لقاح محضن جُوشْكُن
صبيحة يوم الإثنين، الخامس والعشرون من شهر ديسمبر، عيد الاحتفالات بميلاد المسيح، كنا على موعد مع مؤسسة تعليمية، تدعى جُوشْكُن…
أحاول فهم المعنى.. لكن استحيائي من الأستاذ زياد، أوقفني عن طلب معنى الترجمة.. اليوم طويل مكثف باللقاءات العلمية، أكيد أن المترجم سيتعب كثيرا في ترجمته.
وصلنا باب مؤسسة جُوشْكُن ، وجدنا في الاستقبال وجوه أطفال ملائكية، يحملون باقات من الزهور، وينشدون تحية الاستقبال احتفاء بقدومنا: “هُوشْ كَالْدِينِيزْ… هُوشْ كَالْدِينِيز”.. من فرحتي، كنت أحاول الرد عليهم، بما أسمعه من لغة أهل البلد، وبسرعة البرق حاولت التقاط الرد من أم سداد: “هُوشْ بُولْدُك” بما معناه “أهلاً وسهلا”.
أحاول نطقها بتفخيم الرنة، كما ينطقها أهل البلد…
“هُوشْ بُولْدُوك”… “هُوشْ بُولْدُكْ”، أردّدها وأنا أحضنهم وأقبّلهم…
تزامنت فرحتي ببهجة الأطفال، بمحاولة لملمة مشاعر مختلطة، غمرتني في تلك اللحظة.. ابتهاج بحسن الاستقبال والترحاب، ورغبة في عناق مَنْ أحسستُ بنور ينبعث من أرواحهم الملائكية، يتلألأ في فضاء باحة الاستقبال وينشد:
“مرحبا بأحبّة أحفاد الجهاد والمجاهدة من أرض المغرب..
مرحبا بمريم أبْلاَ..
زارتْنا اليوم ضيفةٌ كريمةْ،
أتتنا محملة بالبِرّ والخير العميمْ،
ستقيم عندنا شهرًا،
يا ليتها عاما تقيمْ…
يا ضيفتنا لو جئتنا كل يوم،
لوجدت أننا الضيوف، وأنت صاحبة الدار”…
يا سلام، إنها قمة عناية الصغار، قبل الكبار، بمراسيم الاحتفال بالضيف.
صحيح أنا ضيفة، ولكن شدتني حرارة الضيافة، من قبل سيدات أعجميات، لا يعرفنني، ولا يعرفن اللغة التي أتواصل بها معهن. مع ذلك هن فرحات، مبتهجات، مبتسمات، ترفرف أجسادهن النحيلة كالفراشات الراقصة، بفرحة عودة فصل الربيع.
مديرة المؤسسة: “أستاذة مريم تفضلي مرحبا بك، وبأهل فاس”. فتمسك يدي، وتحول مجرى الاتجاه، من الباحة الواسعة، نحو مكتبها في الطابق السفلي. “مدْرسة جُوشْكُن، هي عبارة عن حضانة للأطفال، قد يبدو الأمر بالنسبة لك -سيدة مريم- غريبًا أنت أستاذة وفي التعليم العالي كما أخبرت، قد يراودك سؤال “ما الذي جعلهم يُدخِلون هذه الزيارة في برنامجي حول المناهج التعليمية؟! وكان الأولى بهم، أن يوجهوني مباشرة إلى فضاء الجامعات”.
حاولت الرد، لكن بسرعة بارعة راقية، وبأسلوب حواري جذاب، استرسلتْ بهمة عالية: “أستاذة مريم، التعليم عندنا في مدارس جُوشْكُن، هو عصب ودينامو الحراك التعليمي الذي قد ترينه بعد ذلك في الجامعات”.
تفهمت جدية طرح السيدة المديرة، فلم أعقب بأي سؤال.. فضلت السكون وانتظار المزيد من التوضيح، حول نوعية هذا الدينامو، والعصب المحرك لكل الطاقات الخلاقة في بلاد الأناضول.
مديرة جُوشْكُن: “عندنا مناهج تعليمية نحترمها كمسؤولين عن إدارة المدارس الخاصة، وهذا مشترك بين كل المؤسسات. التميز عندنا في مدارس المستقبل هو التركيز على حل المعادلة الصعبة.. هل نحترم عقول هؤلاء الأطفال، الذين يسلمهم آبائهم وأمهاتهم إلينا مادة خامة؟! هل نطعمهم بلقاح الممانعة ضد الأمراض المعدية، كالكسل والخنوع، والاستهتار والاتكال واللامبالاة والغش؟!. كما تعلمين أستاذتي، هناك أمراض وفيروسات معدية، تفتك بالأطفال، إن لم يطعموا بلقاح في الشهر الأول من ولادتهم.. فكذلك توجد أمراض اجتماعية، خطيرة قد تهدد سلامة وأمن أبنائنا الروحي والفكري والمعرفي. وهنا نحتاج مبادئ التنشئة الدينية والاجتماعية والتربوية، لقاحا أساسيا تحقن بمصل المحبة، تحصن هويتهم، وتحفز مهاراتهم وكفاياتهم. الأطفال -سيدتي مريم- ألوان وزهور مختلفة. فهل يمكن للورد أن ينبث في أرض قاحلة؟!”.
