يتعلم تلامذة “مدارس الخدمة” المنتشرة في العديد من أقطار العالم، والمعتمدة أفكارَ الأستاذ “فتح الله كولن” في التربية والتعليم.. يتعلم هؤلاء التلاميذ أولَ ما يتعلمون أنَّ للكون عقلاً، وأنَّ لهذا العقل أفكارًا، وأنه يومض بهذه الأفكار ومضات متتالية، ويبرق بروقًا دائمات، ويومئ إيماءات، ويُشَفِّر شفرات، فتتلقفها العقول البشرية الذكية وتنكبُّ على حَلِّ رموزها وفكِّ أسرارها، والتعرُّف على معانيها ومقاصدها.. فتتعلم منها وتأخذ عنها، وتستولد منها الأفكار، وتنشئ العلوم وتقيم المدنيات والحضارات.
فكل الحضارات التي نشأت فوق هذه الأرض إنما هي نتاج تفاعل جدلي بين عقل الإنسان وعقل الكون، فنبضات هذا العقل تخترق أقطار النفس البشرية وأغوارها الروحية، وكأنه يدعونا ليطلعنا على صور متتابعة لا ينقطع تتابعها من قوة الله تعالى وعظمته وأسراره في خلقه.
يتعلم تلامذة مدارس الخدمة أنَّ للكون عقلاً، وأنَّ لهذا العقل أفكارًا، وأنه يومض بهذه الأفكار ومضات متتالية، ويُشَفِّر شفرات فتتلقفها العقول البشرية الذكية وتنكبُّ على حَلِّ رموزها وفكِّ أسرارها والتعرُّف على معانيها ومقاصدها.
فمن أهم مهام هذه المدارس الفريدة في نوعها، بناء جسور فكرية دائمة بين عقل التلميذ وعقل الكون، من خلال ما يتلقاه من مختلف العلوم ذات الجذور الكونية الطبيعية، وهي تنشئ في التلميذ بصيرة نافذة وعقلاً بحثيًّا استقرائيًّا واسع الإدراك، شمولي الاستيعاب، ليكون في وسعه فتح أغلاق الخزائن في الكون والطبيعة والإنسان، والولوج إلى أسرار دفائنها ودخائل تراكيبها وبواطن أبنيتها.
فكما تنشئ هذه المدارس في تلامذتها عقولاً كونية، غير أنها في الوقت نفسه تعمل على تعريف التلميذ على ما يحتويه من قوى نائمة تشكل الجانب الأعظم من قواه الفكرية والنفسية، فتعمل على إيقاظها وتفعيلها واستخدامها مع قواه الظاهرة في بناء مستقبله الثقافي والفكري. فقد بقينا زمنًا طويلاً نعاني من تسلط العقول الكبيرة على ما في عقولنا من ضعف وخلل، ومن هنا كان بناء العقول الكبيرة والقوية من أولويات هذه المدارس، بحيث تمنع أي تسلط يقع عليها أيًّا كان.
ومما يحمد لهذه المدارس، سعيها إلى دحض ما ترسب في قرارة تلامذتنا من شعور بالنقص والدونية إزاء الإمكانات العقلية التي يمتلكها تلامذة الغرب، وهو وهْمٌ تحاول هذه المدارس إبطاله.
فالعقل البشري -كما ترى هذه المدارس- مُصَمَّمٌ من قبل الخالق جل شأنه، لاستقبال الإشارات الماورائية الحافزة للبحث عن حقائق الأشياء وسبر أغوار الظواهر الوجودية وإمعان النظر فيها. الأمر الذي ينتهي في التلميذ إلى بناء بصيرة نافذة وعقل بحثي استقرائي واسع الإدراك، شمولي الاستيعاب، ليمارس هذه الاستعدادات الذهنية في أبحاثه العلمية والفكرية في مغاليق الكون والطبيعة والإنسان.
فتلميذ هذه المدارس سيلمس وهو يرتقي من صَفٍّ إلى صفٍّ فوقه، أن العقل الذي في رأسه له من الأبعاد والفضاءات مثل أبعاد الكون وفضاءاته. وأنه بقدر امتداد عقله في الأشياء تتكشف له هذه الأبعاد والفضاءات أطباقًا من فوق أطباق، فلا يدري ومن حقه أن يتساءل: هل الكون خُلِق على مثال العقل، أم العقل خلق على مثال الكون؟! أو أنهما ينبوعان عظيمان تتدفق منهما الأشياء وإليهما تعود؟!
