إن نظرة إلى انتقادات فتح الله كولن للنظام التعليمي الحديث في تركيا المعاصرة يؤكد -في أحد جوانبه- أنه لا يقدم اعتراضًا كليا على العلوم العصرية، ولا يقترح قيمًا تقليديةً متزمتة، ولا يبدي حنينًا إلى العودة إلى الأنماط العثمانية.

نقد التعليم الديني والعلماني

إن انتقاد كولن للمدارس العتيقة والتكايا والزوايا يرتكز بشكل دقيق على أنها لا تفي بمتطلبات الحياة الحديثة، ولا تُعِدّ الطلاب ليقدموا مساهمة نشطة وإيجابية في الحياة المعاصرة؛ لأن مناهجها لم تقم بدمج تطورات العلم والتكنولوجيا داخل المناهج التقليدية التي تدرس في تلك المحاضن، ولذلك فقد يكتسب الطلاب معرفة دينية جيدة أو مبادئ أخلاقية حميدة إلا أنهم لا يملكون القدرة على الوصول إلى مواقع تستطيع معرفتهم ومبادئهم الأخلاقية إحداث تغيير في المجتمع المعاصر.

وعلى الجانب الآخر، يبين كولن في نقده للمدارس الحكومية العلمانية والمؤسسات الأكاديمية أنها تفصل المعرفة العلمية الحديثة عن المهارات الفنية وأنها لم تنجح في غرس القيم “الروحية” والأخلاقية. فقد ينجح الطلاب الذين يتخرجون من تلك المؤسسات التعليمية في الحصول على عمل في المجالات الفنية والمهنية إلا أنهم يفتقرون إلى معنى يعيشون من أجله، وإلى رؤية من أجل إنشاء عالم جديد، وإلى انضباط ذاتي يؤهلهم لرفض الإغراءات التي تواجههم -مثل القوة والطمع والأنانية- بشكل فعال.

يبين كولن في نقده للمدارس الحكومية العلمانية والمؤسسات أنها تفصل المعرفة العلمية الحديثة عن المهارات الفنية وأنها لم تنجح في غرس القيم الروحية والأخلاقية.

غياب التكامل المعرفي

المشكلة الأصلية واحدة في كلتا الحالتين -المدارس الدينية والتكايا من جانب، والمدارس الحكومية والمؤسسات الأكاديمية من جانب آخر- وهي غياب التكامل: تكامل الحديث والقديم، العصري والتقليدي، المعرفة العلمية والدينية، المهارات الفنية وتكوين الشخصية، ونتيجة هذا النقص في التكامل هي حدوث أزمة داخل المجتمع، وتشرح الباحثة الاجتماعية الدكتورة “نيلوفر كُولَه” هذه الأزمة فتقول:

“نحن الذين عشنا في تركيا خلال العشرين سنة الأخيرة عانينا حالة من الصدمة، فقد ظللنا نتأرجح جيئة وذهابًا بين الرغبة في مواكبة العصر الحديث ومعرفة أنفسنا، حائرين وسط الطموح والغضب والإثارة، نحاول أن نفتح بأيدينا طريقًا بين روحنا والعالم، نقاتل من أجل هويتنا غير الرسمية ومخططنا غير الواضح. وطالما لم تربط تركيا ماضيها بمستقبلها، وتقاليدها بالحداثة، ونفسها بالعالم، فسوف تظل غير مستقرة. والعنف والفوضى أهم مؤشرات ذلك”[1].