كنت أحرك رأسي، تعبيرا عن وجهة نظري المتفقة تماما مع هذا الطرح، حين فوجئت بيد عصفورة صغيرة من براعم بنات المدرسة، تمسك بأصابعها الصغيرة راحة كف يدي، لتهْديني وردة حمراء، كتلك الوردتين المزينتين، لوجنتيها الصغيرتين.
فسبحان من ألهم تلك البراءة الطفولية، وأرسلها مبعوثة للسلام.. تمنحني سعادة نشوة بعطر وردة حمراء، وتهديني سر أسرار البذور، في مواسم الأعياد التربوية. بِرقّة بالغة حضنت الطفلة الموهوبة.. سحرني جمالها وزرقة لون عينيها الصغيرتين.. انحنيت بهدوء، قبّلت يديها الصغيرتين، وأنا أستبشر خيرا بمستقبلها، الذي بدا لي واضح المعالم من خفة حركتها، وجرأتها وفراستها. كنت مفتونة بمداعبة هذه الطفلة الملائكية الصغيرة.
المدرسة تشرح قيم التربية على حب العلم، والحفاظ على الهوية والمواطنة. الأطفال ينشدون أغنية الأمل ويهتفون بوهج نور المستقبل. فأنشدت معهم لحن المحبة ووقّعت في كتاب الزوار باسمهم أحرفا سجلت بمداد الأمل.
بساتين الفتح المعرفية
كان الموعد الثالث في هذه الجولة العلمية، يوجهنا نحو الامتداد المعرفي، من الروض إلى مدارس الفتح. مدارس الفتح عبارة عن سلسلة ممتدة عبر أرجاء تركيا، تضم خيرة المبدعين والمتميزين من الطلبة والأساتذة.. تتميز بأرقى مناهج التدريس، ويعيَّن في هيئة تدريسها كفاءات عالية، وتزود أقسامها ومختبراتها العلمية، بأحدث وسائل التجهيزات المختبرية والعلمية. تركيز غير عادي على تجهيز المؤسسة.. قاعات رياضة، مسرح، قاعات مؤتمرات ضخمة، لا تجدها حتى في إعداديات وثانويات البلدان الأوروبية.
في جولة لمختبرات البحث العلمي، زُيِّنت قاعاتُ المختبرات العلمية، ببراويز، وميداليات ذهبية حصد بها الطلابُ مسابقات إقليمية ودولية في براعة الاختراع.
في لقاء مع المختصين التربويين، والمساعدين الاجتماعيين، تساءلنا عن نوعية المناهج في مثل هذه المؤسسات. فكان الإيضاح أن المرتكز هو تنمية المهارات في التفوق وفق تخصصات العلوم، والآداب، والاقتصاد… مع تعزيز قيمة ثلاثية العلاقة الترابطية “الأستاذ والطالب والأسرة”.
سألت “وما سر هذه الثلاثية؟”، أجابني المدير: “سيدتي مريم، لا تنمية علمية وازنة، لبراعم مستقبل الغد، دون موازنة حركية سير هذا الثلاثي المتجانس المترابط”.
رغبت بالاستراحة قليلا، انزويت إلى جانب شرفة مطلة على ساحة الثانوية، الأستاذ المسؤول مازال يشرح تفاصيل ربط المناهج التربوية بالقيم، يحيلنا عبر مكتبة الوسائط، إلى تقارير المتابعة اليومية التي يبعث بها الأستاذ يوميا إلى الأسرة للتشارك في بناء مستقبل الطاقات.
النافذة الممتدة أمامي، تحيلني إلى ركن من زاوية ساحة الثانوية. شد انتباهي طالب يمزح بقوة مع زميله، بذلته الزررقاء الأنيقة، تسدل من على منكبيه النحيلين، كما يسدل الستار على الخشبة. شوكولاتة في يده، يقسم قطعة منها لزميله، يستمتع بنشوة طعمها، يلف غلاف الشوكولاتة، يرمي به أرضا، لم يكن أي مسؤول يراقبه.
استمر في المزاح مع زميله، إلى حين موعد رنّ جرس الاستراحة، بدأ يتوجه مع الطلاب نحو المخرج، كاد يخرج، لكنه عاد راكضا، وكأنه نسي شيئا هاما. شدة الازدحام تقف حاجزا في وجهه، يحاول بكل قواه الانحناء للبحث.. البحث عن ماذا؟ أكيد ضاع منه شيء مهم.
الطلبة يركضون بسرعة فوق يديه، وهو مصر على مدّهما في بلاط الساحة باحثا عما ضاع منه، وأخيرا رفع رأسه في نشوة عارمة، حسبتُه يمسك في يده محفظة نقوده الصغيرة، أو تلفونه المحمول، لم أر شيئا من هذا.
