الخدمة كما رسم لها الأستاذ “كولن”، منهاج يفتح في وجه الأمّة مجالات واسعة وحيوية بإمكان أهل الاستعداد أن يوظّفوا فيها فوائض أموالهم وديناميّتهم ومعارفهم وكل ما يتوفّرون عليه من إمكانات وقدرات ومن مهارات على صعيد التصور والتخيل والإبداع.

لقد تشربت مواجده وارتوى فؤاده وضميره من معين النهج النبوي وملحقاته من مآثر السلف الصالح، زيادة على ما نهل من تعاليم القرآن وضوابط الشرع. وكل ذلك حول سيرته ووقائع حياته إلى اجتهاد فقهي حي؛ إذ ساهمت الوجهة المدنية والمنهجية البنائية التي انبرى لها، في ظهور وميلاد فقه العمران والنهضة. فلأول مرة تخرج بيداغوجية الزهد والانقطاع والعكوف في الخلوة، عن نطاق مبدإ رفض الحياة والإشاحة عنها، لتنخرط بكل ما لها من إيمان غيبِيّ وحسّ أخروي، في التعمير وإقامة مشاريع التمدّن والخدمة.. تفعل ذلك تجاوبًا مع قوله تعالى ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾(الْمُؤْمِنُون:115-116)، وقوله تعالى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(الزَّلْزَلَة:7-8).

 ساهمت الوجهة المدنية والمنهجية البنائية التي انبرى لها “كولن”، في ظهور وميلاد فقه العمران والنهضة.

  مضي زمن العطالة الحضارية

لقد تصرمت العهود المتلاحقة التي ظلّ فيها قطاعٌ غير سوي من الفكر التزهيدي يشحذ في المسلمين روح الاستقالة، بل ولقد مضت عهود لبث فيها حتى العاملون من رجال الله يؤدّون من جهود الارتفاق والتعمير ما لا يتجاوز حد الضرورة، إذ ظلّت قراءتهم الغروبية للتاريخ (غروب الساعة) تصور لهم دنوّ الأجل الذي ستنتهي فيه الحياة ويتوقف التاريخ.. وبالفعل لقد تسببت رؤيتهم الأزوفية تلك في توقّف التاريخ بالأمّة في القرن الخامس، وإن أكثر ما تحقق من منجزات بعد ذلك القرن في مضمار الحضارة والفتوح، إنما كان من أثر الاندفاع الذي استمر -وبتراجع طبعًا- يفعل فعله التحريكي حينا بعد تعطل المحركات عن العمل.

كل إنجاز يتمّ على صعيد التنمية والبناء، إنما هو اجتهاد فقهي تعميري، ذلك لأن فلسفة الخدمة – عند كولن- أدمجت التعمير في العبادة، وعادت بالرؤية المدَنية إلى صميم روح القرآن.

لكن منهج “كولن” يعمل اليوم -وبإصرار لا هوادة فيه- على إعادة ضبط عقارب الساعة على التوقيت العصري، وإنه لَيشقُّ بالفئات طريق التعمير، وبما أنه طريق مستجدّ، فإن كل إنجاز يتمّ على صعيد التنمية والبناء، إنما هو اجتهاد فقهي تعميري، ذلك لأن فلسفة الخدمة -عند كولن- أدمجت التعمير في العبادة، وعادت بالرؤية المدَنية إلى صميم روح القرآن، إذ القرآن، وفي أبرز آية من آياته البينات، وأكثرها تردادا وتداولية، قد قرن الإيمان مع العمل، نقصد اللازمة القرآنية: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، بل إن القرآن في سورة الماعون مثلا، -بل وفي ما سواها من مواطن قرآنية عدة- قد قدّم الجانب الاجتماعي على الجانب التعبّدي، فجاء التنبيه إلى رعاية حقّ اليتيم والمسكين سابقا في متن السورة على التنبيه إلى رعاية حق الله.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ117-119.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.