الظلال التاريخية والاجتماعية
منذ أن أنشئت الدول الحديثة، مدعومة بالجماهير المقيمة في المدن العصرية، زادت المشاكل المتعلقة بالإنسان والمجتمع والقيم الديمقراطية وتشابكت.
فالمجتمع الحديث نتاج عقلاني، تسيطر المنفعة على كل جزء وعلى كل عنصر من عناصره. فمرض “المنفعة المتبادلة” قد نفذ إلى نخاع الإنسان المعاصر. فكل نشاط أو حركة سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية، تريد أن تنال حصتها من المنفعة. ولا يتصور الإنسان المعاصر أن يكون هناك أي عطاء دون مقابل. فقد مال النموذج السابق للإنسان الذي نذر نفسه للمجتمع ولخدمته إلى الانقراض، وانقلبت الدنيا إلى دنيا آلية تعمل بالأزرار.
أما الإنسان بمعناه الحقيقي وبملكاته المتعددة فقد اتجه نحو الزوال. ويعد هذا الأمر هبوطاً للإنسانية. أي انقلب الإنسان من كائن -هو هدف الكون- إلى مجرد آلة بسيطة وإلى متاع بسيط. والمشكلة الرئيسة للدولة المعاصرة هي هذا النوع من الإنسان. لذا فقد توجّهت جميع النشاطات الروحية والمعنوية والثقافية لإنقاذه. أجل، إن الإنسانية متوجهة الآن في كل مكان نحو القيم المعنوية التي تهب الإنسان قيمته الحقيقية. ولا يهدف هذا التوجّه إلى أي غاية سياسية في المجتمع.
كان بعض المفكرين والسياسيين الغربيين يعتقدون في البداية، أن ترسخ الديمقراطية التي تحتضن جميع الأطياف الثقافية واستقرارها يؤدي إلى زوال جميع المشاكل الاجتماعية، لأنهم كانوا يعتقدون بأن جميع المشاكل الاجتماعية نابعة من النواقص الموجودة في الديمقراطية وفي القوانين، وأن الصراعات القومية والعنصرية والثقافية والسياسية والأيدولوجية..الخ نابعة من وجود هذه النواقص. فإذا ما نجحنا في ترسيخ الحقوق الديمقراطية بجميع مؤسساتها، ويسرنا لكل المواطنين استعمالها والتمتع بها، انتفت الصراعات العنصرية بين الجماعات واختفت الصراعات الثقافية والاجتماعية.
واعتقد بعضهم أن هذه المشاكل ليست إلا ظواهر هامشية وضريبة لازمة لعملية الحداثة وزيادة الرفاهية الاقتصادية، وأنها نابعة من شعور بعضهم بأنهم تأخروا في اللحاق بركب الحداثة. لذا فإنهم ما إن تشملهم الرفاهية الاقتصادية ويغتنوا حتى يلتحقوا بركب المجتمع ويصبحوا جزءً منه.
منذ عصرين كان هناك مثل هذا التوقع من قبل المهتمين بالمشاكل الاجتماعية والسياسية. وكانوا يأملون أنه عندما يتبنى المجتمع فكرة المسامحة وتقبّل الآخر، ويهضم هذه الفكرة تماماً ويستوعبها، وعندما يتبع (36-35-34)كل فرد هذه المبادئ في علاقاته الشخصية والاجتماعية، لن تظهر هناك مشاكل كبيرة. بينما لوحظ أنه على الرغم من إتمام هذه المراحل فإن الخلافات الدينية والعرقية والثقافية استمرت في كونها مصدراً للصراعات. لقد قدّمت الديمقراطيات الغربية نماذج جيدة من مجتمعات ذات مشاركة جماعية وغنية اقتصادياً. ولكن الصراع الاجتماعي لم ينته عندها، وتتعرض ديمقراطياتها الجماعية إلى هجوم متعدد الجهات من قبل لوبيات (جمع لوبي) الضغط مثل لوبيات الأقليات، وحقوق النازحين، والمؤسسات المدنية، وجماعات الضغط التي لها طلبات اجتماعية مختلفة. إذن فإن الديمقراطية وحدها لا تستطيع القضاء على المشاكل التي تتحين الفرصة للظهور. لذا فإن هناك محاولات للوصول إلى تعريف جديد للدول الديمقراطية المستندة إلى المشاركة الجماعية.