ترى ماذا بيده؟ ما الذي يحمله؟ افترقت الجموع قليلا من حوله، فتراءى لي وهو يلملم ورقة غلاف الشكولاته التي رماها، ونسي في حين غفلة من أمره، جمعها من على الأرض.
كنت أراقب أحوال هذا الطالب، من نافذة مكتب المدير، بالطابق الخامس، وأنا أبتسم وأتساءل مع نفسي عن سر معاني التربية في هذه المؤسسة، كيف استطاعت غرس مفاهيم القيم الأخلاقية، ودمجها في مقررات التعليم؟!
لم يكن هناك من رقيب يؤنبه، ومع ذلك رجع. هل هو المنهج الدراسي؟ هل هو توجيه الأستاذ؟ هل هي تربية الأسرة؟ هل هي دروس الصحبة التي تجمع الأستاذ بطلابه وأبويه؟
أسئلة كثيرة دارت في ذهني، أجابني عنها الأستاذ المسؤول عن المناهج قائلا: “أخبرتك أستاذة مريم، بأن التدريس في مؤسساتنا يعتمد على ثلاثية العلاقة بين “التلميذ والأستاذ والأسرة”. والتلميذ لا يتحمل مسؤولية الفشل الدراسي لوحده، بحيث يتابع قسمُ الزمر الذي يجمع خيرة الأساتذة أسبوعيا، ملفَّ الطلبة وإستراتيجية التعليم في المؤسسة. فالأستاذ عليه متابعة الطالب بالحصص الإضافية، مع تقرير يومي يبعث للأسر عن حالة وضعه النفسية، وقدرة تركيزه وتفاعله داخل القسم”.
باستغراب شديد سألته: “ماذا تعني بتقرير يومي عن حالة الطالب؟ كيف يمكن للأستاذ أن يقوم بذلك، وكل يوم؟!”.
المدير: “الأستاذ في مدارس الفتح، هو المسؤول عن فشل الطالب.. يحاوره، يسأل عن مشاكله، ينمّي مهارة اهتمامه بهواياته، يتابعه بعد الدرس بحصص إضافية، يرسل تقريرا لوالديه عن حالته، ويرافقه خلال نهاية الأسبوع في فسحة رفقة أسرته. بهذا المنهج نقسم الأدوار، بين التلميذ والأسرة والأستاذ المربي”.
“مازلت لم أستوعب قدرات الأستاذ في منظومة هذا المنهج؟”.
مدير المناهج: “مدارسنا -أستاذتي- تضم خيرة أبناء تركيا، نختارهم بمواصفات تناسب مناهجنا.. فالكفاءة معتمدة، كما هي الأخلاق أيضا. والإيمان برسالة النجاح والتميز. لا يسمح بإدماج أستاذ فاشل، أو سيء الأخلاق. هل تظنين أن من يدخن مثلا، يصلح قدوة في التربية على القيم؟!”.
كنت أتابع شرح المنهج، وأنا مازلت أتساءل عن نوعية الأساتذة المنخرطين في هذه المنظومة التعليمية.. هل هم أساتذة عاديون؟ أم هناك شيء خارق للعادة يحفزهم على قدرة الفعل والعطاء؟
رحلت ذاكرتي بعيدا، إلى صفحات كنت قرأتها من كتاب الأستاذ فتح الله كولن “ونحن نقيم صرح الروح”، أستلهم منها معنى الجهد في حركية الفعل الذي يحقق الفكر والبرنامج.. “فكل فكر بداية، ووتيرة للعثور على أطره الحقيقية، وبلوغ مراميه في ثنايا التحركات الملتزمة به. المرحلة الأولى لإرادة تطوير التعليم، تبدأ من ميل داخلي، ومبلغها النهائي هو العزم والقرار والهم بالعمل. والمنهج الفكري في هذه الوتيرة، كخيوط لفائف تلقى من المبتدإ لتتعلق بالمنتهى، والأعمال التطبيقية هي نقوش تزين هذه اللفائف”.
فوسائل التدريس من غير فكر أو برنامج تؤدي في الأكثر إلى الفشل والفوضى. والتعليم الجامد من غير حركة الفعل، يعيق تشكل الأنموذج التعليمي، والبعد النهائي للفكر. ما لم نهندس تشكيل حركيات أرواحنا من جديد، وشحنها بطاقة العطاء اللامشروط بالأجر، لن نستطيع قطع أشواط في سبيل النهوض بالتعليم. إنها عدة أساسية لتجهيز فرسان نور المعرفة، القادرين على إيصالنا منابع الواحات المعرفية الخضراء.
مازلت أبحر في مقاطع من هذا الكتاب الذي قَدَّم لي اليوم قراءة جديدة في سر منظومة التعليم الفتحية، حتى أوقفني صوت المدير وهو يردد: “مريم أَبْلاَ، تفضّلي لتناول الغذاء مع طاقم إدارة المؤسسة”.
