كان والد فتح الله كولن “رامز أفندي” نموذجًا لرب الأسرة الصالح، وكان ذا همةٍ عاليةٍ؛ فمع أن هجرة الأسرة وما فيها من عقبات حالت بين رامز أفندي والاستمرار في طلب العلم، إلا أنه حالما استقرّت الأوضاع سارع إلى مكابدة حفظ القرآن الكريم والتفرغ لطلب العلم جنبًا إلى جنب مع ابنِه فتح الله! ولم يجد في ذلك أي غضاضة! وأتمّ حفظ القرآن وهو في الثلاثين من عمره على يد العالم الجليل “خليل أفندي” الذي لم يفارق مجلسه قط، حتى عندما غادر إلى قرية “مصلحت” تبعه السيد “رامز” ورحل معه بمفرده، ولم يكن فتح الله آنذاك قد تجاوز الخامسة من عمره، أما الوالد فقد درس خلال غيبته اللغتين العربية والفارسية، واستزاد من علمه كثيرًا، حتى إذا عاد إلى قريته تفرّغ لدراسة علم التجويد والقراءات على يد الشيخ “سليمان أفندي”، ثم أقبل على تحصيل العلوم بِنَهَمٍ بالغ حتى صار في بضع سنوات يُنسب إلى أهل العلم والعلماء في بلده، ثم رحل بأسرته إلى الصغيرة إلى “أَلْوَارْ”. وهي قرية صغيرة من قُرى “أرْضرُوم” لا تبتعد عن “قوروجق” إلا ببضع كيلو مترات، حيث تمّ تعيينه إمامًا لأحد مساجدها.
وعن سَمْته وعلاقته بربّه يُحدثنا الأستاذ فتح الله كولن قائلًا: “كان أبي دقيقًا في حياته، الصلاة هي جلُّ ما يشغله، بكَّاءً، وقته ثمين، إذا رجع من الحقل يتناول كتابًا قبل أن يخلع نعليه فيقرؤه ريثما يحضر الطعام. للقراءة عنده متعة خاصة، لِسانُه رَطْبٌ دائمًا إما بالقرآن الكريم وإما بتكرار ما حفظه من شِعْرٍ عربي أو فارسيّ، أنا لا أتذكر أنني حَفِظْتُ قصيدة البُرْدَة بنفسي، ولكنّي حفظتُها من كثرة تكرار والدي لها، وكذا الأمر في الشعر الفارسي الذي كان أبي يسْرُدُه في وعظه، كان يملأ وقته كله بالعمل الصالح الزاكي، ولا يعرف الفراغ، وله فضل عنايةٍ بالتفكّر.
وعن وَرَعِ والده يقول فتح الله كولن: “كان مدرسةً في الورع، كان إذا عاد بالبَقَر من الحقل يُلجمه لئلا يأكل من عُشب الحقول ولو قليلا”، ويحكي عن رِقَّة قلبه أن: “جسده كان يرتعش كلما سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذُكِرَ اسم صحابيٍّ أمامه، وتهطُل عيناه بالدموع، فهذا مثلي الأعلى الذي تربيت في حجره، إنه غمامة من الإيمان والأحاسيس والمشاعر تتهاطل علىّ دائمًا فتشفي كل أجزاء نفسي.
ويتبين مما ذكره الأستاذ كولن عن والده كيف كانت هِمَّته عالية في طلب العلم، وحفظ القرآن الكريم حتى في أحلك الظروف وأشدِّها قساوة، فخلال السنوات العجاف التي ضُرِب فيها المنع والحصار على تعليم القرآن الكريم:
“حفر السيد رامز أفندي في اصطبله نفقًا سرِّيًّا يسلك من نحن الأرض حتى ينفتح على بيت إمام المسجد في الجوار القريب! وخلال هذا النفق السرِّيِّ كان يغبر رامز أفندي وأبنائه إلى غرفة الإمام يتعلمون القرآن الكريم، حتى إذا انتهت الحصة ورجعوا إلى بيتهم عبر النفق كما جاءوا؛ سدَّ رامز مدخله بالقش وروث البهائم.
وعلى طريق العلم نشأت صداقة خاصة بين الفتى ووالده، فكانت علاقة الوالد مع ابنه علاقة زمالة في طلب العلم، ففي الوقت الذي كان يجلس فيه فتح الله لحفظ مقرر اليومي من القرآن، كان الوالد يجلس إلى جانبه ليحفظ درسه من ذلك اليوم، ولذلك فقد كان الفتى يكتسب منه طاقةً وحيويةً لا توصف، وكان يجد لذة في مسابقة والده، محاولا أن يحفظ مقرره قبله.