وقد وجدت “كُوله” مفتاح التكامل في فكر كولن، فهي ترى أن مفهوم “ثقافة القلب” لدى كولن الذي استقاه من دراسته للصوفية يقدم للمجتمع التركي الثقة بالنفس التي يفتقر إليها بسبب طبيعة النظم التعليمية المختلفة غير المتكاملة والمتحيزة. ولما كانت النظم القديمة تُفرّق ولا تَجمع؛ حيث أدت إلى تقسيم المجتمع إلى “علماني” “إسلامي”، و”عصري” “تقليدي”، و”علمي” “ديني”، فإن منظور كولن المتكامل للحياة يتيح للشعب التركي أن يحتفظوا من الماضي بما هو أفضل وأصلح، ويقبلوا بالتقدم العلمي والتكنولوجي ويستفيدوا منهما. ولذلك فهي تأمُل أن تكون النتيجة مجتمعًا عصريًّا ومتسامحًا.تقول “كُولَه”:

“إن البنية الفكرية لـ”كولن” تؤيد التواضع الفردي، والمجتمع المحافظ، والإسلام في بناء الحضارة، وتقدم نماذج من الأشخاص المتواضعين والمعتدلين الذين لم يفقدوا اتصالهم بالله، وأيضًا من الأفراد الذين أعياهم كبت التقاليد وإفراط العصرية. أما العاطفة التي تجمع بين الإيمان والعلم في “ثقافة القلب” فهي تبشر بفتح باب جديد من الثقة بالنفس، ولأول مرة في تركيا نشهد خليطًا عميقًا من الفكر المحافظ والتسامح المتحرر”[2].

إن الحضارة ظاهرة ذهنية وروحية لا تتعلق بالتكنولوجيا والملابس والحلي ووسائل الترف. فلو كانت تتعلق بهذه الأشياء لَأمكنَنا “تحضيرُ” أي إنسان في بضعة أشهر وتحضيرُ أي مجتمع في بضع سنين.

إن التحديات التي يواجهها التعليم هي -ببساطة- انعكاساتٌ للتحديات التي يواجهها المجتمع ككل، ويُعد فشل النظم التعليمية في التوفيق بين العناصر المتنافرة وجمعها في كل متكامل مؤشرًا على أن المجتمع لم ينجح بشكل عام في تحقيق ذلك أيضًا. ويوضح كولن سطحية ادّعاء النجاح في تحقيق “الحضارة الحديثة”، بينما تظل اتجاهات وقيم الحاضر غير متوافقة مع حكمة الماضي، وتمخضت عن ذلك حداثة سطحية تكمن تحتها همجية إنسانية. وكما يقول كولن:

“إذا خَلَت الجموع في مجتمع ما من الإيمان والحب والحماسة والإحساس بالمسؤولية، وإذا ظلوا يعيشون حياةً بلا هدف ودون وعي بهويتهم الحقيقية وبالعصر والبيئة اللذين يعيشون فيهما، فإن ذلك المجتمع لا يمكن اعتباره مجتمعًا حضاريًّا حتى ولو تغير تغيرًا كاملًا في مؤسساته، وارتفعت مستويات المعيشة بشكل كبير، و”عصرن” جميع الناس في أسلوب حياتهم. إن الحضارة ظاهرة ذهنية وروحية، لا تتعلق بالتكنولوجيا والملابسِ والحلي المبهرجة والأثاثِ ووسائل الترف. فلو كانت تتعلق بهذه الأشياء لَأمكنَنا “تحضيرُ” أي إنسان في بضعة أشهر وتحضيرُ أي مجتمع في بضع سنين، هيهات! فعدمُ تقدُّمنا من حيث حياتنا المعرفية ولو خطوة واحدة دليلٌ ساطع على أن اكتساب الحضارة بالتقليد أمرٌ مستحيل”[3].

إن الحضارة هي المناخ الذي يلائم تطور قدرات الإنسان، والمتحضر هو الذي وضع نفسه في خدمة مجتمعه بشكل خاص والإنسانية بشكل عام.

خلط في المفاهيم والممارسات

وينتقد كولن المخططِين الاجتماعيين والسياسيين الذين يضعون “الحداثة” هدفًا أساسيًّا لهم، حيث يختارون في صراعهم من أجل تحقيق العصرية تقديم كل ما هو جديد وسطحي في العادات وأساليب الحياة، بينما يتجاهلون التحدي الحقيقي الذي يتمثل في تغيير العقليات، هذا التمسك بإخراج مجتمع عصري مهما كلف الأمر يسميه كولن “العصرية”. وفي مقابل المخططين الاجتماعيين العصريين يعتقد كولن أن الهدف الحقيقي للأمم ينبغي أن يكون تجديد الأفراد والمجتمع على أصعدة الحضارة والسلوك الأخلاقي والعقليات، أما التركيز على توفير أهداف ورغبات جديدة للمستهلك دون الالتفات إلى التحول في المواقف والسلوك فهو “جريمة ثقافية” من حيث إنه يضلل الناس بتقديم العلاج الخاطئ لمشكلة أُسيء فهمها. يقول كولن:

“تختلف الحضارة عن العصرية: فبينما تعني الأولى تغيير الإنسان وتجديده في آرائه وطريقة تفكيره وجوانبه الإنسانية، فإن الثانية تعني تغيير نمط حياته، وملذاته الحسية، وتطويرَ تسهيلات الحياة. إن الأجيال الجديدة التي أربكها الاستخدام الخاطئ للمفاهيم قد ضُللت أولًا فيما يتعلق بأسلوب تفكيرهم ثم تعرضوا للفساد والتدهور في الإيمان واللغة والأفكار الوطنية والأخلاق والثقافة. وبعيدًا عن ذلك فإن تلك الشعوب التي تتمتع بالتسهيلات التكنولوجية أكثر من غيرها، أو المثقفين المزعومين في جميع الشعوب اعتبروا أنفسهم متحضرين والآخرين همجيين، فاقترفوا خطيئةً كبيرة لا تغتفر ضد الحضارة والثقافة”[4].

أما المسؤولون عن هذا الإثم فهم أولئك الذين يسعون دون تمييز، بشكل تماهت فيه الحداثة مع التغريب، إلى تبني كل ما هو غربي باعتباره أفضل وأكثر تقدمًا، بل وإجبار الآخرين على تبني هذا الموقف، وفي المقابل يحطّون من شأن القيم الوطنية. إن الحضارة الحقيقية لا تتحقق عن طريق التقليد الأعمى لإنجازات الآخرين (وعيوبهم)، بل من خلال نمو الفكر النقدي والسلوك المهذب والقيم الإنسانية والاستقامة الشخصية، أما التركيز على الازدهار المادي فقط دون السعي وراء إعلاء القيم الروحية فهو الوجه المعاصر للمادية.

يقول كولن في هذا الصدد: “قد تساعد التسهيلات العصرية في “تجديد” المظهر الخارجي للحياة لكن ذلك لا يعادل التحضر، فالحضارة هي المناخ الذي يلائم تطور قدرات الإنسان، والإنسان المتحضر هو ذلك الشخص الذي وضع نفسه في خدمة مجتمعه بشكل خاص والإنسانية بشكل عام، إلى جانب الأفكار والمشاعر والقدرات التي يطورها ويحسنها في هذا المناخ. ولذلك فالحضارة لا يُبحث عنها في الترف والرفاهية والحياة المريحة بوجه عام، أو داخل البيوت ذات الأثاث الأنيق أو في أساليب وكميات الإنتاج والاستهلاك… بل إنها تتواجد في نقاء الأفكار، وتهذيب الأخلاق، والمشاعر وصحة الآراء والأحكام، فالحضارة تكمن في التطور الروحي للإنسان وتجديده الذاتي المستمر نحو الإنسانية الحقّة والاستقامة الشخصية… ليست الحضارة كما يفهمها –يا للأسف- المقلدون العميان للغرب باعتبارها ثوبًا يُشترى من أحد المحالّ ويُلبس، ولكنها غاية منشودة يصل إليها الإنسان من خلال طريق عقلي يمر عبر الزمان والظروف”[5].

يرى كولن أن الفرضية المزعومة التي تقول بأن العصرية تساوي التغريب تنشأ عن قراءة انتقائية للتاريخ.