في اتجاه بهو واسع، ممتد الأطراف نحو ممرات المؤسسة، وبتحية مؤدبة من طلاب ينزلون تباعا لموعد الغذاء، يلتفتون في شغف لمعرفة هذا الوجه الجديد، الذي حل ضيفا عليهم، كنت أردّ السلام مع ابتسامة تلامس مشاعر طفولتهم البريئة.
مائدة المدير رتبت بذوق جمالي رفيع، وهي نفسها مائدة الأساتذة، ونفسها مائدة الطلاب.
إنها قيم التربية التي يتبناها منهج الخدمة في مدارسه، وهي قيم مقتبسة من سيرة من يحيون بقلوبهم في هذه الدنيا، وكأنهم يعبون من كؤوس اللذة الروحانية في جنة الفردوس، ليثمروا في كل فصل أثمارا جديدة.
كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف، حين ودعنا مدير المؤسسة وهو يحيينا بتحية ود، مع هدية لوحة فنية مرسومة على الماء.. كنت شاهدتها من قبل سنتين في رواق المتحف الإسلامي بالدوحة، حيث رسم لي أشهر فناني روسيا في الرسم على الماء، لوحة مائية تحولت في لمح بصر إلى ألوان زاهية..
فسبحان من جعل من الماء كل شيء حي.! وسبحان من يسر لعباده، من قرية أرضروم إلى أَدِرْنَة إلى إِزْمِير إلى ما وراء المحيط أن ينهلوا بنفس عميق، من ينبوع القرآن المتفجر دوما بشلالات الماء السلسبيل ليصلوا الينبوع بجداول الأرض، إحياء للزرع الميت فيها.!
في رحاب جامعة الفاتح
فاطمة نور باران، تطرق الباب طرقة خفيفة.. تدخل بخطى لا يسمع لها حس، وبصوت خافت كعصفورة تغرد لصغارها تغريدة الصباح تهمس في أذني:
– صباح الخير مريم أبْلا..
– صباح الأنوار يا نور فرسان النور..
أردّ التحية وأنا مازلت أتقلب بين نسائم السكينة والاطمئنان، في آخر محطات نومي.
أرد على فاطمة نور:
– صباح الورد والياسمين.. يا من اقتحمت نظم عالم أفكاري، وحولت مجرى حلمي.
فاطمة نور:
– أستاذة مريم، زياد أبي في انتظاركم.
– ماذا؟ أحقًّا هو بالأسفل؟ كم الساعة؟
فاطمة:
-الساعة الثامنة والنصف أستاذة.
أنهض بسرعة البرق من دفئ فراشي، وأجتاز ساحات ميادين تعانق الأرواح التي احتضنتني بدفئها ليلة كاملة في ليالي برد إسطنبول القارس. كيف لم أفطن للمنبّه وقد برمجتُه لإيقاظي الساعة السابعة؟! في عجالة من أمري، أحاول بسرعة ارتداء ملابسي وأنا أتمم: “آه الحجاب غير مكوي.!”.
فاطمة:
– لا داعي لِكيّه، فهو أنيق وليس فيه من عيوب الطي ما يجعلك تكوينه.
– إذن هو كذلك.. وماذا عن الجو في الخارج؟
فاطمة:
– الجو ليس باردا، كما كان متوقعا في الأرصاد الجوّية لنهار اليوم، لكن احتمال يكون ممطرا.
– لا بأس إذن آخذ المعطاف تحسبا لأي تقلب في الجو.. فالبرنامج مكثف، والعودة قد تكون في وقت متأخر.
وأنا أسرع في لبس حذائي، وأجتاز الممر الموصل للمصعد، أردد:
– فاطمة لا تتأخري عليّ، أنا في البهو، ولا تنسي الكاميرا رجاءا عزيزتي.
كانت أم سداد في استقبالي ببهو باران، وهي تضمني:
– صباح الخير.
– صباح الأنوار والأشواق يا أم سداد، آسفة تأخرنا عليكم قليلا.
أم سداد:
– لا لا أستغفر الله.. لم تتأخروا، خذوا راحتكم..
كانت فاطمة نور، تنظر إلي وهي تودّعني بنظرات حنان غير عادية وكأنها تجمع صباحها بعصرها ومغربها بعشائها، لتخفي في همسات الحضور شوقا لمشاعر ملتهبة عبرت عنها دقات قلبها وهي تودعني، بأنغام أحاسيس حنين، تخرس الألسن عن التعبير بها.
من دون معطف، وبلا إحساس ببرودة قطرات المطر، توصلني نور إلى قلب السيارة، وأنا ألوح لها من وراء زجاج السيارة الشفاف. كنت أرقب صمتها، والنذر الرحمانية تتنزل عليها بالماء والثلج، لإخماد لهيب روحها المتّقد.
