لا يقف فتح الله كولن على الحرية باعتبارها قيمةً ومفهومًا حقوقيًّا واجتماعيًّا معاصرًا فحسب، بل باعتبارها حالةً وقيمةً لها مكانتها المهمَّة في التصوف وفي حياة الإنسان المعنويَّة؛ فالحرية عنده أوَّلًا هي أهمّ خصائص الإنسان، وأبهى جوانبِه التي تُميِّزه عن غيره من المخلوقات الأخرى، وهي التي تسمو بالإنسان فوق وجودِه الحيوانيِّ، وتجعلُه مستقلًّا في مواجهة الطبيعة المتحركة وفقًا لقوانين الأسباب والنتائج، ثم إنَّ السِّمَةَ المميّزة التي تربطه بالموجود المطلَقِ المختار(أي الله تعالى) لا بدَّ وأن يُبحث عنها في كونه موجودًا عقلانيًّا يمتلك الإرادة والمشاهدة الداخلية، وهكذا فإن الحريَّة خاصيَّةٌ من الخصائص التي تجعل من الإنسان إنسانًا؛ أي تُمَثِّلُ تحديدَهُ حركاتِهِ الخاصّة وتعيينَهُ إيَّاها، وامتلاكه عقلًا فعَالًا؛ فيسمو الإنسان في ظلِّ هذا فوق الطبيعة كلِّها بأحيائها وجماداتها، ويتَمَتَّعُ بِحسِّ المحاسبة، ويكتسبُ القدرةَ والملكةَ على التحكُّم في حركاته، ولا يمكن استيضاحُ وجودِ الأخلاق من عَدَمِها دون أن تُوضَعَ الحُرِّيَّة وإرادة الإنسان في الحسبان[1]

الحرية الحقيقية  تتحقق  بانسلال الإنسان من الهموم الدنيوية والغوائل والآفات القلبية كالمال والمنال، وتوجُّهِهِ إلى الحق تعالى بكلِّ خصائصه الخاصَّة بعالم الفِطْرَةِ، وأعماقِهِ وأبعادِهِ الخاصة بالعوالم المعنوية.

تعريف كولن للحرية

إن فتح الله كولن الذي ينظر إلى الحرية من زاوية مهمَّة إلى هذا الحدِّ يُعرِّفها بقوله: “الحرِّيّة هي ألا تقبلَ الروحُ سوى المشاعرِ العلويَّة والأفكار السامية، ولا ترضى بالإسارِ لأيِّ مبدإٍ سوى مبدإ الخير والفضيلة، وهي تحرُّرُ الفكر الإنساني من كل قيدٍ يمنعه من الرقيِّ الماديِّ والمعنويّ بشرط عدم السقوط في وهْدَةِ اللامبالاة وعدمِ الشعورِ بالمسؤولية[2].

عدمَ معرفة الله يفرضُ على الإنسان أو على غيره من المخلوقات العبودية والرِّقَّ، ومثل هؤلاء لا يمكن الحديث عن كونهم أحرارًا إذ أنهم لا يمتلكون حقوقَهم الإنسانية.

الحرية والضمير الإنساني

فالحرية عنده هي اللون الأساس للإرادة التي تُعَدُّ ركنًا مهمًّا من أركان الضمير الإنساني، وأهم كُليَّةٍ من كُلِّياته، وهي واحدةٌ من أبرز العطايا الإلهية للإنسان وأفرَدَها باعتبارها بُعدًا ضروريًّا من أبعاد حياته، وهذا الإحسان العظيم الفريد عرَّفه التراثُ الإسلامي بأنه: امتلاك الإنسان حقوقه الخاصة؛ ومع هذا فإن القدرة على فهمِ الحرية حقَّ الفهم مرتبطةٌ بفهمِ نقيضها بعضَ الشيء، ونقيضُها هو امتلاكُ الفرد لحقوقِ غيرِه الشخصية، وهذا ما يعني العبوديَّةَ الصريحةَ، والله وحده دون سواه هو مَن وهَبَ الإنسان هذه الحقوق، ولذا فإنه ليس من حقِّ الإنسان تغيير هذه الحقوق ولا بيعها، ومَنْ يَهُمُّ بفعل ذلك فقد أنكر إحسان الله، وقَبِلَ العبودية للآخرين، وأَثِمَ فعلًا.

