لست أدري من أين أبدأ الكلام! واي باب أفتح لولوج ساحة لا تضاهيها ساحة في عالمنا المعاصر. وأخص بالذكر ساحة فقه التنزيل عند الأستاذ المجدد والمفكر العبقري محمد فتح الله كولن. ذلك ما سأحاول ملامسته في المنحى الثالث والأخير من هذه السلسلة التي قصدت من ورائها بيان منهج كل من الشيخ سعيد النورسي رحمه الله والشيخ فتح الله كولن أطال الله عمره، في مواجه ظاهرة قديمة جديدة وهي ظاهرة العنف والتشدد.

الآن وبعد ما بينت شيئًا من ذلك عند فتح الله من خلال منحيين اثنين: الأول فقه النصوص، والثاني فقه الواقع، أجد نفسي عاجزًا في التعبير عن منهجه في التعاطي مع معضلة العنف والتشدد، ذلك لأن الرجل وحسب التقديري الخاص لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بهذه الظاهرة إلا وتطرق إليها؛ إما بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى أن أعدمها كليًّا بين تلاميذه بل ومحبيه كذلك. فلا يكاد أحد يطلع على منهج الرجل ويفهمه جيدًا إلا ويلهج بذكره ويتسابق إلى منهجه.

من هذا العبقري القادر على معرفة مفاتيح النفس الإنسانية حتى يرودها ويفتح فيها منافذ التقوى، ويغلق فيها منافذ الفجور؟

حين نقلب صفحات واقع دول العالم المعاصر ومنهجها في التعاطي مع ظاهرة العنف والتشدد شرقًا وغربًا، تشعر بالحيرة حينًا وبالغثيان حينًا آخر وأنت تتأمل تقارير عدد من الدول وهي تخلص إلى أن السبب الرئيس الكامن وراء ظاهرة العنف والتشدد، هو الفقر والهشاشة، أو محاولة إقناع الآخرين بأن سبب العنف والتشدد يرجع إلى الإسلام، وفي أحسن الأحوال يتحدثون عن “سيكولوجية المقهور” الذي ما يلبث أن يتحرر من القهر حتى يعود لنفس منهج قاهره ويعمل العمل ذاته. وهكذا يعيش العالم في دوامة لا يُعلم لها بداية ولا نهاية.

والحال أن العنف والتشدد يختلف نوعا وكما باختلاف المكان والزمان ونفس الإنسان. هذه النفس التي سواها خالقها لكنه ولحكمة هو وحده يعلمها ألهمها القابلية للفجور كما ألهمها الاستعداد للتقوى. السؤال المحير: من هذا العبقري القادر على معرفة مفاتيح النفس الإنسانية حتى يرودها ويفتح فيها منافذ التقوى، ويغلق فيها منافذ الفجور، ولتكون منارة للقيم الفاضلة؟! إنهم العلماء الذين تمكنوا من إرث النبوة حقيقة. إنهم أولئك الذين تحققوا بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة:2)، هم الذين تمثلوا حقيقة التلاوة، وحقيقة التزكية، وحقيقة التعليم، وحقيقة الحكمة. وإني أضم قراري إلى قرار أخي وصديقي وأستاذي المرحوم فريد الأنصاري حين قال: وقد رأيتها كلها اليوم اجتمعت في هذا الرجل محمد فتح الله كولن.

لو كان العنف رجلًا لفر وبدون رجعة ممّن جمع بين كل هذا الإرث النبوي. كيف لا يفر من رجل ضم إلى جانب فقه النصوص فقه الواقع حين تصدى لأعظم ما واجه الشيخ النورسي من أعداء التخلف المكونة لثلاثي الجهل والفقر والتفرق، وزاد عليه مواجهة الأعداء الجدد الذين حددهم في الخداع والتسلط والسفاهة والخلاعة واللامبالاة وضياع الهوية.

مساكين أولئك الذين لا حظَّ لهم من إرث النبوة، أو عديمو الزاد بفقه التاريخ، أو بضاعتهم ضحلة في مجال الفلسفات والأفكار.

مساكين أولئك الذي يوجهون أسلحتهم صوب مجال أو فئة أو جغرافية معينة، معتقدين أن ذلك سبيل القضاء على العنف ومواجهة التشدد. مساكين أولئك الذين لا حظَّ لهم من إرث النبوة، أو عديمو الزاد بفقه التاريخ، أو بضاعتهم ضحلة في مجال الفلسفات والأفكار. إننا حين نتأمل منهج فتح الله كولن في التعاطي مع العنف وقضاياه، نجد للرجل سبحًا طويلًا في عالم الأفكار والفلسفات، فتأمل هذا الكلام المجلجل: “لنضع جانبا بلبلة التكوينات الجديـدة في العالم. نحن لا نصدّق بولادة شيء جديـد من الهندام الرأسمالي القديم، أو أحلام الشيوعية، أو تكسيراتها الاشـتراكية، أو هجين الديمقراطية الاجتماعية، أو خرق الليبرالية البالية. الحقيقة هي أنه إن كان ثَمّ عالَمٌ مشرّعُ الأبواب لنظام عالمي جديد، فهو عالمنا نحن. وسيتناوله الجيل القادم على أنه عصر نهضتنا نحن”[1]