هناك اليوم أكثر من (180) دولة و(600) مجموعة لغوية و(5) آلاف مجموعة عرقية في العالم. ويوجد القليل جداً من البلدان التي يتكلم فيها المواطنون لغة واحدة ويرجعون إلى المجموعة العرقية نفسها. وهذا التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني يحمل بذور الخلاف والصراع. وهذه الخلافات الكامنة المستعدة للانقلاب إلى صراعات وضعت في الكثير من البلدان أسئلة وشكوكاً كثيرة أمام الديمقراطية التي توجه الحياة السياسية فيها. وقد أصبحت الصراعات العرقية والثقافية –ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة– أهم مصدر للعنف السياسي وأكثرها انتشاراً.
كل هذه المشاكل تهدد مستقبل المجتمعات البشرية، لذا فقد أصبح من الضروري إنشاء أسس ثقافة “المسامحة وتقبّل الآخر” بشكل عاجل، بحيث تكون أوسع وأشمل من التعامل الديمقراطي الموجود حالياً. ولا توجد طبعاً طريقة بسيطة ولا صيغة سحرية تقوم بحل كل هذه المشاكل وتتغلب عليها. فلا يطمحن أحد لهذا. قد يفيد العديد من الاقتراحات في ظروف خاصة، ولكنه لا يفيد على المستوى العالمي. فإن أخذنا تجارب مختلف الناس بعين الاعتبار واستطعنا التخلص من الأحكام المسبقة، لرأينا أن العديد من الحركات المحلية لها اقتراحات وحلول للعديد من المشاكل العالمية.
هناك العديد من المفكرين الذين يرون أن لفت الأنظار إلى المواضيع العالمية في خصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان والدين والأخلاق..الخ، هو الأمل في حل النزاعات التي مبعثها الفروق الثقافية. ويشارك العديد من المفكرين من الأوساط الدينية في هذه القناعة. هناك في أنحاء كثير من مجتمعات الدنيا أشكال من المعيشة الدينية، وأنواع من وجهات النظر حولها سلطت التطورات الاجتماعية والتاريخية الأضواء عليها. إن الديمقراطيات الغربية التي وعدت الإنسان بـ”نظرة عالمية” متكاملة وشاملة، انقلبت في وقت قصير وأقل من عمر إنسان إلى مبدأ تثور حول أسسه الفكرية والفلسفية والسياسية الشكوك والريب.
لقد ظهر أن عمر “العصرنة” أو”الحداثة” وأيدولوجية التقدم قصير. ولم يكن هناك مفر من قصر هذا العمر. لأن النموذج الذي أقامته هذه الأيولوجية للإنسان وللمجتمع كل يحمل طابعاً سياسياً ومادياً مفرطاً. لقد حاول المفكرون (38-37) والفلاسفة منذ القرن الثامن عشر، إنشاء مجتمع سياسي يكون من سماته، أنه مجتع مرتبط بالعقلانية قد طوّر جميع القيم المقدسة خارج الساحة الاجتماعية وأبعدها عنها. وأن تكون علاقاته الاقتصادية عقلانية وتتحرك ضمن دائرة المصلحة والمنفعة، وعقلانيا في علاقاته السياسية القائمة على استعمال القوة والتحكم. وعقلانياً في الساحة الاجتماعية والثقافية لأنه يقيم جميع علاقاته على أساس مادي.