أبناء الفتح، يفهمون لغة الأحبة في الله، فلا يقطعون وصالها. كان زياد أبي ينظر إلى نور كطفلة ملائكية تودع أمها المسافرة، ولا يحاول كسر مسافات الاتصال حتى ولو بتحية السلام. بصوت هادئ وواثق من معاني سر لغة الحال، وبعد اتجاه السيارة نحو بداية الشارع الرئيسي لعُمْرانيّة، يبادر زياد بإلقاء التحية:
– السلام عليك يا أستاذة مريم.
أبادله التحية:
– وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.
– أهلا أهلا بجمال الصغير، “شُوكْ كُوزَلْ جَمَال”..
بنظرة حيية، يبتسم هذا الملاك الصغير الوديع، وهو يرقب بفضول طفولي، ما أحمله داخل كيس، تبين له من طريقة غلافه أنه هدية، يستفسر عن نوعها.
– مرحبا، هُوشْ كَالْدِينِيز.
أقولها للسائق الأنيق، وأنا أضع الكيس بجانب أم سداد.
السائق:
– هُوش بُولْدُك هَانم أفنْدي.
كان السائق بأناقة هندامه وربطة عنقه، يوحي بأننا على موعد مع لقاء وزير. سبحان الله كل شيء يوحي بالترتيب والأناقة والجمال عند أهل الخدمة.. اللباس، آداب التحية، الابتسامة وحسن الترحيب… الحافلة الراقية المزودة بِسلّة نظافة جنب كل كرسي.. الحذاء الذي ينبغي أن يوضع في مدخل كل الباب، ويمنع الدخول به حتى إلى قلب المؤسسات أو المكاتب… الزجاج الذي يتلألأ بلمعان نظافته من شرفات نوافذ البيوت، والعمارات.. الشوارع النظيفة…
كل هذا يوحي بقيم حضارية أصيلة متجذرة في أعماق روح هذا الشعب التركي. حتى السيارات في شوارع ساعات الازدحام الصباحي الإسطنبولي، تجدها نظيفة ولامعة المظهر. توقفت عن الكلام، متأملة حسن هذه العاصمة الساحرة بمناظرها، بنظامها المروري، بنظافة شوارعها، أتلو صلاة الحمد قبل الرحيل عنها.. بدت في زينتها مثل شجرة الميلاد، طرحة عرسها مساحات خضراء مكسوة بلباس أبيض من ثلج ديسمبر. ألوان فستانها من قوس قزح.
زياد:
– الطريق يكون دوما هكذا مكتظّا في العواصم، خاصة ساعات الذروة.. إن شاء الله نصل في موعدنا المحدد للقاء رئيس قسم الفلسفة بجامعة الفاتح.
عندما اقتربنا من الجسر، كنت أتطلع بشغف إلى تحديد منتهى هذا الكم الهائل من الصفوف الممتدة نحو حدائق ألوان حديدية الأبواب زجاجية النوافذ، وأنا أحاول وضع معطفي على الكرسي المجاور للأستاذ زياد، سائق المركبة النورانية، الذي تربى مع إخوته جمال ومصطفى، على ارتشاف كؤوس الصبر والحلم، وتعود على الانتظار لساعات طويلة، يتنقل بينهم صحبة إخوته في فضاءات تصاميم القدرة الإلهية، ينتظرون قدوم من يحقق أحلامهم ويعيد مجد أجدادهم الأبدال…
لذا فهم يتركون نافذتهم كل يوم مشرعة، حتى يتمكن الأحبة من الدخول إلى غرف تزكيتهم، وعوالم فكرهم، فتمتد خيالاتهم، وتنجذب أرواحهم إلى عالم آخر فوق الزمان والمكان.. عالم شحذ مشاعر المحبة ولف القلوب بوصال العشق الروحاني. بإشارة خفيفة، كان الأستاذ زياد يلوح للسائق يوجهه نحو الباب الرئيسي لمدخل رئاسة الجامعة.
الأصناف.. حفنة مجانين
الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، المدخل يعج بالطلاب والأساتذة المتّجهين نحو قاعات درسهم… زياد يقف على باب الحافلة، يشير للسائق بالتوقف، لأخذ رخصة الدخول للحرم الجامعي، ويدير وجهه نحوي:
– هذه جامعة الفاتح أستاذتي، أساساتها وجدرانها وأعمدتها، من حفريات أصناف أهل الخدمة.
وباستغراب شديد، أسأله:
– أصناف؟! ما معنى “أصناف؟”.
زياد:
– أصناف يا سيدتي هم حفنة مجانين.
– عن أي مجانين تتحدث يا أستاذ زياد، لم أفهم قصدك؟!