ويعتقد كولن أن الفرضية المزعومة التي تقول بأن العصرية تساوي التغريب -والتي أدت ببعض المفكرين في تركيا وفي أماكن أخرى من العالم الإسلامي إلى محاولة تحقيق هدفهم من خلال تقليد كل ما هو أوروبي- تنشأ عن قراءة انتقائية للتاريخ. وبما أن القوى الاستعمارية هي التي قدمت وروجت للعصرية في الغالب الأعم داخل المناطق المسلمة، ودعمت هذا الاستعمار بقوتها المتفوقة في التكنلوجية العسكرية فإنه يصبح من الطبيعي للمفكرين المسلمين أن يطابقوا بين العصرية والتغريب. وفي مواجهة السيطرة الغربية السائدة في الاقتصاد والسياسة رد المسلمون بطريقتين متعارضتين:

الأولى: اعتبر “الحداثيون” أن السيطرة الغربية نتيجة حتمية لفاعلية بنيتها الاجتماعية، فإذا كانت الدول الإسلامية تأمُل في الوصول إلى تكافؤ مع نظرائهم الغربيين، فإن هذا يعني مراجعة فكرهم وسلوكهم ليجعلوه مشابهًا لفكر الغرب وسلوكه، غير أنهم كانوا يبنون فهمهم للحضارة على الموقف الآني في ذلك الوقت وينسون أن حركة التاريخ لم تكن دومًا بهذه الطريقة، وأن التاريخ لم يتعين عليه التطور بالشكل الذي تطور به، فالتفوق التكنولوجي والعلمي للغرب لم يأت نتيجة لعملية حتمية تاريخية، ولم تكن هذه هي الحال في جميع الحقب التاريخية.

أدت هذه القراءة المتحيزة للتاريخ بكثير من المفكرين إلى أن ينظروا إلى الإسلام على أنه عقبة في طريق التقدم الذي سمح للأمم الغربية بالسيطرة، كما فتحت باب الاعتقاد بأن تقليد الغرب في نظرتهم للعالم والأنماط الاجتماعية والأنظمة السياسية سوف يؤدي حتمًا إلى الرخاء والقوة التي وصلت إليها البلاد الغربية. يقول كولن:

“بسبب تأثير سيطرة الغرب على أراضيهم -وهي السيطرة التي نُسبت إلى التفوق العلمي والتكنولوجي- ظل بعض المفكرين المسلمين لسنوات عديدة يتهمون الإسلام نفسه بأنه سبب تخلف الشعوب المسلمة، فقد نسوا الأحد عشر قرنًا أو أكثر التي شهدت سيادة الإسلام، ففكروا وكتبوا كما لو كان تاريخ الإسلام قد بدأ في القرن الثامن عشر فقط… وحتى إنهم لم يرهقوا أنفسهم للقيام بدراسة سطحية للإسلام وتاريخه الطويل”[6].

إذا كان العنصر الأساس في تقدم الحضارة هو تغيير عقليات الناس، فإن ذلك يتحقق فقط عندما يعترف الإنسان بحدوده وبحاجته للسيطرة على أهوائه.

الثانية: وثمة مفكرون مسلمون آخرون من الذين ينطلقون من نفس الفرضية -وهي أن العصرية تساوي التغريب- ركزوا على مشكلاتِ وعيوبِ وآثار الثقافة الغربية الضارة، وشجبوا الخلفيات الإلحادية للمجتمع الغربي العلماني، ونسبية الأخلاق، واستعداده للخوض في دمار شامل من أجل تحقيق أهدافه، ثم خلصوا إلى أن الحداثة شيء مدمر يتعارض مع العقيدة الدينية، ونظروا إلى الغرب باعتباره العدو، وجاء رد فعلهم غاضبًا بل حتى عنيفًا.

ويعتقد كولن أن كلا الاتجاهين -وهما المحاكاة غير النقدية ورد الفعل الغاضب- ليسا في موضعهما، وأنه لا هذا ولا ذاك ينتميان إلى تعاليم الإسلام.