كان هدف “العصرنة” أو”الحداثة” هو إزالة أنموذج “الإنسان الاعتيادي المرتبط بالتقاليد”. ولكي توفق في هذا اخترعت وسائل سياسية واجتماعية وثقافية معينة. كان الإنسان التقليدي([1]) أنموذجاً شعبياً، أي لم يكن يعيش لنفسه فقط، بل كان إنساناً مستعداً للتضحية في سبيل المجتمع والأمة والدين والإنسانية. ولم يكن يعمل بغريزة المنفعة الشخصية. بل كان يقوم بأعمال التعاون والتساند والمشاركة في ظل شوق ديني. كان يرعى الفقير والجار والمحتاج، بل يهتم بالمشاكل الإنسانية والأخلاقية في أرجاء العالم ويستنكرها.
ولكن الأيدولوجية العصرانية لم تكن تملك ولا تستوعب مثل هذا الأنموذج الإنساني المفرد الواسع القلب. لأنها كانت مادية صرفة، وأنموذجها الإنساني لم يكن هو “الإنسان” بل “الفرد” الذي يعيش مع مصالحه ومنافعه دون الاهتمام بالآخرين. وأيدولوجيته هي التقدم على الدوام.. أي الكسب والربح، ثم المزيد من الربح وزيادة رفاهه وغناه. لقد نجح هذا الأنموذج في أماكن قليلة في العالم. ولكن الناس سرعان ما لاحظوا –مع كونهم وصلوا إلى الغنى والرفاهية– أن المشاكل والصراعات الاجتماعية والثقافيةلم تنته. فكلما زاد رفاههم المادي زاد فقرهم الروحي. والمحطة الأخيرة التي وصلوا إليها في النهاية هي جو من عدم الإشباع الروحي. لذا بدأ الناس والجماهير والقطاعات الواسعة من الشعب ولوبيات الضغط، تحاكم وتحاسب النظام الذي يعيشون فيه في شكل منظمات مدنية واسعة كبيرة.
أجل، لقد انتظمت الحركات الاجتماعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كردود فعل للتوتر النابع من النظام السائد، وللأزمات الاقتصادية ولحركة العصرنة. وقد حاول علماء الاجتماع إيضاح هذا الأمر، ووضعوا نظرياتهم الأولى حول حركات ردود الفعل هذه. وكما ذكرنا أعلاه، فإن حركات ردود الفعل ضد العصرنة كانت حركات هامشية، وعندما وصلت نِعَمُ العصرنة ونظام الحياة إلى مستويات عليا، زالت واختفت ردود الفعل هذه. وإن “ثقافة المدن” و”المجتمع السياسي” كان هو الأنموذج الذي أنشأته العصرنة بعد أن أذابت كل شيء في قٍدرها. إلا أن الحركات الاجتماعية التي ظهرت بسرعة في الربع الأخير من القرن العشرين، كانت تختلف تماماً عن الحركات الكلاسيكية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وكانت لها أشكال وأهداف أخرى. وعلاوة على هذا فمعظم هذه الحركات ظهرت في أواخر مرحلة العصرنة، وفي مجتمعاتٍ وصلت إلى الرفاه الاقتصادي. وهذه الظاهرة كانت تعني إفلاس النماذج التي أسستها تحاليل علم الاجتماع الكلاسيكي حول الإنسان وعلاقته مع المجتمع. ولا شك أن الحركات الاجتماعية الجديدة تختلف في أدواتها وفي أهدافها عن سابقاتها.
