في ضوء كل ما ناقشناه من الآراء الخاصة بكولن حول الجوانب المتعددة للدين والعلم، ننبه إلى أهمية هذه الآراء بالنسبة للعالم المعاصر من نواحٍ عدة.

أولًا: يصر كولن على عدم الفصل بين العلم والدين، وهو بذلك يتخذ موقفًا فكريًّا راسخًا ضد العلمانية الفكرية. إن فكرة عَلْمنة المعرفة، مع تتبع نتائجها المنطقية، لن تتوافق مع المفاهيم الإسلامية ونظريات المعرفة الإسلامية المتأصلة في تعاليم القرآن. وسوف تتعارض هذه الفكرة تحديدًا مع اعتقاد كولن بأنه “يجب أن لا تتم دراسة العلم بشكل مستقل عن القرآن”. إن الحديث الفكري الدائر حول “أسلمة المعرفة” في أجزاء عديدة من العالم الإسلامي، ومن بينها تركيا، لا يمكن إدراكه إدراكًا كاملًا إلا عند فهم إلحاح الإسلام على وجود علاقات تصورية متناغمة بين العلم الديني وعلوم العوالم الطبيعية والإنسانية. وقد تبدو فكرة أسلمة المعرفة وكأنها محاولة جادة من قبل المسلمين المعاصرين لاستعادة الرابط الفلسفي التصوري الذي انقطع بين العلم الديني والعلوم الطبيعية، وكذلك لاستعادة الوحدة التقليدية للمعرفة، والتي تحطمت من جراء العلمنة الحديثة للمعرفة.

يتكلم كولن في الكثير من آرائه باسم القطاع التقليدي الكبير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة حول العالم، فيما يتعلق بمعنى العلاقة بين الدين والعلم والأهمية التي يمثلها هذا الفهم للحفاظ على الهوية الإسلامية.

ثانيًا: لا تمثل آراء كولن بالنسبة للعلاقات بين الدين والعلم آراءه الشخصية فقط، فهو يمثل في المجمل واحدًا من التفسيرات الرئيسة للموقف الإسلامي تجاه موضوع مطروح، ليس في تركيا العلمانية وحدها، ولكن في العالم الإسلامي بأسره. ونجد أن كولن في الكثير من آرائه يتكلم باسم القطاع التقليدي الكبير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة حول العالم، فيما يتعلق بمعنى العلاقة بين الدين والعلم والأهمية التي يمثلها هذا الفهم من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية.

ثالثًا: يتمتع موقف كولن بشأن العلاقة بين الدين والعلم بأهمية عالمية تمتد خارج العالم الإسلامي، إذ إن آراءه حول هذا الموضوع ذات صلات مباشرة بأنماط مشابهة من المناقشات الدائرة حاليًّا داخل الديانات الأخرى، وخصوصًا المسيحية.

إن فكرة عَلْمنة المعرفة، مع تتبع نتائجها المنطقية، لن تتوافق مع المفاهيم الإسلامية ونظريات المعرفة الإسلامية المتأصلة في تعاليم القرآن.

لقد شهدت السنوات الأخيرة العديد من الحوارات بين المسلمين والمسيحيين في أرجاء العالم حول نطاق كبير من القضايا، ولكن لسوء الحظ، فليس هناك إلا القليل من هذه الحوارات التي أجريت حول أهمية قضية العلاقة بين الدين والعلم؛ فثمة حاجة ملحة إلى إبراز هذه القضية بالذات بشكل أكثر اتساعًا على أجندات أعمال الحوارات الإسلامية المسيحية. ومن المعروف أن كولن نفسه قد اشترك في حوارات مع قادة الطوائف المسيحية، ومن بينهم البابا السابق (رئيس الكنيسة الكاثوليكية) وقادة الكنيسة الأرثوذكسية في تركيا. ومن الجدير بنا في هذا الصدد أن نشير إلى شيء من آراء كولن تجاه ما نظر إليه كثيرون في العالم الغربي باعتباره صراعًا بين المسيحية والعلم. يقول كولن:

يصر كولن على عدم الفصل بين العلم والدين، وهو بذلك يتخذ موقفًا فكريًّا راسخًا ضد العلمانية الفكرية.

“مع أن الصراع في فترة عصر النهضة الأوروبية دائمًا ما يصور بأنه صراع بين المسيحية والعلم، فهذا الصراع في حقيقته كان بين العلماء والكنيسة. فلم يكن “كوبرنيكوس (Copernicus)” أو “جاليليو (Galileo)” أو “فرانسيس بيكون (Francis Bacon)” ضد الدين، بل يمكن القول بأن التزامهم الديني هو الذي أوقد في نفوس الناس حب الحقيقة وفكرة الوصول إليها.

وفي آراء كولن -التي نعتبرها مهمة للغاية بالنسبة لعالِم إسلامي معاصر- تكمن فيها إمكانية قيام حوار مخلص وجاد ليس فقط بين الإسلام والمسيحية، ولكن أيضًا بين رجال الدين ورجال العلم في شتى المجتمعات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: زكي ساري توبراك وآخرون، السلام والتسامح في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2014م، صـ86/ 87/ 88.

ملحوظة: بعض العبارات من تصرف محرر الموقع.