زياد:
– المجانين يا أستاذتي هم من تشبّعوا بحبّ الله إلى حد الجنون.. لم يغيرهم عنه حسن، ولم يفتنهم عنه جمال.. المجانين هم من ارتقوا بأنفسهم على كل المعادلات، وتساموا بأرواحهم على كل المقاييس.. هم مَن رفعوا شعار الثورة ضدّ كل مألوف، وهتفوا كما هتف الرومي: “هلم إلينا يا إنسان!”.. المجانين يا سيدتي، هم من دفنوا أنفسهم في غياهب النسيان، ونادوا كما نادى بديع الزمان: “وإنسانيّتاه!.”. لم يقفوا بالبكاء كثيرا على شعار موت الإنسانية، بل هندسوا لمعاني انبعاثها من جديد.. مضوا في العمل والفاعلية، ولم يفكّروا في سعادتهم الشخصية.. أجل هؤلاء هم مَن نسوا رغد الحياة.. نسوا البيت والولد.. وسلكوا درب الواصلين ليكونوا من الناجين.. مجانين هم كما أرادهم فارس الفتْح.. بل حفنة من المجانين.. يثورون على كل المعايير المألوفة.. يتجاوزون كلّ المقاييس المعروفة.. وبينما الناس إلى المغريات يتهافتون، هؤلاء منها يفرّون وإليها لا يلتفتون.. هكذا أرادهم الأستاذ.. وهكذا هم حفنة مجانيين، ممن نُسبوا إلى خفّة العقل لشدة حرصهم على دينهم، وتعلّقهم بنشر إيمانهم.. هؤلاء هم المجانين الذين مدحهم سيد المرسلين، إذ لا يفكرون في ملذّات أنفسهم، ولا يتطلعون إلى منصب أو شهرة أو جاه، ولا يرومون متعة الدنيا، ولا يفتنون بالأهل والبنين… هؤلاء يا سيدتي هم من تضرع فارسهم بقابلية قدراته المحدودة يوما في خشوع قائلا: “يا رب، أتضرع إليك.. خزائن رحمتك لا نهاية لها.. أعط كلّ سائل مطلبه.. أما أنا أريد حفنة من المجانيين”…
كان سحر ترانيم صوت انسجام لحن الكلمات، يتماوج في الأعماق المموجة لإقليم أفكاري… فتلاطمت أمواج بحار واسعة وغنية من تصوراتي، وكدت أفقد ملاحم تاريخ ذكرياتي.. وفي غمرة تداخل جس نبض أسرار كياني.. كان زياد يشرح مداخل هذا الصرح الجامعي الممتد، بفضاءات واسعة من حدائق، ذكرتني تماما بروعة هندسة تصميم حدائق مدخل الجامعة الإسلامية بكوالالامبور.. تحس من باب مدخلها، كأنك تزور منتجع سياحي، لكثافة النباتات الخضراء والأشجار المشبعة بالحب، وكأنها تربط أغصان جوانب المكان بالطريق المؤدية إلى عصارة العلوم. كان أفق جامعة الفاتح يلمع شامخا في وجه زوار معالم حفنة المجانيين، وكشهاب نجم يتلألأ بضياء المعرفة منبع حكمة مراسيم تتويج الشمس.
زياد:
– انظري على اليمين، فهذه كلها إقامات فخمة لسكن الطلاب.
أمد بصري وأفتح عدسة كاميراتي لأصور جمال روعة المكان. المرافق الجامعية، القاعات الرياضية الكبيرة، الحدائق والمنتزهات، أناقة الطلاب والطالبات، ترتيب مكان الحافلات المخصصة لنقل الطلاب، لم تكن تفصلنا مسافة بعيدة بين المدخل الرئيسي، ومدخل المدرجات والأقسام والمختبرات، حيث أقلتنا الحافلة.
كان الشاب الطيب الأستاذ إبراهيم، ينزل بمعداته التصويرية الخاصة بتوثيق رحلتنا، في أهبة منه واستعداد تام للقيام بواجبه.
زياد:
– سنتناول الفطور رفقة مسؤولة العلاقات والشراكات العلمية سيران، والأستاذ الدكتور شماس رئيس قسم العلوم السياسية، والدكتورة أليف أستاذة الفلسفة بالجامعة.
ازدحام الأفكار الملتهبة
المدخل يعج بالطلبة.. بخطى مسرعة كنا نحاول اللحاق بالأستاذ زياد، وهو يرافق مسؤولة العلاقات العلمية الخارجية. حين وضعت قدماي فوق درج باب مدخل الجامعة، لمحت فصولا من أزهار عقول تتشابك في خلايا دماغها، مغناطيس ازدحام الأفكار الملتهبة.. أفكار تبحث عن ربان سفينة يقودها ببوصلة المعرفة، نحو مرساة الفعل والإرادة والجاهزية للعطاء المعرفي والعلمي.
صعدتُ الدرج مواصلة تقدمي نحو زياد. وعند بلوغي الباب الرئيسي، لبهو الاستقبال وقبل أن تبدأ مسؤولة العلاقات العلمية، بتوزيع بسماتها وكلماتها الترحابية التركية، علمت أنني سأفتح صفحة لورشة عمل تطبيقية أستخلص معانيها بعد حين من فصل دروس آل فاتح النظرية.