وبعد رؤية بعض الكتاب المسلمين المعاصرين لأشياء مثل القنابل الذرية، والقتل الجماعي، والتلوث البيئي، وضياع القيم الأخلاقية والروحية، اتهموا العلم والتكنولوجيا بأنهما المسؤولان عن تلك الكوارث، وبينوا نقائصَ وأخطاء النظرة العلمية المحضة للبحث عن الحقيقة، كما بينوا أيضًا فشل العلم والتكنولوجيا في جلب السعادة. وبسبب اقتفائهم لأثر نظرائهم الغربيين أدانوا العلم والتكنولوجيا إجمالًا وتبنوا اتجاهًا مثاليًّا صرفًا. وعلى العكس من ذلك فإن الإسلام هو الطريق الوسطي؛ فبينما لا يرفض الإسلام أو يدين النظرة العلمية العصرية فهو كذلك لا يقدسها[7].

نقد الحداثة

يتناول هذا الطريق الإسلامي “الوسطي” الذي يقترحه كولن قضية الحداثة تناولًا نقديًّا. يؤكد “أحمد كورو” أننا لا بد وأن نفهم جيدًا ما يقصده كولن بـ”الطريق الوسطي”، فكولن لا يبحث عن طريق وسط بين الإسلام والحداثة؛ لأنه يفهم الإسلام نفسه على أنه “الطريق الوسطي”؛ حيث يقول كولن: “إن الإسلام هو “الطريق الوسطي” والتوازن الكامل بين المادية والروحية، بين العقلانية والتصوف، بين الدنيوية والزهد المفرط، بين الدنيا والآخرة، وهو الدين الشامل الذي يتقاطع فيه طريق جميع الأنبياء السابقين. ولذلك يحاول كولن أن يأتي بتفسير للإسلام يتماشى مع الحداثة والتقاليد، ولكنه في الوقت ذاته ينظر إليهما بنظرة نقدية[8].

ومن الواضح أن دراسة كولن للتصوف بمثابة أدوات تساعده على الإدراك والبصيرة والفرز بين الأمور، فإذا كان العنصر الأساس في تقدم الحضارة هو تغيير عقليات الناس، فإن ذلك يتحقق فقط عندما يعترف الإنسان بحدوده وبحاجته للسيطرة على أهوائه، وعندما يحصل على الدوافع التي تحثه على الكفاح من أجل الفضيلة والعلم. ويرى كولن أن هذه هي الفكرة الرئيسة للتصوف. يقول كولن:

“إن الحياة الإسلامية الروحية التي تُبنى على الزهد، والعبادة المنتظمة، والامتناع عن جميع الخطايا الكبيرة والصغيرة، والإخلاص ونقاء السريرة، والحب والشوق واعتراف الفرد بعجزه وفقره، كل ذلك أصبح موضوع التصوف”[9].

إذا أراد المسلم المعاصر أن يتناول الحداثة بشكل نقدي ويحدث التغييرات اللازمة فينبغي للجميع أن يبدؤوا بتغيير ما بأنفسهم أولًا.

إن التدريب الصوفي -بوصفه نظامًا تربويًّا يؤكد على البعد الداخلي للتعاليم الإسلامية- يمكِّن المسلمَ من مواجهة تحديات الحداثة بشكل نقدي ولكن باعتدال، دون الوقوع في فخاخِ القبول غير المدروس أو الرفض الغاضب. إن السؤال الذي يواجه جميع الأشخاص العصريين هو كيفية تطوير الصفات الإنسانية، والسلوك الحميد، وحب الآخرين، والحماس للتطوير الذاتي، والرغبة الفعالة في خدمة الآخرين، وإحداث التغيير في العالم، والإصرار على تحقيق هذه الرغبة دون أن تتعرض للعوائق والهزائم. ويرى كولن أن المفكرين الصوفيين قد فكروا في هذه القضايا خلال القرون الماضية واتبعوا المنهج التجريبي في معالجتها.

وإذا أراد المسلم المعاصر أن يتناول الحداثة بشكل نقدي ويحدث التغييرات اللازمة فينبغي للجميع أن يبدؤوا بتغيير ما بأنفسهم أولًا. يُقدم التصوف الحكمة المتراكمة التي نُقلت عبر القرون والتي يستطيع المرء بمساعدتها أن يتقدم نحو عقلية متحولة، وحب أعمق، وصفات شخصية إيجابية، وشجاعة للعمل من أجل إصلاح المجتمع.