لم يدعُ فتح الله كولن لمعالجة ظاهرة العنف إلى تطبيق الشريعة، أو إعلاء أمر العقيدة، بل ذهب رأسا إلى تشريح الواقع وتحديد العوائق والعمل على تجنبها، ثم رصد الفرص واستثمارها، اعتقادًا منه أن كل الفلسفات والمناهج المخالفة لأصولنا لا يمكنها أن تثمر خيرًا أو فضيلة في بلادنا، لكن الرجوع إلى القيم السامية للأمة يستلزم تجاوز التشنج والتسرع والدعاوى الميتة إلى ولادة واقع جديد مليء بالحياة والأمل، بعيد عن العنف والتشدد وردود الأفعال وذلك حين قوله: “هذه الولادة الجديدة، ستُكسب عالم مشاعرنا وأفكارنا، كذلك مفاهيم فننا وجمالنا أعماقًا مختلفة اختلافًا شاسعًا عما عليها الآن، وفي ظله سنكتشف أذواقنا البديعة ونصل إلى موسيقانا، ونعثر على رومنسيتنا… ويستقر شعبنا في حرز مُصان ومتين من كل جهة، سواء في العلم والفن، أو الفكر والأخلاق، فنضمن مستقبله.”[2]

  هذا الفقه الكبير لواقع الأمة، ثم الثقة العالية في النفس أحيت كثيرًا من الأفكار الميتة والطموح الخابية في نفوس الناس، حتى باتت رؤية الجروح أوسمة على صدور مهندسي الروح وورثة الأرض الذين أعدهم فتح الله كولن طيلة عقود من الزمن. يقول: “شعارنا في هذا المضمار النفير والإقدام، ومصدر قوتنا الإيمان والحقيقة. لقد أخفق دومًا الذين داروا بنا على الأبواب الأخرى على أمل الشفاء من الأدواء بالانفلات من الإيمان ومن الأخلاق، ولقد نلنا نحن الشرف، وبقينا شرفاء، بفضل الله الذي ارتبطت قلوبنا به، وفي ظل تسليمنا وانتمائنا إلى أمتنا التي رجحناها على كل شيء دنيوي وبلادنا التي وُجِدنا في صدرها ونشأنا في حضنها.”[3]

استبدل كولن مصطلح العنف بنقيضه من المصطلحات البانية والمكونة للشخصية الإنسانية المثالية وغرسها في قلوب تلاميذه غرسًا.

لقد ذاب مسلك العنف في المنهج التربوي والتعليمي الشمولي للأستاذ كولن ولم يعد له أثر، بل يمكن القول إنه استبدل مصطلح العنف بنقيضه من المصطلحات البانية والمكونة للشخصية الإنسانية المثالية وغرسها في قلوب تلاميذه غرسًا. ولولا خوف الإطالة لتوسعت في نقل عشرات النصوص الموضحة لمنهجه الشمولي في طرد كل خصال العنف والتشدد واجتثاثها من جذورها من خلال تسوية النفوس وتزكيتها وتقويتها بترسانة من المثل المُحصنة التي يستحيل أن يجتمع معها نقيضها من قيم الفجور فضلاً عن العنف والتشدد. لكني سأختصر نصًا طويلاً جمع فيه فتح الله كولن سبع صفات من مميزات ورثة الأرض من الجيل الذي بدأ في تنشئته منذ سبعينيات هذا القرن. يقول: “الوصف الأول لوارث الأرض هـو الإيمان الكامل، يحدد القرآن الكريم “الإيمان بالله” غايـة لخلق الإنسان في أفق المعرفة وروح المحبة وبُعدِ العشق …، الوصف الثاني للوارث هو العشق الذي يُعد أهم إكسـير للحيـاة في الانبعاث من جديـد…، الوصف الثالث للوارث هـو التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور، هذا التوجه الذي يشكل جوابًا عن تمايل البشر…، الوصف الرابع للوارث هـو إعـادة النظر في ملاحظاته عن الكائنات والإنسان والحياة، وتمييز الصحيح من الخطأ فيها بميزان دقيق…، الوصف الخامس للوارث هـو أن يكون حرًا في التفكير وموقِّرًا لحرية التفكير….، الوصف السادس العمل على أن تحل الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محل الدهاء…، الوصف السابع للوارث هو الفكر الرياضي، لقد حقق الأوائل في آسيا في الزمن الماضي، ثم الغربيون، نهضتهم بفكر القوانين الريـاضية… فلولا الرياضيات لما توضحت المناسـبات بين البشر ولا بين الأشـياء…، الرياضي يجمع بين الرياضيات وقوانينها فكريًا، ويصاحبها دائمًا في الطريق الممتد من الفكر الإنساني إلى أعماق الوجود.”[4]

قد تبدو هذه الأوصاف الخُلقية العالية، نظرية وعامة بالنسبة لمن لا يعرف الأستاذ كولن وحركة الخدمة، لكني أرها أوصافا حقيقة بل واقعًا معاشًا، تطلبت من الرجل سنين بل عقودًا لينقلها من عالم النظر والفكر إلى عالم الواقع والحركة. (يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] فتح الله كولن “ونحن نقيم صرح الروح” دار النيل للنشر القاهرة ط4، 2008م، ص28

[2] السابق 28

[3] السابق 28

[4] من مقال ونحن نقيم صرح الروح كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” بتصرف دار النيل للنشر القاهرة ط4، 2008م.

Leave a Reply

Your email address will not be published.