أكبر إشكال معرفي يواجه الباحث في فكر الأستاذ فتح الله كولن، هو صعوبة تصنيفه معرفيا، نظرا لأن كل مفاهيم تصنيف الرجال والأعلام لا تستطيع استيعاب الطبيعة المعرفية المركبة للرجل.
المواهب والتأثير
ويبقى العنصر الناظم لكل مواهبه المعرفية هو قدرته على التأثير، وهي الميزة التي صُنّف على أساسها الشخصيةَ المثقفة الأكثر تأثيرا في الناس في القرن العشرين، من خلال استطلاع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy الأمركية المعروفة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
أكبر إشكال معرفي يواجه الباحث في فكر الأستاذ كولن، هو صعوبة تصنيفه معرفيا.
يفرض التناول العلمي والموضوعي ألا نستعرض من شخصية فتح الله كولن المعرفية إلا المعارف الكسبية التي اكتسبها منذ طفولته، وأثناء شبابه والمراحل الأخرى؛ لأن المتنعم في مجموع حياة الرجل سيلمس أن جوانب وهبية في شخصية الرجل حاضرة بقوة، وهبت لفتح الله برياضة روحانية ألزم نفسه بها، ومسلك صوفي معتدل ومتوازن تظهر ملامحه في شخصيته وكتاباته ومواعظه وخطبه، فهذه الجوانب موجودة في شخصية الأستاذ لا يمكن إنكارها.
تحصيل تقليدي
وأما الجوانب الأخرى الكسبية فتكشف بأن الرجل قد كتب له في طفولته أن يتحصل معرفة تقليدية رصينة ساهم فيها العديد من مشايخ المدارس العتيقة المنتشرة في بوادي الأناضول، والتي كانت تقدم المعارف الإسلامية بأسلوب عتيق وتقليدي، وساهم فيها الأسرة وخاصة الجد القوي الشخصية والجدة كذلك صاحبة الروحانية العالية.. ثم الوالد الذي أبى إلا أن يكون أبا وصديقا لفتح الله الفتى القوي الشخصية، وأن يصاحبه في طلب العلم ويشجعه عليه.. أما الأم فلم تدخر جهدا في أن يتقن الطفل فتح الله القرآن الكريم منذ سن مبكرة. والحاصل أن فتح قد أتيح له أن يتربى تربية إسلامية أصيلة رغم الظروف القاسية التي كانت تجثم على الواقع وتحاصره.
بالنظر إلى مختلف المصادر المعرفية التقليدية التي درسها على شيوخه أو التي درسها وحده، فقد أكسبه هذا كله استحقاق صفة “العالم”. ولذلك فإن فتح الله عالم من علماء الشريعة المجتهدين، جلس للإفتاء ودرس العلوم الشرعية وتخرج على يده ثلة من الطلبة والعلماء هم اليوم فرسان في الحركة الطيبة التي تأسست بفضل صدقه وإخلاصه، وبعبارة أخرى إن شخصية العالم وفق المنظور الإسلامي الدقيق تنسجم كلية مع الأستاذ فتح الله.
الأستاذ كولن عالم من علماء الشريعة المجتهدين، جلس للإفتاء ودرس العلوم الشرعية وتخرج على يده ثلة من الطلبة والعلماء.
قراءات غير تقليدية
لكن هذا التصنيف مع ذلك يظل بعيدا عن أن يوفي الشخصية المعرفية للأستاذ حقها، لأن الرجل كان مسكونا منذ طفولته بحب المعرفة وحب المطالعة، فلم يوفر جهدا في سبيل تحصيل معارف أخرى، ولذلك لم ير الأستاذ إلا بين الكتب أو في شأن له علاقة بها، فتعرف على العديد من المجالات المعرفية كالفلسفة وعلم الاجتماع والآداب العالمية المختلفة بإبداعها ونظرياتها ومناهجها، ومن أبرز من قرأ لهم من مفكري الغرب “وليام شيكسبير”، “بلزاك”، “فولتير”، “جان جاك روسو”، “كانط”، “زولا”، “غوثة”، “ألبير”، “كايموس”، “سارتر”، “بنارد”، “راسل”، “بوشكين”، “تولستوي”، وكانت له وقفات عميقة ودقيقة مع العديد من النظريات العلمية وخاصة تلك التي تعارض المعرفة الدينية والسنن الكونية، والتي غزت بعض العقول فأفسدتها.
استطاع فتح الله بفضل عصاميته وبفضل ثقافته الأصيلة أن يقف على مواطن الخلل في كل هذه النظريات وأبطل ادعاءاتها بخطاب علمي منطقي عقلاني، بالإضافة إلى استحضاره روح القرآن الكريم، وبعبارة أخرى يمكن القول إن الأستاذ فتح الله قد حصل ثقافة عصرية تصنفه في دائرة المثقف العصري، لكن هذا المفهوم يحمل حمولة غربية لأنه صيغ في ظل الفكر الحداثي الذي ساد في أوروبا منذ القرن السابع عشر، ولا أظن بأن هذا المفهوم يساعد على تصنيف الرجل معرفيا بالإضافة إلى أن الأستاذ نفسه قد لا يقبل أن يصنف في هذه الدائرة.