من شأن جدولة العمل، وتقسيم الوظائف، وتوزيع المأموريات، أن يحدث الدينامية التي تهيئ مزيدًا من الفرص، وتفتح مزيدًا من الآفاق في وجه الخدمة والتثمير. إن مبدأ الالتزام بشرط الانتظام والانسجام في برامج التنمية ومكوناتها، بقدر ما يشدد على أهمية التنسيق في ما بين الفروع والوحدات، لأجل السير بها في طريق التوسع المتكامل والتكاثر المتناسل، يشدد أيضًا على أهمية ترصُّد الكفاءات المتفرّدة، وإيجاد الموقع المناسب لها؛ لتقوية الدفع. فمن الجهد المتفرق تنشأ القوة الفاعلة، شريطة أن يتم تنظيمها في نسق وسياق، “ينبغي أن لا تطفأ جذوة الطاقات الفردية بتاتًا، باحتساب ضررٍ قد تسببه، بل على العكس تجب العناية الرفيعة حتى لا تهدر ذرة واحدة من تلك الطاقة، وتوجّه نحو تحقيق الهدف المنشود”.

 “إن الهمم والمبادرات الفردية إن لم تنضبط بالتحرك الجماعي، ولم تنظم تنظيمًا حسنًا، فستؤدي إلى تصادم بين الأفراد -وبين فقرات البناء وفروع التأسيس-.. وبالتالي سيختل النظام”.

مناخات العمل

لا يستتب النظام والتخطيط والانضباط، إلا في جو سمح، يكتنف علاقة الجماعات والفئات القائمة بالخدمة. وكل خلل في الروابط -حتمًا- يسري معه الخلل إلى المشاريع، فيؤذيها ويضرّ بها. وإن كولن الذي عاش بروحية الحلقة، فهو حتى حين يتفرد وتغيبه الوحدة، يكون في حقيقة الأمر يعيش وسط أخلاء يستحضرهم في قلبه، وينادمهم.. ذاك هو شأن المتبتلين ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾(الْمُزَّمِّل:8)، فلذا هو يرى أن للجماعة بركة تستمدها من رابطة المصافاة في ما بينها، ومن التآخي، ومن الطاعة التي يرى فيها كل فرد من المجموع فضل الآخرين عليه، وأنه لا شيء بوحدته، لولا ما ينعكس عليه من إخوته العاملين معه.

إن مراعاة واجب الانضباط، وتحقيق الطواعية، واستنزال التوفيقات بدعاء الجماعة، و(العمل الخيري أفضل الأدعية وأبرها وأحظاها بالإجابة الإلهية)، والحذر من تعاكس الإرادات، وتصادم الرؤى، وظهور الأنانية لدى المؤطِّرين، هي بعض وصايا مدونة السلوك التي وضعها كولن للعاملين؛ إذ لا ينبغي لرجل الخدمة -وهو في غمرة الأداء والبذل- أن ينسى أنه يسير على هدي أهل الشوق والعشق، فالتجرد يكون من أخص صفاته، وإلا يكون مجرد متربص، ومتدرب، وعليه أن يبذل الجهد الخالص ليرقى إلى العتبة، حتى تنفتح عيناه على النور الوهاج. كما أن الاستعداد بالفطنة، والإسراع إلى استيعاب كل مدد مفيد مما يعرض المجموع، أمرٌ من صميم واجبات العاملين.

من شأن اليقظة والتفطن أن يستبقيا باب الاجتهاد والتحسين مفتوحًا، وإمكانات الترقي في الإنجاز متضافرة.

 خصائص “الخدمة” تجعلها مسار يستقطب الأجيال

من شأن اليقظة والتفطن أن يستبقيا باب الاجتهاد والتحسين مفتوحًا، وإمكانات الترقي في الإنجاز متضافرة. الأمر الذي يجعل الخدمة مسارًا يستقطب الأجيال، يلتحقون بها من مختلف الاختصاصات والاستعدادات، يضيفون إليها أدوارًا بعد أدوار، ويمضون بها قُدُمًا. فالنهضة استرسال وصعود في المدنية والأخلاق، والتاريخ حلقات يتنافس الأجيال في كتابتها بما يبذلون من أعمارهم وأعمالهم. على أن يكون الحرص الحريص في كل ذلك، هو أن يجعل العاملون من قاعدة الإيمان بالله مقياسًا أوحد للنجاح في كل شأن ينجزونه أو هدف يراهنون عليه.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 233-235.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.