ويوفر البرنامج الروحي الذي يقدمه التصوف قاعدةً راسخة لتطهير الدراسة العلمية العصرية من النواقص الأخلاقية والمحددات الوضعية، وبذلك نستطيع التوفيق بين العلم وما هو إنساني، وبين القيم العلمية والقيم الإنسانية، وبين المنظور العلمي والمنظور الديني للحياة، وبين العلوم الغربية من جانب، والإيمان والأخلاق الشرقية من جانب آخر. وهذه هي التحديات والصعوبات التي تواجه العلماء والمربين وعلماء الاجتماع أو الاتصال في أيامنا هذه.

يقول كولن: “على المفكرين والمؤسسات التعليمية والإعلام القيام بمهمة حيوية لخير الإنسانية وهي إنقاذ الدراسات العلمية الحديثة من ذلك الجو الملوث تلوثًا مميتًا بالطموحات المادية والتعصب الأيديولوجي، وعليهم أيضًا توجيه العلماء نحو القيم الإنسانية الحقيقية. أما الشرط الأول لتوجيه الدراسات العلمية نحو هذه الطريق فهو تحرير العقول من التعصب الأيديولوجي والتطرف، وتنقية الأرواح من أدران استهداف مطامع الدنيا ومغانمها، وهذا هو الشرط الأول أيضًا لضمان حرية الفكر الحقيقية وتقديم العلم الحقيقي”[10].

تسعى حركة كولن إلى التكامل والاندماج بالعالم الحديث من خلال التوفيق بين القيم العصرية والقيم التقليدية.

فاعلية منظور كولن

قد يسأل المتشككون: “لكن هل هذه النصيحة مؤثرة حقًّا؟ وهل تُجدي؟ وهل تشكل فردًا عصريًّا يتمتع بشخصية وأخلاق حميدة، ويعمل بنشاط لتغيير المجتمع وصنع عالم أفضل؟ يشير العالِمَان التركيان: “بولَند أراس” و”عُمر جاها”:

تسعى حركة كولن إلى التكامل والاندماج بالعالم الحديث من خلال التوفيق بين القيم العصرية والقيم التقليدية. وهذه المحاولة التركيبية لتلك الأفكار تتشابه مع جهودِ آخِر المفكرين القوميين في الدولة العثمانية. فقد أكد “ضياء كوك آلب” -على سبيل المثال- على ضرورة إبداع تركيبة فكرية تنبني على أساس جمع العناصر المأخوذة من الثقافة التركية مع تلك المأخوذة من العلم والتكنولوجيا الغربيَّين، غير أن كولن و تلاميذه يتقدمون على ذلك بخطوة حيث يقبلون الحضارة الغربية كأرضية مناسبة لبناء حياة مادية، بينما يعتبرون الحضارة الإسلامية مناسبة للحياة الروحية. وينبغي الإشارة إلى أنه بسبب البنية المحافِظة للحركة فإنها تخاطب هؤلاء الذين يرون أن النظام السياسي التركي يؤكد على العلمانية والتحديث بشكل مبالغ فيه[11].

ووفقًا لتقييم “أراس” و”جاها” نجحت حركة كولن من حيث التوفيق بين تلك العناصر المتنافرة في السابق؛ حيث يقولان: “إن الخاصية الفريدة في حركة كولن هي محاولتها إحياء القيم التقليدية كجزء من جهود التحديث في برنامج التحديث الرسمي لدولة تركيا، وقد استطاعت الحركة حتى الآن تحقيق بعض النجاح من حيث إنها تحاول التوفيق بين تراث مئات السنين ومتطلبات الحداثة، وهذه ليست مهمة سهلة”[12].