وإن مما يلفت النظر ويثير العجب في خريج هذه المدارس، هو هذا التوافق والتواؤم بين ما يمتلكه من روحية عالية مرهفة، وعلمية آفاقية جامعة. فنحن هنا بإزاء روحية علمية، أو إن شئت قلتَ علمية روحية، وهذا النموذج من خريجي هذه المدارس يوجِّه صفعة قوية لمَنْ يرى أن “الروح” و”العلم” نقيضان لا يلتقيان ولا يجتمعان في إهاب إنسان.
وإن مما يلفت النظر ويثير العجب في خريج مدارس الخدمة، هو هذا التوافق والتواؤم بين ما يمتلكه من روحية عالية مرهفة، وعلمية آفاقية جامعة.
فالروحية العلمية، أو العلمية الروحية، تتجسَّم أحسنَ ما تتجسم في تلامذة “مدراس الخدمة” كما يؤكد ذلك جَمٌّ غفير مِمَّنْ شاهد عن قرب هؤلاء التلاميذ في مدارسهم أو بيوتهم أو في أماكن أعمالهم.
وهذه “الروحية العلمية” هي أُسُّ أساس فلسفة “كولن” في التربية والتعليم. وهي المقصد الأساس من إنشاء هذه المدارس. فخريج هذه المدارس كبير الثقة بنفسه، لا يشكو من كآبة الانفصام عن عصره. فهو في مزاج تفاؤلي دائم بالحياة يجعله يحياها بأبعادها كلها دون أي إحساس بالتخلف عن روح عصره.
إن أسوأ شيء تعاني منه شعوبنا اليوم، هو ضعف شعورها بحقيقة وجودها، أو بالأحرى بأحقية هذا الوجود، فهي موجودة وغير موجودة، حاضرة وغائبة في الوقت نفسه، حتى إننا لم نَرَ جدوى من التفكير في الحفاظ على هذا الوجود الشبحي، ولم نجد دافعًا قويًّا يدفعنا إليه، فتركنا للآخرين مهمة التفكير لنا، وانطوينا على أنفسنا في انكفاء إحباطي نعاني النفي خارج دائرة العقل.
وقالوا لنا: أنتم لا تحسنون التفكير فدعونا نفكر لكم، ففكروا لنا كما يريدون لنا أن نكون، لا كما نريد نحن أن نكون. وأجلسونا على مقاعد التعلم كتلامذة قُصَّر نتلقى منهم الأفكار التي يريدون زرعها في عقولنا، وربطوا هذه العقول بأنظمة تكرس لمزيد من الخمول العقلي والإحباط النفسي.
لقد أرادوا لنا أن نمارس عملية انفصال رهيب عن تاريخنا الروحي، وعطلوا قوانا الإدراكية بالماضي والمستقبل، ومارسوا معنا إرهابًا فكريًّا جعلنا نخاف من وجودنا الأعلى، وجمَّدوا فينا الإحساس بالعقل الجمعي الذي نؤوي إليه في الملمات، وملأوا عقولنا بفراغات هائلة نظل نعوم فيها فلا نصل بعد الجهد الجهيد إلى شيء، وظل الرعب من الفراغ المجهول يقض مضاجعنا، ويقذف بنا على شفا جرف حاد من هاوية الهلاك، فكأن حصيلة هذا كله خيالاً مريضًا تعكسه عقلية متعبة منهوكة تعاني الحيرة والضلال في شعاب العقول.
لقد حملنا جوعنا الروحي وذهبنا في أبعاد الأرض، ورجعنا من هذه الرحلة المشؤومة بمزيد من جوع الروح، وبمزيد من ضلال العقل.
إننا -ونحن نعيش هذه الإحباطات- لنتجه بآمالنا إلى هذه المدارس النورانية، وإلى خريجيها من أصحاب القلوب السماوية والعقول الكونية، ليقودوا سفينة الحياة في هذا الخضمِّ الطامي من الأفكار والمعتقدات، وإننا على ثقة بأنهم سيكونون دائمًا عند حسن الظن، وحسن الأمل والرجاء.