(39-38)
وهكذا تظهر أهمية طراز الحياة الدينية التي بدأت بالظهور والانتشار في معظم بلدان العالم ضمن هذه المسيرة التاريخية والمادية والثقافة الاجتماعية. ونرى أن العنصر الإنساني هو أهم عنصر في أساس الأزمات الاجتماعية والسياسية الحديثة. فقد بدأ الإنسان يتساءل عن سبب وجوده في هذه الدنيا، ويبحث من جديد عن سبل لتحقيق ذاته. وهذه المشكلة هي مشكلة حاول الفكر الفلسفي حلها منذ العهود الأولى للفلسفة وحتى الآن. ولكن الجواب الشافي حول هدف وجود الإنسان على هذه الأرض جاء من الأديان السماوية. وبعد أن دفع الإنسان كل هذه الضريبة كبدل لوقوعه في كل هذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم يجد مفراً من الرجوع إلى قيمه المقدسة، وإلى القيم الإلهية السماوية التي تجعل الإنسان هدف الكون.
إن أنموذج “الإنسان الفاضل” الذي أكّدت عليه الأديان السماوية، أصبح هو الأنموذج الذي تسعى وراءه المجتمعات الحديثة. لا شك بأن الإنسان يحتاج إلى جهد جديد. وهذا الجهد عبارة عن محاولة إقامة إنسان المجتمع بكل عمقه.. أي، إقامة الإنسان المضحّي الوفي والمجهّز بالقوى المعنوية من جديد. أي، الإنسان الذي يعبّر عنه المثل القديم ويصفه بأنه الناذر نفسه للمجتمع في “درب الحق” وإنشاء جيل جديد بهذا النمط. ولا يستطيع منطق العصر الحديث فهم روح هذا النذر، لأنه طراز من العيش بعيد عن ذهنه وتفكيره. بينما أُنشئت جميع المدنيات السابقة والدول والإمبراطوريات وجميع القيم، من قبل أشخاص يملكون مثل هذا الروح.
ويبذل علماء الاجتماع ومهندسو المجتمع، جهوداً كبيرة لإنشاء هذا النموذج الإنساني وتكوينه من جديد. ويحاولون تطوير خطط ونماذج جديدة في هذا الصدد. وهم يخشون خشية كبيرة على ألا ينجحوا في هذا المضمار، لأنهم على علم بالمخاطر الكبيرة التي ستتعرض لها المدنية المعاصرة. أجل، فالمدنية المعاصرة في حاجة ملحّة إلى أشخاص يحملون روح التضحية، وينذرون أنفسهم للمجتمع من جهة، وتحتاج من جهة أخرى إلى حوار جدي بين القيم الجماعية التي تنتجها الأمم التي تنتسب إلى ثقافات وحضارات مختلفة في هذا العالم.
وفي هذا الجو يكتسب محمد فتح الله كولن وأهداف حركته أهمية كبيرة. ولما كنا سنتناول هذا الموضوع في هذا الكتاب بصورة مفصلة، فإننا نقتصر هنا على نظرة عجلى ووجيزة. إن الباعث وراء حصول حركة فتح الله كولن ورسالته على مثل هذا الاهتمام، هو هذه الخلفية التاريخية والاجتماعية من جهة، وشخصيته القيادية الفذّة من جهة أخرى. لذا فعلى الرغم من عدم قيامنا هنا بتحليل شخصيته، فلا بد من أن نلقي نظرة قصيرة على قصّة حياته.
(40-39)
مَن هو محمد فتح الله كولن؟
ولد محمد فتح الله كولن عام 1938م. في قرية “كوروجوك” العائدة إلى قضاء “بسينلار” في محافظة “أرضروم” في عائلة محافظة لها سبعة أولاد، خمسة منهم ذكور وبنتان. عمل والده “رامز أفندي” إماماً حكومياً في جوامع مدن عديدة.
تقع مدينة أرضروم في الشمال الشرقي من تركيا، وهي مدينة محافظة بمقياس كبير من الناحية الاجتماعية والثقافية. وقد حملت عصوراً طويلة القيم الدينية والملية وحمتها.
