إذا كنّا قد بلغنا من سُموّ النفس إلى درجة تحرير أذهاننا من أوهام الكِبْر والاستعلاء عما يقوله القلب، وتؤمن به الروح، فذلك يعني أننا قد وصلنا إلى جوهر “الإيمان” وجاوزنا حدود “الإمكان” إلى حيث “الوجوب”، ومنه إلى “واجب الوجود”، ووصلنا إلى “ما ورائيات” عالم العقل الذي يحدُّ من وجودنا بأسوار من مخترعاته المنطقية وجدران أحكامه التسلطية الفاصلة بين زمانه الآن و”لازمانية المآل والمصير”. وإنه لَمِمّا يحزّ في نفوسنا أن نرى أناسًا يموتون من شدّة ما كانوا يعانون من صراعات ذهنية وجذلية بين “النسبي الإنساني” و”المطلق الإلهي”. هذه الصراعات التي امتصّتْ ماء الحياة من أرواحهم فأوردتهم موارد الهلاك. فماتوا وهم سجناء نسبيّاتهم ومحدودياتهم في حياتَيهم المعيشية والفكرية على حدٍّ سواء.

ما أفقر الإنسان وأعجزه وأضعفه إن لم يكن له من الله تعالى عونٌ وسندٌ وتسديد ومددٌ.

والعمل الكفاحي الاستمراري في سبيل الارتقاء الإيماني على سلَّم الوجود والذي ينبغي أن لا يتوقّف إلا بتوقف الحياة نفسها، لا بد له من إمدادات قوية وفيوضات ربّانية تعينه على مواصلة سيره الكفاحي، والتغلّب على مشاق الطريق وحواجزها. واستدعاء هذه الإمدادات والفيوضات تتأنّى للإنسان عن طريق الدعاء والتضرّع الذي هو مخّ العبادات كما جاء ذلك في الحديث الشريف “الدعاء مخ العبادة”.

والمسلم في طريقه الارتقائي قد يلاقي في تصعيده فراغاتٍ زمانية وثغرات مكانية يمكن أن يتسلّل منها إلى نفسه شيء من الملَل والفتور، فتتهدّل أوتار القلب، وترتخي أعصاب الروح، فيُسْلمُه ذلك إلى الكسل الذي يفضي بدوره إلى فقدان حرارة الإيمان وقوة حركيته، فعندئذ يلجأ المسلم إلى الدعاء والتضرع راجيًا من الرحمن الرحيم أن لا يكِلَه إلى نفسه طرفة عين، وأن يَكْلأه كلاءَة الوليد، ويحفظه من السقوط إلى المكان الذي بدأ منه تصعيده الارتقائي الأول…فما أفقر الإنسان وأعجزه وأضعفه إن لم يكن له من الله تعالى عونٌ وسندٌ وتسديد ومددٌ.

إنه لَمِمّا يحزّ في نفوسنا أن نرى أناسًا يموتون من شدّة ما كانوا يعانون من صراعات ذهنية وجذلية بين “النسبي الإنساني” و”المطلق الإلهي”.

فالمسلم يرتعد خوفًا من أن يُطرد إلى خارج عالمه الإيماني الذي يُعَرِّضه لنوبات متلاحقة من الإخفاقات والانتكاسات والنكوص على الأعقاب. وقد يسقط سقطة مُريعة لا يجد من نفسه القدرة على القيام منها من دون أن تدركه عناية الله ورحمته فتنتشلُه من هوّة هذه السقطة إلى خارجها ليستأنف مسيرته الإيمانية من جديد.

المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر، طـ1، 2013م، صـ98/ 99/ 100.

ملحوظه: المقال كما قال الأستاذ أديب الدباغ في مقدمة الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ كولن؛ لأنه من وحي فكره، ولكنه ليس للأستاذ كولن لأنه كتب بغير قلمه، وبغير مفرداته.

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts