في التيسير والمواءمة والمسامحة؛ حتى تكون سمته فيضان التبشير وترك التنفير، وإنهاء العقم المزمن منذ قرون بتسليم قوة العلم والتفكر لإمرة الإسلام وتفسيره، وتحويل كل مكان مدرسةً كان أو معبدًا، شارعًا أم مسكنًا، إلى مراصد ترصد الحقيقة الكامنة خلف الوجود والحياة والإنسان، وتشغيل منافذ الرؤية المتأملة في اللانهاية، والتي يمتد زمان تعطلها إلى قرون.. وتقديم أجندة حضور الإسلام في مرتبة النظر دومًا وفي وحدات الحياة كلها، وتحكيم الحساسية في قضية السبب والنتيجة حسب مبدأ تناسب العلية، والتصرف الرياضي والعقلاني.. هؤلاء هم من يعينونا في التجدد، ويعلموننا أركان الحضور والوجود الدائم الأبدي”.

الأستاذ كولن يسدّد نحو أفق المثالية الذي يفترضه مقامًا لهؤلاء المندفعين في سبيل إحياء الأمة، بل نراه لا يزال يتطلع إلى ميلاد النوعية الفذّة التي تحسم الرهان.

أفق المثالية

لا ريب أن كولن -في هذه النظرة التي قوَّم بها رجال الخدمة- يسدّد نحو أُفق المثالية الذي يفترضه مقامًا لهؤلاء المندفعين في سبيل إحياء الأمة. ومن المؤكد أنه أضفى في هذه التوصيفات التي تعلي من مكانة وشأن أهل الخدمة، خصائص من المقامية والسلوك والافتدائية التي بلغها هو ودرج عليها في حياة العطاء التي يحياها.

بل نراه لا يزال يتطلع إلى ميلاد النوعية الفذّة التي تحسم الرهان. فهو يدرك أن الطلائع التي كتب الله لها أن تنحاز إلى لوائه، سيكون لها الخلف الذي يمضي بالغاية قدمًا، ويتحمل مسؤولة انتزاع الفوز، ويحقق ما تسعد به الأرواح. يقول:

“نحن أمة تنتظر وتترقب رجال عزم وإرادة وجهد، يحملون هذه المسؤولية، فلسنا بحاجة إلى حسنات ونُظم فكرية تستجدي من الخارج أو الداخل، بل حاجتنا الماسة إلى أطباء الروح والفكر الذين يحفّزون في شعبنا كله حسّ المسؤولية وشعور القلق والاضطراب.. حكمة حكماء الروح والفكر الذين يمكّنون التعمق في أرواحنا بدلاً عن وعود السعادة المتقلبة إلى زوال ويرفعوننا بحملة واحدة إلى مراتب نرى بها المبدأ والمنتهى معًا وسوية”.

لا مناص لرجل الخدمة من أن يتحلى بسمة العشق؛ إذ لا يسع المنخرط أن يضطلع بأدق المهام وأكثرها بسالة، إلا إذا كان من أهل الروح، ولا يترشح للأدوار الدائمة والمتواصلة وذات العناء المتصاعد، إلا عنيد، يعيش الآخرة في الدنيا.

لا مناص لرجل الخدمة من أن يتحلى بسمة العشق، إذ لا يسع المنخرط أن يضطلع بأدق المهام وأكثرها بسالة، إلا إذا كان من أهل الروح.

عتبة التجرد

النهضة لا تستغني عن جهد أحد، فالجدار يُبنى بالأحجار المقولبة، وبأنصافها، وبالقرش والحصى، بل ويُلحَم بالجبس والطين. إنما يختص بمهام الدقة والحسم وإنجاز الفتوح، المُسَبَّلُون من ذوي الانجذاب العروجي، الذين يتراقصون جذلاً في عز الالتحام، حين يحمى الوطيس. هؤلاء بلغوا رتبة الامّحاء، لا ينافسهم أحد لجبروتهم القلبي، ولا ينافسون أحدًا؛ لانخطافهم إلى ما يرفرف على الرهانات من تجليات الرضا الإلهي.

وإذا كانت خطة الانتقاء للأدوار تضع أهل الإمعان التبتلي في المقدمة، فإنها تتحفظ حيال الذين يُظهرون تدينهم أو المتدينون، فالأنانية غالبًا ما تقعد بهم عن بلوغ عتبة التجرد الذي يتنزه به الفعل من الغرضية. إن ضرر هؤلاء يقارب ضرر اللادينيين، “الصنفان كلاهما لا يوقّر الدين، وكلاهما لا يتسامح في التفكير الحر، وكلاهما منغلق أمام فكرة المشاركة والتقاسم”، وكلاهما حجر عثرة في سبيل تحقيق الانسجام داخل الصفّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: د. سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، ص: ٢٢٦-٢٢٩، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٢، الطبعة الأولى، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.