يمكن تعريف حركة كولن بأنها سعيٌ واعٍ أو حركة واعية ومتسامحة مع الآخرين، ويستشهد “حسن هوركوج” في هذا السياق بنصيحة كولن التالية:

“ينبغي أن يكون هناك تسامح شامل بحيث نستطيع أن نضرب صفحًا عن أخطاء الآخرين، ونحترم الأفكار المختلفة، ونعفو عن كل ما يمكن أن يعفَى عنه، بل إنه حتى لو انتُهكت حقوقنا الفطرية ينبغي أن نحترم القيم الإنسانية ونحاول إقامة العدل، ونصبر صبر الأنبياء ولا نغضب حتى في مواجهة الأفكار الأكثر فظاظةً ووقاحةً؛ إذ ينبغي أن نرد باعتدال ولين كما عبر عنه القرآن بعبارة “قولًا لينًا[13].

إن إحدى الأفكار الرئيسة لتلاميذ كولن هي أن القيم الأخلاقية لا تُنقل صراحة من خلال الإقناع والدروس، وإنما من خلال تقديم الأمثلة الجيدة في السلوك اليومي.

ونستطيع أيضًا أن نجد تجسيد هذه المثُل التي عبر عنها كولن في الإعلان عن رسالة وقف الصحفيين والكتاب، -وهي منظمة شكَّلها بعض رفقاء فتح الله كولن من أجل تعزيز الحوار والتعاون بين فئات المجتمع- يقول هذا الإعلان (في جزء منه):

“إن العالم الحديث سوف يتشكل من قِبل أنظمة واتجاهات تُجِل القيم العالمية وتعتبر التراحم والتسامح والتفاهم والوحدة هي الأساسيات… وتفضِّل التغلب على جميع العداءات والكراهية والغضب بالصداقة والتسامح والتصالح، وتأخذ على عاتقها مهمة إنقاذ الثقافة والمعرفة لمصلحة الإنسانية، وتستطيع إنشاء توازن بين الفرد والمجتمع دون التضحية بواحد منهما في سبيل الآخر، وتملك رؤية عظيمة، ولا تسقط في فخ “المدن الفاضلة” واضعةً الحقائقَ جانبًا، وتؤمن بميزة الاحتفاظ بالعوامل المحدِّدة، مثل الدين واللغة والعِرق، حُرة وخالية من أي ضغط قسري”[14].

أما الأماكن الواضحة التي يمكن البحث فيها عن نتائج فكر كولن فهي المدارس التي أنشأتها الحركة وارتبطت باسمه، وقد قمت بإيضاحِ فلسفةِ هذه المدارس وإنجازاتها في أماكن أخرى[15]، ولا حاجة إذًا في التكرار، غير أن الملاحظة المعبرة لـ”إليزابيث أوزدالجا” توضح أن “مدارس الخدمة” ليس من شأنها تجميع المؤيدين أو التأثير على العقول، بل إنها تعتني بـ”تدريس القيم من خلال المثال”. تقول إليزابيث:

“إن الهدف الرئيس للتعليم الذي تقدمه هذه المدارس هو منح الطلاب تعليمًا جيدًا دون تلقين أيّ توجيه أيديولوجي معين، كما أن إحدى الأفكار الرئيسة لتلاميذ كولن هي أن القيم الأخلاقية لا تُنقل صراحة من خلال الإقناع والدروس، وإنما من خلال تقديم الأمثلة الجيدة في السلوك اليومي”[16].

إن مدارس الخدمة هي الدليل الأكثر فاعلية على صحة جهود كولن للتوفيق بين الحداثة والقيم الروحية، فهي إحدى الجهود التعليمية الرائعة الواعدة في العالم في وقتنا الراهن.

