خلق الله تعالى الحواس الخمس في الإنسان وسائلَ للعقل في اكتساب المعرفة واكتشاف العالم من حولنا.. والبصر واحد من هذه الحواس، ننظر به ونقرأ قرائح العقول المسطَّرة فوق القراطيس وقيما تحتويه الكتب والأسفار من كنوز الأفكار.. غير أننا معرّضون إلى فقدان البصر لسبب من الأسباب، فنفقد معه القدرة على القراءة التي هي وسيلتنا إلى مواصلة التعرف على ما يستجد في العالم من أفكار ومعاف وثقافات..

إن أعظم ما نزل من السماء على الأرض كلمة “اقْرَأْ”، فالإنسان مخلوق قارئ، أو مشروع قراءة طوال عمره.. فالقراءة تمثِّل الجزء الأرقى من كيانه الأعلى، ووجوده الأسمى.. وحواسه الخمس تتضافر جهودها من أجل قراءة صحيحة للحياة والكون والوجود. فكل حاسة من هذه الحواس لها قراءاتها الخاصة بها، ومن مجموع قراءاتها كلها تتشكل المعرفة المبصرة بما يحيط به من كائنات وموجودات، فكما يقرأ بعينيه فهو يقرأ كذلك بيديه ورجليه ولسانه وشفتيه وأنفه وأذنيه… وبكل جوارحه ولطائفه الظاهرة منها والخافية. فالمعرفة لا تتأتى للإنسان إلا من خلال قنوات هذه الحواس التي تصبُّ في نهاية المطاف في بوتقة العقل ليصوغها بعد ذلك فكرًا وسلوكًا..

فباستثناء العين المبصرة تبقى “اليد” بصولاتها وجولاتها أكبر وسائل قراءات الإنسان العملية في هذه الدنيا.. فاليد كما تقرأ بالسيف فإنها تقرأ بالقلم كذلك/ فهي باطشة وآسية في الوقت نفسه، ومخرّبة ومعمرة، ومعطية وآخذة.. و”اليد العليا خير من اليد السفلى”..”إِنَّ الَّذينَ يُبَايعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايعونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ”.. “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيدٍ”..و”هات يدك يا محمد أبايعك”.. وفي كفه صلى الله عليه وسلم سبّح الحصى وانقلبت حفنة من تراب إلى قوة أرهبت أعداء الله وأخزتهم، ومن أصابع يده الشريفة انفجر ينبوع ماء، ويده أعادت عينًا مقلوعة إلى مكانها وجه واحد من صحابته.

فهذه هي اليد وتلك هي فعالها.. بانية حضارات، ومشيّدات صروح، ومقيمة مدن ومدنيات.. وتلك هي قراءاتها، وتلك هي مكانتها من مجموعة كيان الإنسان الحسي والمعنوي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر، أديب الدباع، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر،القاهرة، طـ1، 2013م، صـ69/ 70/ 71.

ملحوظه: المقال كما قال الأستاذ أديب الدباغ في مقدمة الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ كولن؛ لأنه من وحي فكره، ولكنه ليس للأستاذ كولن لأنه كتب بغير قلمه، وبغير مفرداته.