في الوقت الذي كان الشرق يوظف الحد الأدنى من قدراته الفكرية والثقافية والعقلية والدينية أو لا يوظفها بالمرة. كان الغرب يعمل ليلا ونهارا على استجلاء أسرار الكون وتفسيره وفك ألغازه بغضّ النظر عن طبيعة الخلفية الفكرية، ويعمل كذلك على توظيفها التوظيف المناسب؛ علما بأن هذا الغرب نفسه عندما أعاد النظر في منظومته الوجودية أعادها على أساس ما حققه العقل الإسلامي عبر تاريخه. وقد ظل الشرق العربي في سباته ينتظر الحملة الفرنسية لكي يدرك موقعه في سلّم الحضارة والتقدم.

وقف الأستاذ فتح الله كولن موقفًا وسطًا بين الأخذ من التراث وبين المحافظة على روح العصر. فهو يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد.

وتفرز هذه الملاحظة سؤالا مهما هو “ما العوامل التي أنتجت عصر الأنوار وأنتجت النهضة الأوروبية التي بهرت العقل الشرقي إلى درجة الهوس، فحركت فيه ملكة الحلم باسترجاع الماضي بازدهاره الحضاري والمعرفي والعمراني، تجاوزا للراهن المتدهور؟”. إذ كما حلم البعض بالبعث آمن البعض الآخر بضرورة القطيعة مع الماضي وكل ما يمثله وخاصة الدين، وبناء الحاضر على ما بنت به الأمم المتقدمة في الوقت الراهن حاضرها. لقد جزَّأت هذه المواقف الذات الشرقية إلى نخب متصارعة حول المنهج المناسب لتناول قضية الانبعاث.

الإنسان مصدر المشكلة

“الآخر” بصفة عامة لم يكن مطروحا بالمستوى نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي، فالإشكالات التي أثيرت في تركيا العثمانية التي تعرفت على التقدم العلمي لأوروبا ردحا من الزمن قبل العالم العربي، لم تواز الإشكالات التي طرحت في العالم العربي. لأن التعرف على التقدم العلمي الأوربي مبكرا لم يشفع للدولة العثمانية، ففككت أطرافها ودخل المجتمع في البلبلة الداخلية سياسيا واجتماعيا، انتهت بسقوط الخلافة وانقطاع خيوط الاتصال بين أطراف ما كان يشكل كلا متجانسا، لتتحدد الإشكالية الكبرى في كون مصدر الأزمة هو الإنسان وليس جلب التقنية الحديثة، ولا الانفتاح على ثقافة الغرب وفلسفته. وبالمقابل فإن مصر والشام -على سبيل المثال- قد عاشتا هذه الصدمة بأسلوب مختلف بعد الحملة الفرنسية على وجه الخصوص.

أول من أثار قضية الإصلاح وأسئلة النهضة في العالم العربي بعيدا عن الدين هم المسيحيون، بالنظر إلى كونهم أول من اتصل بثقافة الغرب دون أحكام مسبقة أو عقدة فقدان الهوية.

أول من أثار قضية الإصلاح

كانت رؤية المثقف العربي المسيحي مختلفة كل الاختلاف عن رؤية المثقف المسلم، محافظا كان أم معتدلا أم علمانيا؛ إذ لكل مثقف رؤيته الخاصة التي تناهض أو تعادي الغرب أو تقبل عليه.
لقد انخرط المثقف المسيحي في الدعوة إلى ضرورة تبني جميع قيم الغرب، بل إن المثقف العربي المسيحي والعربي المسيحي عموما كان يعتبر نفسه أقلّية عربية، وكانت الهجرة إلى أوروبا نوعا من العودة إلى الأصل، ومتنفسا مهما بالنسبة له. ولذلك فإن أول من أثار قضية الإصلاح وأسئلة النهضة في العالم العربي بعيدا عن الدين هم المسيحيون، بالنظر إلى كونهم أول من اتصل بثقافة الغرب دون أحكام مسبقة أو عقدة فقدان الهوية. كان المسيحيون العرب هم أول من أدخل بعض مستلزمات النهضة كالطباعة، وهم أول من احترف الصحافة والنشر، وبادر إلى تأسيس نظام تعليمي مسيحي على أسس حديثة تراعي خصوصيات العصر.

بسقوط الخلافة العثمانية تحددت الإشكالية الكبرى في كون مصدر الأزمة هو الإنسان وليس جلب التقنية الحديثة من أوروربا.