كولن: معرفة الله أساس الحرية

يقترب فتح الله كولن من المسألة في نقطة الأفق الإنساني، وربما من زاويةٍ لم يتناولْها منها أيُّ محلِّلٍ معاصرٍ قطُّ، ويَعُدُّ أن أساس الحرية وضمانها هو أن يكون الإنسان على وعي بوجودِهِ وكيانِهِ أولا وأخيرًا، وبالتالي معرفته الله تعالى، ويرى كذلك أن عدمَ معرفة الله يفرضُ على الإنسان أو على غيره من المخلوقات العبودية والرِّقَّ، ومثل هؤلاء لا يمكن الحديث عن كونهم أحرارًا إذ أنهم لا يمتلكون حقوقَهم الإنسانية.

الحرِّيّة هي تحرُّرُ الفكر الإنساني من كل قيدٍ يمنعه من الرقيِّ الماديِّ والمعنويّ بشرط عدم السقوط في وهْدَةِ اللامبالاة وعدمِ الشعورِ بالمسؤولية.

كمال الحرية: انسلال القلب من آفاته

إذًا فالحرية – في فكر فتح الله كولن – هي ألا يخضع الإنسان لغير خالِقِه تعالى، وألا ينحني أمام أيِّ شيءٍ، ولا يخنعَ إلى أيِّ إنسان، والوصول إلى الحرية هو أوضحُ الأمارات على أن القلب صار مرآةً برَّاقةً لامعةً تعكِسُ الحقَّ، إلا أن الإنسان الذي يَصِلُ إلى هذه النقطةِ – التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالإيمان والمعرفة وقطع كل العلائق القلبية بأصحاب القوَّة والثروة والسُّلْطَةِ والجاهِ سوى الله تعالى – هو مَنْ حطَّمَ كلَّ القيود والسلاسل المحيطة بنفسه، أي تخلَّصَ من تأثيرِ أنانيَّتِهِ، وهكذا فإن الحرية الحقيقية يمكن أن تتحقق فحسب في ظلِّ انسلال الإنسان من الهموم الدنيوية والغوائل والآفات القلبية كالمال والمنال، وتوجُّهِهِ إلى الحق تعالى بكلِّ خصائصه الخاصَّة بعالم الفِطْرَةِ، وأعماقِهِ وأبعادِهِ الخاصة بالعوالم المعنوية.

يقول فتح الله كولن: “الحرية الحقيقية ضرورةٌ من ضرورات العبودية الكاملة لله تعالى؛ حتى إنه يمكن اعتبارُ العبودية لله تعالى بالمعنى الكامل والحريةِ الحقيقية مترادفتين”.

ثم يُورِدُ هذا التقييم قائلًا: “يمكن القولُ إن الإنسان حرٌّ بقدرِ عبوديته لله، ومن حُرِموا العبودية لله لا يمكن أن يُدْرِكُوا القِيَمَ الإنسانية الحقيقية مثلما يتعذَّرُ عليهم أن يكونوا أحرارًا أبدًا؛ لأنه يشقُّ عليهم أن يتخلُّصوا في أي وقت من الدَّوَّامات البدنية والجسدية، وأن يشعروا بجواهرهم وبما لها من أعماق خاصة بها، وطالما أن القلب أَسَرَتْهُ وكبَّلَتْهُ مطالبُ وأَحِبَّةٌ وأهْدَافٌ مختلفةٌ فيستحيل أن يكون الإنسان حرًّا أبدًا، وأَنَّى لِشخْصٍ مَدِينٍ للآخرين دائمًا أن يكون حرًّا”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) فتح الله كولن، سلسلة العصر والجيل -1: العصر والجيل، مقال “تقدير الإنسان، صـ50. مجلة “سزينتي”، يوليو/ تموز، 1979.

([2] ) فتح الله كولن، الموازين أو أضواء على الطريق، صـ96.

المصدر: علي أونال، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015، 337/ 338/ 339/ 3340.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.