على الرغم من مرور أكثر من عام على المحاولة الانقلابية الغاشمة التي شهدتها تركيا في الخامس عشر من يوليو/ تموز عام 2016، إلا أن الجدل المثار حولها ونتائجها وتداعياتها على الحاضر والمستقبل لا يزال مستمرا.
وعلى الرغم من اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدرم منذ الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية حركة الخدمة بتدبير المحاولة الانقلابية، غير أن الأستاذ فتح الله كولن كذّب كل هذه الادعاءات في التصريحات التي أدلى بها إلى الإعلام الدولي، وطالب بتشكيل لجنة دولية مستقلة للتحقيق في هذه المحاولة، وأكد أن الذين ينتفعون من نتائجها اليوم هم من دبروها.
وفي هذا السياق، أدلى الكاتبان التركيان الشهيران روشين شاكر وعمر تاشبينار المعروفان بموقفهما المخالف لحركة الخدمة عبر قناة يوتيوب بتصريحات مهمة، وساقا تعليقات مثيرة على التداعيات الراهنة والمستقبلية للمحاولة الانقلابية وموقف الخدمة منها.
ومع أن هدف الحوار هو الهجوم على حركة الخدمة، والشكوى من الأداء الهزيل للرئيس أردوغان والحكومة في مساعيهما الرامية إلى القضاء على حركة الخدمة، وتقديم وصفة وخطة ناجحة في ظنهما لمكافحة الحركة عقب فشل الجهود السابقة في هذا الصدد وتحقيق نتائج عكسية، ألا أنه يتضمن حقائق تنطوي على أهمية كبيرة نظراً لأنها تصدر من خصوم الخدمة، ولذلك أردنا أن نقدم لمتابعي “زمان التركية” الناطقة بالعربية أبرز ما ورد فيه.
وندرج أهم ما ورد في هذا الحوار كما يلي:
روشين شاكر: أجرى كولن مقابلة مهمة للغاية مع وسائل إعلام أمريكية وغربية مرموقة، منها إذاعة أمريكية رسمية، في الذكرى السنوية للمحاولة الانقلابية. وهذا يعتبر نجاحًا بارزًا وأمرًا إيجابيًّا بالنسبة لكولن وفشلاً وأمرا سلبيًّا بالنسبة لأنقرة وتركيا، أليس كذلك؟
عمر تاشبينار: بالتأكيد، ورأينا هذا أيضًا في المقال الذي نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” في اليوم الذي وصل فيه أردوغان إلى واشنطن، فبينما تعجز القنصلية التركية في واشنطن ووزارة الخارجية التركية ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية عن نشر مقال واحد في هذه الصحيفة أو وسائل إعلام أخرى، رغم إتيانها بكل واردة وشاردة في هذا الصدد، نجد أن كولن يتمكن بكل سهولة من الظهور في صحيفة نيويورك تايمز وواشنطن بوست و البرامج التلفزيونية والإذاعية المرموقة.
روشين شاكر: حسنًا، ما سبب ذلك؟
عمر تاشبينار: لهذا الأمر أسباب عديدة، لكن من الممكن أن ننظر إليه حتى من حيث المهنة الصحفية، لأن الإعلام يرى تسليط الأضواء على غولن جديرًا بالاهتمام. إذ تستند كل الاعتقالات الموسعة التي تجريها الحكومة التركية اليوم في نهاية المطاف إلى “جريمة الانتماء إلى حركة الخدمة” التي تصنفها “تنظيمًا إرهابيًّا”، إلا أن هذه الحركة سواء وصفتها بـ”الحركة الدينية” أو “الحركة الاجتماعية”، تثير فضول الجميع نظرًا لأن قائدها (الروحي) يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية. وبوجه عام، لا يعلم الناس والأمريكيون من هو ذلك الشخص، ولماذا يقيم في الولايات المتحدة، وماذا فعل إلى يومنا هذا، ولماذا تكرهه تركيا إلى هذا الحد؟ حتى لو تمّ النظر إلى الموضوع من جهة الصحافة فقط، فإن هذه الأمور تشكل أهمية كبيرة حتى للمواطن الأمريكي العادي المهتم بالشأن التركي ناهيك عن الإعلاميين.
يعرف الجميع من هو أردوغان، فأخباره تملأ الصحف منذ 15 عاما، أما حركة الخدمة فلا تزال مبهمة ومجهولة من عدة جوانب. سأضرب مثالاً على هذا من واشنطن، حيث تشهد عديدًا من الاجتماعات بشأن المحاولة الانقلابية، تنظمها خلايا التفكير أو بيوت الخبرة (Think Tank). وغالبية المشاركين فيها يتساءلون عن ماهية حركة الخدمة، ومنبعها، ومصدرها، وسبب تحالفها مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في مرحلة زمنية معينة، ومن ثم الانفصال عنه. ومع أن الحكومة التركية تصف هذه الحركة بـ”التنظيم الإرهابي”، إلا أن الناس هنا يرون أنه لكي يمكن وصف أي حركة بـ”الإرهابية” لا بد أن تكون قبل كل شيء متطرفة ومتشددة، هكذا يفكرون. لكن حركة كولن عُرِفت منذ سنوات بأنها حركة معتدلة. حتى يمكن القول إنها عرفت بأنها أكثر حركة معتدلة ومنفتحة على التعليم في العالم الإسلامي.
ولذلك فإن تصنيف الحكومة التركية فجأة حركةً لم يُكشف حتى عن تطرّفها كما ينبغي، “تنظيمًا إرهابيًّا”، وتشبيهَها بـ”تنظيم القاعدة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية”، تسبب في تشويش وارتباك عقول الكثيرين، وهو الأمر الذي يسوّغ للناس في أمريكا والغرب عامة منح غولن حق الرد على الاتهامات الموجهة إليه والدفاع عن نفسه.
روشين شاكر: من الممكن فهم فتح الإعلام الأمريكي (والأوروبي) أبوابه لكولن حتى حدوث الانقلاب الفاشل، لكن أليس من المطلوب أن يقف ضد الانقلاب نظرًا لأن هذا الإعلام معروف بمواقفه الديمقراطية والمعارضة للانقلابات، ألم يقتنع الإعلام الأمريكي والأوروبي بوقوف كولن وراء هذا الانقلاب؟
عمر تاشبينار: هذا هو مربط الفرس.. فعقب الانقلاب ركز العالم بأسره على ممارسات الحكومة التركية بعد إفشاله. حيث ركز العالم على اعتقال السلطات عشرات الآلاف من الناس في اليوم التالي للانقلاب بتهمة انتمائهم إلى حركة الخدمة، واتهام الحركة بالوقوف وراء هذا الانقلاب. أي أن الحكومة كانت متأكدة من تدبير حركة الخدمة للمحاولة الانقلابية، ولم تدرك تمامًا التساؤلات التي تشكّلت في الأذهان. وبعد الانقلاب حدث انقطاع بين تركيا والغرب، إذ تأخرت إدانة الولايات المتحدة للمحاولة الانقلابية، ولم تتصاعد أصوات استنكارية قوية من الاتحاد الأوروبي، مع أنها كانت أكثر قوة مقارنة بالولايات المتحدة.
والواقع أنه كان في ذهن أردوغان نية سابقة، وتخطيط جاهز، وكان يريد أن ينفذه ضد هذه الحركة (خاصة بعد اتهامه إياها بالوقوف وراء تحقيقات الفساد والرشوة التاريخية أيضًا). وإذا نظرتُ للمسألة من هذه الناحية، فإني أرى أن الغرب يميل إلى أن ما حدث في 15 تموز كان انقلابًا مدبرًا. أي أن مصطلح “الانقلاب المدبر” أو “الانقلاب تحت السيطرة” الذي استخدمه حزب الشعب الجمهوري يلقى قبولاً عامًّا ورواجًا كبيرًا لدى الغرب. بمعنى أنهم يفكرون أنه من الممكن أن يكون أردوغان أو حزب العدالة والتنمية على علم مسبق بأمر الانقلاب.
انطلاق حركة تصفية كبيرة في اليوم التالي للمحاولة الانقلابية، وعدم اقتصارها على حركة الخدمة فقط، – هذه نقطة مهمة يجب التركيز عليها – بل وحبس العديد من الأشخاص الذين لا علاقة لهم بحركة الخدمة، من صحفيين ليبراليين ومفكرين وأكاديميين وناشطين كان بمثابة تقديم الأكسجين لحركة فتح الله كولن. بل حتى يمكن القول إن ذلك أضفى شرعية عليها، فكلما ازداد استبداد تركيا عقب الانقلاب الفاشل وجدت الحركة مساحة أوسع لها في الإعلام الغربي.
روشين شاكر: كان من الممكن أن يضع الانقلاب الفاشل نهاية لانطباع اعتدالِ وسلميةِ حركة الخدمة، وتسوءَ سمعتها، ويتبينَ أن هذه الحركة “حركة مؤامرات تسعى لاختراق مؤسسات الدولة”، وتتشتّت وتفقد مكانتها وإمكانياتها في أمريكا والدول الأوروبية أيضًا، لكن ذلك لم يحدث، نظرًا لأن السياسة (غير الحكيمة) التي اتبعتها الحكومة التركية في هذا الصدد لم تكن مقنعة ولم تلقَ قبولاً في العالم.
كيف ترى مستقبل الحركة في تركيا والغرب؟
عمر تاشبينار: لهذا الموضوع صلات بالتطورات الداخلية والخارجية. يبدو أنه لم يعد هناك مكان لحركة الخدمة في الداخل التركي، ولذلك أصبحت حركة شتات/مهجر إلى حد ما. قد تجد مكانة لها في الدول الديمقراطية والدول التي لا يوجد بها ثقل لتركيا. فعلى سبيل المثال إمكانية استمرار وجود حركة الخدمة في أفريقيا وآسيا الوسطى ضعيفة؛ إذ تستطيع تركيا إغلاق مدارسها هناك وإنهاء فعالياتها في هذه الدول، لكن حركة الخدمة ستواصل مسيرتها كحركة شتات في أمريكا وكندا وأوروبا والدول الغربية التي تحترم الديمقراطية وسيادة القانون، وكلمة تركيا غير مسموعة فيها. وانطلاقًا من أن هذه الحركة حركة إسلامية في نهاية المطاف، فإن لديها ما يمكنها أن تطرح من أفكار وأطروحات باسم الإسلام. وإذا نظرنا إلى الصراع بين الغرب والإسلام، أو صراع الحضارات الذي بدأ الحديث عنه مجددا بوصول دونالد ترامب إلى الحكم في أمريكا، بصورة مستقلة عن التطورات في الداخل التركي، فإننا نجد أن هناك خطابًا يستهدف الإسلام ويهاجمه من خلال استخدام شعارات الإرهاب الإسلامي والإرهاب المتطرف والإرهاب الجهادي، ويفصل الحضارة الغربية عن الإسلام. على سبيل المثال، الكلمة التي ألقاها ترامب في بولونيا الأسبوع الماضي كانت نموذجًا واضحًا للصراع بين الحضارات.
أجل، اليوم يُطرد داعش من الموصل وغدًا سيطرد من الرقة، لكن من سيحل محله؟ ما الحل البديل؟ فالذين يرون أن المشكلة في الإسلام المتطرف يقولون إن الحل يكمن في داخل الإسلام، ويشيرون إلى ضرورة تبنّي “الإسلام المعتدل”. وإذا ألقينا نظرة على العالم الإسلامي في ضوء هذه الحقيقة، فإنه يتبين أن أحد أكثر الحركات الإسلامية المعتدلة ظهرت وانطلقت من تركيا واكتسبت بعدًا دوليًّا.
بالإضافة إلى أن سِجِلّ هذه الحركة نظيف للغاية في الغرب، بغضّ النظر عمّا أقدمت عليه في تركيا، لأن الغرب مثلما ذكرتُ سالفًا ليس مقتنعًا بـ”تطرّف” الحركة، ناهيكم عن الاقتناع بإرهابيتها. فعند ذكر مصطلح الإرهابيين والمتطرفين ترد على الذهن الغربي الجماعات الجهادية، في حين أن سجل وفعاليات هذه الحركة يثبت أنها ليست واحدة من هذه الجماعات بحسب النظرة السائدة في الغرب.
الحكومة التركية تطالب العالم بأن يصف حركة الخدمة بـ”بالإرهابية” من خلال ربطها بمحاولة الانقلاب. لكن هناك كثير من المثقّفين المعروفين بثقلهم، حتى في الداخل التركي، يتجنّبون استخدام عبارة “منظمة فتح الله كولن…”، ذلك لأنهم لا يستطيعون التأليف والجمع بين هذه الحركة والتطرف والإرهاب. هؤلاء رغم أنهم يَقبلون بوجود الحركة في أجهزة الدولة والجيش، إلا أنهم لا يستطيعون وضعها في السلة نفسها مع تنظيمات داعش والقاعدة وحزب العمال الكردستاني الإرهابية. فلذلك يتردد هؤلاء المثقفون والغربيون في قبول إلصاق وصف “الإرهاب” بالحركة. وأردوغان هو من يلعب أكبر دور في تشكّل هذا الانطباع لدى الغربيين بسبب النهج الذي يدير به تركيا. فكما بيّنتُ سالفًا فإن اتجاه الحكومة في تركيا استبدادي للغاية، ويسعى للانفصال عن الغرب تمامًا، ويبتعد يومًا بعد يوم من أجواء الحرية التي تمكّن الجميع من التعبير عن آرائهم مثلما في الغرب.. وهذا الاتجاه أو النهج يقود الناس عامة والغربيين خاصة إلى التفكير والقول بضرورة إعطاء حق الحديث والدفاع عن النفس لحركة الخدمة. ولذلك فإني أعتقد أن سمعة حركة فتح الله كولن ازدادت وذاع صيتها أكثر من السابق.