العقل الإصلاحي ينشط في ظل الأزمة، بل إن تاريخ الفكر الإنساني منذ القديم وإلى الآن تاريخ بحث عن الأجوبة الوجودية لأزمات الإنسان وواقعه. وتاريخ الفكر الإنساني هو كذلك تبادل للتأثير من جهة كون الفكر الإنساني ملكا للإنسانية كلها يحق للإنسانية أفرادا وجماعات الاستفادة منه وتبني كل أو بعض معطياته.

منهج الإصلاح وكيفيته

رغبة التغيير والإصلاح كانت وما تزال إحساسا يسكن كل مكونات المجتمعات، كما أشرنا سابقا، لكن الإشكال يكمن في المنهج والكيف. ولهذا فإن لكل فترة دعوتها الخاصة للإصلاح، ولكل مجتمع أسلوبه في بلورة أجوبته على أسئلة الواقع، ورؤيته الخاصة لهذا الإصلاح، بل إن طبيعة الأجوبة مرآة تنعكس عليها مختلف التيارات والخلفيات والأفكار والمذاهب التي تصب في النهاية في خانة البحث عن أجوبة لأسئلة الواقع الوجودية.

عندما أعاد الغرب النظر في منظومته الوجودية أعادها على أساس ما حققه العقل الإسلامي عبر تاريخه.

موقف كولن

وأما موقف الأستاذ فتح الله فهو موقف وسط بين الأخذ من التراث وبين المحافظة على روح العصر. فهو يعتبر القديم أساسا متينا، لكن مع ضرورة تطويره بمعطيات الجديد. فالأصل ألا يتم اعتبار العصر والماضي حقبتين أو مرحلتين منفصلتين متنافرتين، إذ يقول: “ونلفت نظرنا إلى خطأ وقعْنا فيه كأمّة دائما، وهو أننا بدلا من جعل القديم أساسا متينا ليقام عليه الجديد، وتطوير القديم بمعطيات الجديد، فصلْناهما في أكثر الأحوال إلى شريحتين ربطناهما بحقيقتين منفصلتين؛ فأحيانا استعدينا بعضهما على بعض، وأحيانا أخرى عارضنا بينهما، فأدينا إلى حصول معضلات في الأسس؛ فإما قلنا: “الجديد يُشَمّ عطرُه ثم يُرمَى في النفايات، والقديم يفوح كالمسك والعنبر كلما رججته يتضوع”، فأفرطنا في “واردات” حقبة من الزمان.. أو قلنا: “نفع في مكتسبات عتيقة لزمان ولى، الخير في العالم الزاهي للجديد”، وأهملنا تماما ذلك الجانب للزمان فأغفلنا مفهوم “الزمان الذاتي”، وتغافلنا عن البعد العالمي الكوني”.

كان المسيحيون العرب هم أول من أدخل بعض مستلزمات النهضة كالطباعة، وهم أول من احترف الصحافة والنشر، وبادر إلى تأسيس نظام تعليمي مسيحي على أسس حديثة تراعي خصوصيات العصر.

وهذه الإشارة في حد ذاتها هي التي تحمل روح الدعوة إلى ضرورة التجديد، بل يذهب إلى حد لزومية إعداد بيئة طيبة لزمان ثقافي جديد، يستطيع تطوير حياتنا الفكرية، بتفسير ثقافتنا تفسيرا معمقا، وتقويمها التقويم الذي تستحقه، لكن مع ضروة النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل باعتباره بوتقة واحدة لا يمكن فصل أجزائها بعضها عن بعض. ولا ينبغي في هذا الإطار أن نفدي قيم الماضي والحاضر والمستقبل بعضها ببعض، وبعبارة أخرى يتوجب عدم جعلها تناقض بعضها بعضًا أو يعادي بعضها بعضا. وتعليل ذلك هو “أن الزمان الثقافي غير مرتبط بفكرة التواجد قبل أو بعد، على خلاف مفهوم الزمان المعروف لدينا. وأرى من الأنسب أن نسميه بـ”فوق الزمان””.
فثقافتنا التي هي عنصر داخل في أصل طبعنا، والذي امتزج مع الروح، ينبغي النظر إليه نظرة متعالية بعيدا عن مقاييس الزمن التي تقتضي وجود بداية ووجود نهاية. ولكي تستطيع هذه الذات التفاعل الأنسب والملائم مع هذه عناصر الثقافية ينبغي أن تكون مستقلة بذاتها، بل إن ديمومتها بذاتها منوطة كذلك باستقلالها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ172/ 173/ 174/ 175.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.