شهادة للتاريخ

وسأختم هنا بشهادة شخصية: إنني لست عضوا في “حركة كولن” ولا حتى مسلمًا، ولكن أتيحت لي الفرصة لزيارة العديد من تلك المدارس في عدد من الدول ومقابلة فريق العمل الإداري الخاص بالتدريس، كما التقيت بطلاب مسلمين وغير مسلمين، وبآبائهم، والتقيت بمعلمين غير مسلمين في هذه الأماكن. وعندما أقرأ المثُل التي يعبر عنها كولن في كتاباته أجدها تُطبق بشكل مؤثر في حياة الأشخاص المنتمين إلى الحركة، وهم أناس عصريون ومطلعون بشكل جيد على العلوم الدنيوية، لكن لديهم اهتمامًا حقيقيًّا بالقيم الروحية والإنسانية، وهي نفس القيم التي يسعون إلى نقلها للطلاب من خلال سلوكهم الشخصي، وهم يقدمون تعليمًا ممتازًا يجمع بين أحدث التكنولوجيات المتقدمة وبين تشكيل الشخصية والمثل العليا. إن مدارس الخدمة -في رأيي- هي الدليل الأكثر فاعلية على صحة جهود كولن للتوفيق بين الحداثة والقيم الروحية، فهي إحدى الجهود التعليمية الرائعة الواعدة في العالم في وقتنا الراهن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]       نيلوفر كوله، “جولة الأفق (Ufuk Turu)”، إسطنبول، 1996م.

[2]       المصدر السابق.

[3]       فتح الله كولن: “نحو الفردوس المفقود”، “الحضارة أو التباس المصطلح” ص. 70.

[4]       المصدر السابق، ص. 69.

[5]       المصدر السابق، ص. 67-68.

[6]       فتح الله كولن: “في ظلال الإيمان”، ص. 309، بـ[اللغة التركية].

[7]       “العلاقة بين الإسلام والعلم ومفهوم العلم”، فتح الله كولن، ذي فاونتين، عدد أكتوبر-ديسمبر 1999م.

http://www.fountainmagazine.com/Issue/detail/The-Relationship-Of-Islam-And-Science-And-The-Concept-Of-Science

[8]       أحمد كورو، “البحث عن طريق وسط بين الحداثة والتقاليد: حالة فتح الله كولن”، استشهد بها في كتاب لـ”م. هاكان يافوز وجون ل. إسبوزيتو” (محررون) بعنوان “التطبيق التركي للإسلام والدولة العلمانية: حركة كولن” ص. 117. أخذ كورو استشهاده من كتاب لـ”كولن” بعنوان “النبي محمد: النور الخالد”، لندن: تروستار، 1995م، ص. 200-201.

[9]       فتح الله كولن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، “التصوف من حيث المنشأ”، ص. 18.

[10]      فتح الله كولن: “العصر والجيل-6 (أفكار في ضور الاخضرار)”، “مفهوم العلم”، ص. 185، (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية].

[11]      بولَنْد أراس وعمر جاها: “فتح الله كولن وحركته المعروفة بـ”التطبيق التركي للإسلام”، مجلة الشرق الأوسط للعلاقات الدولية، المجلد 4، رقم 4 (ديسمبر 2000م).

[12]      المصدر السابق.

[13]      حسن هوركوج: “الخطابات الإسلامية الحديثة حول التعددية في عصر ما بعد الحداثة: النورسي عن التعددية الدينية والتسامح”، الجريدة الأمريكية للعلوم الإسلامية الاجتماعية، ربيع عام 2002م، 19 (2)، حاشية سفلية رقم 62. انظر: فتح الله كولن: “العصر والجيل-6 (أفكار في ضور الاخضرار)”، “التسامح”، ص. 29-30، (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية].

[14]      استشهد به في مقال كتبه مجاهد بيليجي بعنوان “السياق والهوية والسياسة التمثيلية لحركة فتح الله كولن في تركيا”، و تم عرضه خلال مؤتمر “الحداثة الإسلامية: فتح الله كولن والإسلام المعاصر”، جامعة جورج تاون، 26-27 أبريل 2001م، مقال لم ينشر، ص. 1.

[15]    توماس ميتشل: “فتح الله كولن المربي”، ص. 1-6.

[16]      “مقاولون أصحاب رسالة: الإسلاميون الأتراك يبنون مدارس بطول طريق سيلك روود” إليزابيث أوزدالجا، مقال لم ينشر تم عرضه في المؤتمر السنوي لرابطة أمريكا الشمالية لدراسات الشرق الأوسط بواشنطن، 19-22 نوفمبر 1999م.

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر كولن، كتاب مشترك، ص: ٤٨-٦٢، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤، الطبعة الأولى، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال وعناوينه الجانبية من تصرف المحرر.