المدخل الرئيسي لقاعة الاستقبال، يوحي بأننا في فندق من صنف خمسة نجوم، تتخلله أعمدة من المرمر، منحوت عليها صور من مساجد غابر الزمان. فلا يمكن أن تمر في شوارع ومؤسسات ومدارس ومعالم إسطنبول، دون أن تجد آثارًا شامخة لهم.
لم تكن الأيام الإسطنبولية تمر دون التضييف بأكواب القهوى التركية، بنكهتها الممتعة. الشرفة التي اجتمعنا حول مائدتها، كانت تطل على بقاع تلال زمردية خضراء توحي بالتجول في دروب تاريخ صانعي نافورة فوارة هذا الشلال المعرفي المنهمر. الأستاذ شماس مدير قسم الفلسفة يعرف بزميلته أكسيل، ثم ينتقل إلى سرد تخصصات كليات ومعاهد الجامعة:
– عندنا كلية العلوم والاقتصاد والهندسة والطب والفلسفة والحقوق والتكنولوجيا واللغات.
كنت أشرب الشاي منتظرة ترجمة زياد، وفورا يلتقط زياد الأفكار ليترجمتها إلى اللغة العربية. كان زياد منهمكًا في الترجمة، بينما كانت المائدة ترص أطباقها، بألوان شهية من أصناف الأجبان التركية وسلطات الخضروات المعهودة في الإفطار التركي.
يواصل الدكتور شماس حديثه، ليشرح لنا تفاصيل هندسة وحفر أساسات هذا الصرح العلمي المتميز.
– أستاذة مريم.. تعرفين تسلسل أحداث تاريخ تركيا؟
أرد:
– نعم درست عن بعض التحولات التي رسمت ملامح تطور المنظومة الفكرية والسياسية لتركيا.
– إذن دعيني أعطك نبذة مختصرة عن فرسان بناء صرح العلم والروح. الحياة يا سيدتي، لا يمكن أن تنفك فطرتها الأبدية، عن سر ثلاثية العلاقة بين الخالق والإنسان والكون. لكن تعلمين أنه في القرن التاسع عشر، عاشت تركيا تجربة دامية ضاع فيها الإسلام، وتربعت على البوسفور الشيوعية. ففرضت نفسها على النخب، وأنتجت ثقافة الإلحاد، بل أنتجت خللا في توازنات تكامل مصالح الإنسان، المادية والروحية، وجعلت منه إله المادة بالمفهوم الإشباعي للرغبة والشهوات.. فحولت هذه الرؤية مجرى التوافق الإنساني والطبيعي إلى عالم التيه.. عالم يغيب فيه معنى الوجود.. بل عالم حضر فيه كل شيء.. وغابت إنسانية الإنسان.. شُيِّئت روحه وشُيِّء عقله وفكره وجسده، طموحاته وآماله.. فكان هذا التيه مقرونا بحروب الاستعمار وتدمير الإنسان والاستغلال والعبودية. حاول الناس -طبعا يا أستاذتي الكريمة- أن يتصدوا لهذا التيار.. وتعددت مدارس الإصلاح والتجديد والاجتهاد، لكنها ظلّت في عمومها غير متكاملة المبدأ والفرضيات والنتائج. طبعا أنتِ من فاس أستاذة مريم، وتعرفين جيدا علاّل الفاسي، ومالك بن نبي الجزائري، والطاهر بن عاشور التونسي، ومن المشرق محمد عبده، والكواكبي، والأفغاني، وغيرهم… قد لا أحسن عدهم في هذا المقام، وهذا يدل على حضور رغبة التجديد والإصلاح في فكر رواد النهضة، حيث تعددت المشاريع النهضوية من المطالبة بإصلاح التعليم إلى المطالبة بالحرية، إلى مناقشة فكر الإحياء وعالم الأفكار. لكن هذه المشاريع في مجملها، لم تستطع تكوين منظومة فكرية موحدة ومتجانسة.. أما تركيا -أستاذتي- فقد تعرضت لأشرس الحملات والهجمات الفكرية للقضاء على الدين بعد سقوط الخلافة العثمانية.. الجامعات فرضت نوعًا من التوجه الإلحادي، على سير المنظومة التربوية والتعليمية والاجتماعية، والأسرُ مَنعت إرسال أبنائها للدراسة في الجامعات. وكما يقول المثل التركي “عند وجود الصقر، تنمو مهارات العصفور الضعيف”… أتعلمين أستاذة مريم، قد بدأت مهارات هذا العصفور، تنمو مع رحلة المهاجرين من أسراب الطيور، وسفن السائحين من أصحاب الإيمان، نحو التلال الزمردية الخضراء للمستقبل المحفوف بالأمل. وبنسبة انفراج ضلال سماء تلك التلال، سيبدأ النزول نحو الأشجار المتمايلة في تلك السفوح، وتوسع جداول الأنهار المنهمرة بشلالات من دموع ناطقة بالحسرة وبآلام داء الهجران. نعم سيدتي، عند الطوفان تُبعثرنا دوامةٌ من الأحاسيس، فيقف اللسان عن التعبير والبيان. وساعتها يمكن أن يقال ما لا يقال، وتهمس مشاعرنا المقهورة موسيقى فريدة في أرواحنا، فتحرك كياننا، وتحمس عقولنا للاشتغال بلائحة عريضة من المصطلحات الجديدة، لا تسعها الألفاظ اليومية المعتادة، بل تخرج في كثير من الأحيان عن رمزية المصطلحات المتعارف عليها في معاجمنا اللغوية. إن ارتجاف رعشة هذه الأفكار، لا يمكن أن تترك لنا مساحة فارغة، لأن المساحة الفارغة، لا يمكن أن تكون عنوانا لرحلة الانتقال الفصلية. وفي كل فكرة، يتم طرق باب مبارك لكل يقظة، وطرق الباب، يعقبه انتظار مبارك، بصبر العنكبوت لتغيير عنوان وجهة الرحلة.