روشين شاكر: ما أفهمه من كلامك هو أن حركة الخدمة مرشحة لملء الفراغ الذي يشعر به الغرب وسدِّ حاجته إلى “إسلام معتدل”. إذن ألا يعني ذلك فشل كل دعايات السلطة السياسية التركية ضد الحركة؟
عمر تاشبينار: لما كانت الحركة تتحرك سويًّا مع الرئيس أردوغان، أي عندما كانا حليفين، كانت تركيا تشكِّل دولة نموذجية، وكان الجميع يتحدثون عن “النموذج التركي”، وكانت تركيا قادرة على طرح أطروحات وأفكار للعالم في مجال الإسلام والديمقراطية والعلمانية. لكن تركيا الحالية، أي حكومة حزب العدالة والتنمية بمعزل عن حركة غولن، لم تعد تملك مشروعًا أو فكرًا يُذكر يمكنها أن تقدمها للمنطقة والعالم في مجال الإسلام والديمقراطية والعلمانية. بل لم تعد تركيا تُذكر باعتبارها “نموذجًا”. غير أن العالم يَعتبر أن حركة كولن هي ضحية الاتجاه الاستبدادي في تركيا. هذا الأمر مهم للغاية، إذ إن هذا الاتجاه القمعي يقدم مجالا وفسحة لاستمرار وجود الحركة وحياتها.
أردوغان أو حزب العدالة والتنمية يعاني من مشكلة كبيرة جدًا في القدرات الإقناعية، فهم يصنفون حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا ويتعاملون معها باعتبارها تنظيمًا إرهابيًّا. حسنًا، تقول تركيا لأمريكا: “بما أننا نسلِّمكم أعضاء تنظيم القاعدة فورًا عند القبض عليهم، فكذلك يجب عليكم أن تسلِّمونا أعضاء منظمة فتح الله كولن…”، أي إنهم يَعتبرون حركة غولن مثل تنظيم القاعدة. وهنا يرتبك ويتشوّش ذهن الأمريكيين، ذلك لأن الرؤساء الأمريكيين ليس لهم أي صورة مشتركة أو ماضٍ مشترك مع تنظيم القاعدة، ولم تعمل الإدارات الأمريكية سويًّا مع القاعدة سنوات مديدة، غير أن القاصي والداني يعلم جيدًا مدى العلاقة العضوية التي كانت بين أردوغان وهذه الحركة واستمرت سنوات طويلة، إلى أن بدأ يصفها منذ 3 أو 4 سنوات بـ”المنظمة الإرهابية”، وكيف كان يتعاون الطرفان في تصفية ما سمياه “الوصاية العسكرية في تركيا”. وهذا يقودنا إلى حقيقة أن أردوغان يعاني فعلاً من مشكلة في الإقناع، فضلاً عن الدور السلبي الذي يلعبه أسلوبه القمعي والاستبدادي في الإدارة، وقيام هذه الحركة بالدعاية أن غولن غادر من تركيا إلى أمريكا بسبب الضغوطات العسكرية في 1997 (حيث شهدت تركيا انقلابًا ناعمًا).
أجل أردوغان يعاني فعلاً من مشكلة في الإقناع، وهذا الأمر ظهر بصورة أوضح في الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016، فالحكومة التركية تردد دومًا “إنهم عملوا الانقلاب” “إنهم إرهابيون” بينما يردّ الغرب “لماذا هذا الاتجاه للنهج الاستبدادي؟ لماذا يتم اعتقال الصحفيين والأكاديميين؟ لماذا تنفصل تركيا عن الغرب؟ بمعنى أن الغربيين يركزون على ممارسات ما بعد الانقلاب والانتهاكات وضحاياها بدلاً من ادعاءات الحكومة.
كتب: ياوز أجار
المصدر: موقع جريدة زمان التركية