قضى محمد فتح الله كولن طفولته في هذه البيئة المحافظة على القيم المعنوية وفي جو كلاسيكي من أجواء التكية والمدارس الدينية. ولكنه كان يحمل بين جوانحه عشقاً للعلم وفضولاً كبيراً. ولم يكن في مقدور هذه البيئة الضيقة إشباع تطلعاته. لذا توجّه –وهو في هذه المرحلة المبكرة من عمره– بعقله واهتماماته إلى النشاطات الثقافية والسياسية والاجتماعية للعالم الخارجي. وبتعبيره هو فقد كثّف اهتمامه من حين لآخر في السنوات الأولى من وجوده في المدرسة الدينية على المشاكل الاجتماعية. وكلما كَبُر هذا الدماغ الصغير ونضج شيئاً فشيئاً، بدأ بالتعرف على دنيا الفن والأدب والسينما والمسرح والحركات الفكرية الموجودة في بيئته.
أنهى تعليم المدرسة الدينية في وقت قصير، ولكنه لم يجد فرصة للتعلم في المدارس الرسمية. كانت سنة مولده، هي السنة التي توفي فيها باني تركيا.([2]) ولم تكن جميع مؤسسات الجمهورية قد ترسخت بعد. وكان البلد يشهد منذ عهد التنظيمات وحتى تلك السنوات، مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بعضها قديمة، والأخرى في طور الولادة. كانت الطبقة المثقفة قد هزمت أمام الحضارة الغربية وحيث راحت تشعر بالصغار أمامها وبعقدة النقص. وهناك عدد لا يحصى من الأفكار التي وضعت للنقاش منذ عهد التنظيمات وإلى الآن، حتى اهترأت من كثرة النقاش، كما تُرك معظمها دون أي حل. حتى أن الطبقة المثقفة نفسها تعبت من مناقشة بعض المسائل ووضعتها على الرف وعلاها الغبار. كما تم تجاهل العديد من المشاكل المتعلقة بالإسلام وبالحياة الاجتماعية والدينية. كانت الديمقراطية التركية تحمل قابلية الانكسار، وهي تراوح ما بين نظام الحزب الواحد ونظام الأحزاب المتعددة.
وقد انتبه الذهن اليافع والحساس لـ”محمد فتح الله كولن” في السنوات المبكرة من عمره إلى المسائل والنزاعات السياسية والحزبية والأزمات الاقتصادية المتعاقبة، والفقر السائد والمشاكل الاجتماعية العديدة. وبدأ وهو صبي يافع بالتفكير الجدي في علاج وفي حلول لما انتجه انحطاط عصرين كاملين. تناول “فتح الله كولن” من جديد هذه المشاكل الثقافية المزمنة القديمة في ضوء القيم الثقافية الحديثة، وحاول القيام بتحريك وهزّ الحركات الفكرية التي كانت تغط في نوم عميق منذ عصرين، ووضعها أمام المسلمين كمشاكل عاجلة تتطلب الحل، وذلك بعد فرز (41-40) المسائل الحيوية من بين هذه المشاكل المعقدة والمتشابكة. وكان يرى أنه لا بد من حماسة جديدة وشوق جديد ورغبة في حلها.
غير أنه كانت هناك صعوبة معينة. كان هناك منذ عصرين خطان اثنان حول أسباب الانحطاط والحلول المقدّمة لها في ظل المدنية المعاصرة، وحول كيفية الاشتراك في هذه المدنية، أحدهما من قبل الأوساط الدينية، والآخر من قبل الأوساط المثقفة بالثقافة الغربية. كان الخط الأول محافظاً جداً. بينما أنكر الخط الثاني تاريخ الأمة وتقاليدها وقيمها الاجتماعية، محاولاً الدخول إلى العالم المتمدن دون هوية ودون شخصية.