سلفة إيجار بيت طلاب تغرس بذور نبات المعرفة
أمام حضرة الأسد في اصطياد فريسته، نحتاج لقوة إرادة، تخلصنا من الرعشة والبكاء، فننطلق كالسهم من موقع ذروة صوت أنينه المذوي، بحثا عن مكان النجاة. هذا يا سيدتي، ما قام به من تجاوز زمن البكاء والتحسر، عندما أحس أن سعة آماله تسبق أعماله، فتسابق مع رياح الفصل الخريفي، ودق باب الفصل الربيعي، ليؤجر مبلغا شهد عليه والد “جمال ترك”، حجز به إيجار أول بيت يجمع فيه بذور نبات ربيعه المعرفي، استعدادا لبداية موسم الزرع المقبل.
كان السيد “أبو جمال”، ومفتي إزمير السيد “أحمد كَرَاكُلُّوكْجُو” والسيد “مصطفى بِيرْلِيك” مَن ساهموا في تأجير البيت الربيعي، وهم يدركون تماما بأن الحصاد لن يكون هذه السنة، ولا السنة التي بعدها، وقد لا يكون لعشرات السنين، ومع ذلك سلكوا درب الأنبياء، بفرش زهور الحزم مع رفيق دربهم، وانتظار مطر يحمل نفحات إلهية تمس حدائق وبساتين تلك الزهور.
ففي مواسم القحط، تأهب حزم نبي الله يوسف ، لتخزين البذور اجتيازا لمحنة الأيام العصيبة من المجاعة. وفي مواسم الغيوم والظلمات، تهيأ الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ليجعل من بيت الأرقم ابن الأرقم t، حديقة عامرة بأنواع من فواكه وثمار الذكر؛ وحوّل فضاءاته إلى عالم مشاعر محاطة بنسائم ألطاف ربانية، تقوي العزائم وتلف المشاعر، بلذة المعاني المنبثقة من الأرواح، لقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾(النُّور:36-37)، وفي نشوة روحية بدأت تربطني بجمالية سيرة العظماء من الأنبياء وورثتهم من العلماء كنت أسأل نفسي في صمت: “أيمكن تجديد منهج الأنبياء في زمن عودة الفرسان ونداء الروح؟”. وكأنه سمع سؤالي فأجاب:
– نعم يا سيدتي ممكن.. لقد بدأ الفارس المقدام بالتلطف في البحث عن سبل الانتقال إلى البيت الربيعي، وبدأت البذور تجمع من “إزمير” إلى “أَدِرْنَة” إلى “أَرْضِرُوم”، إلى الأماكن المجاورة، لتملأ مخزن بذور القمح، الذي سيجمع للقاح السنوي المقبل. كانت المواسم التعبدية متقلبة الأطوار، قد تستقر لسنوات، لكن تأتي عليها مواسم تمزق أرجاءها العواصف التي غالبا ما تنتهي بفيضانات غير محسوبة. ورغم السير بمنهج التلطّف أمام العواصف الهائجة، كان مآل خبير المستقبل، الحجز على مخزونه الذي جمعه في أهبة سفر لتغيير عنوان رحلة العزم والكرامة، فجمعه كمن يجمع مواقيت صلواته، ظهره بعصره، وعصره بمغربه، متضرعا لمولاه سائلا إياه البر والتقوى ومن العمل ما يرضى. وكما تعلمين، فدعاء المسافر ليس بينه وبين الله حجاب، كدعاء المظلوم. فما كان إلا أن طويت مسافة الطريق، وجاء الإعلان بمرسوم توثيق ملكية مخزون بذور اللقاح، وبدأ سيل أمطار الخريف، ينهمر على فلاح البذور قبل غرسها.. فتشبعت الأرض وارتوت لتستقبل كميات من قمح متلحف بنسائم سميد ممزوج ببركة أحلام الأصفياء.. فنبتت في أعماق المدن والقرى، براعم فواكه شجرة المعرفة.. شجرة السعادة الإنسانية…
Leave a Reply