وبينما كان الخط الأول يبحث عن ديناميكية وآلية التقدم في التقاليد والأعراف وفي القيم الاجتماعية والتاريخية المقبولة من قبل. كان الخط الثاني يرى أن الحل يكمن في القيم المادية والثقافية، وفي طراز الحياة الذي جاءت به
الحضارة الغربية. وطبعاً كان هناك من اقترح طريقاً ثالثاً ورابعاً، ومن اقترح مزج الخطين الأول والثاني. وكما ذكرنا فقد نشأ فتح الله كولن في بيئة محافظة جداً. لذا كان من الطبيعي أن يسير في الخط المحافظ التقليدي، لأن أي فكر جديد أو تفسير جديد كان يعدّ خارج نطاق المقبول آنذاك. وفعلاً نرى أن محاولاته الأولى قوبلت بردود فعل من هذا القبيل.
ومع أن فتح الله كولن إنسان محافظ مرتبط بقوة بالقيم التقليدية، إلا أن هذه القيم الثقافية التقليدية لم تكن مانعة له من القيام بمواجهة المدنية الغربية المعاصرة. لذا نرى أن مساهمته كانت من الناحية الفكرية والنظرية ومن الناحية العملية محتوية على تفاسير جديدة للفكر المحافظ وللفكر الحديث. لذا نرى -سواء في نشاطاته الدينية الأولى والاجتماعية أم في نشاطاته في ساحة التعليم فيما بعد- أنه كان يحاول إظهار عدم وجود تناقض أو صراع بين القيم الثقافية الدينية والحقائق العلمية، بل وجود تلاؤم كبير بينهما، وأنهما يستطيعان تقديم خدماتهما إلى الإنسانية. لم يحاول فتح الله كولن إخفاء هويته الدينية أبداً، لأنه حقّق ذاته ضمن تجربة دينية وروحية عميقة، ورأى حكمة وجوده في هذه التجربة. فهو لا يوافق على صحة عزل هوية أي إنسان وتجربته الدينية والروحية عن كيانه الاجتماعي. لذا فهو يملك نظرة عالمية عامة. فهو يؤكد على الدوام أن الإنسان المتدين الحقيقي سيكون ذا فائدة كبيرة للمجتمع وللدولة وعاملاً في رقيهما. وبينما نرى أن المفكرين المعاصرين يركزون اهتمامهم على مسائل معينة كالدولة والمدنية والاقتصاد، نرى أن فتح الله كولن يتّجه إلى “الإنسان” الموجود في أسس هذه الاهتمامات. وهو يرى أن أهم مشكلة في المدنية المعاصرة هي مشكلة تعليم وإعداد الإنسان وتربيته. فإن أصبح الإنسان إنساناً فاضلاً، أصبحت الدولة فاضلة، وكذلك المدنية والأقتصاد. ثم إن فتح الله كولن لم يتناول الإنسان كموضوع للنقاش على المستوى الثقافي، بل حول هذا الموضوع إلى مشروع جدي في الحياة العملية.
(43-42) من جهة أخرى فإن تصرف أي شخص محافظ أمام المسائل الجديدة يكون عادة الاستمرار في السير على الخط المحافظ لأنه يراه أكثر أماناً. والأفكار الجديدة والنظرات الجديدة لم تكن تكتسب شرعية إلا بمقياس عدم تعارضها مع القيم التقليدية ومع الأقوال التي ترسخت وتشكلت ضمن مراحل التاريخ الطويلة. لأنه كان يُخشى أن تختلط بها الآراء والتجارب الشخصية. ولكن محمد فتح الله كولن حاول تجربة تقديم خط جديد في هذا الصدد. فهو من جهة متمسك بشعور الثقة التي تهبها قيم التقاليد، ومتمسك من جهة أخرى بالقيم الاجتماعية الجديدة.. كانت هذه محاولة كبيرة في عملية التركيب الفكري (Synthesis).
وجد فتح الله كولن نفسه في المحيط الذي نشأ فيه بين قيم حضارتين. بين قيم المدارس الدينية والثقافة الإسلامية، وقيم الثقافة الغربية المعاصرة والحضارة الأوروبية. لقد عاشت ثلاثة أجيال قبله في حمى البحث عن هويتها بين هاتين الثقافتين والحضارتين. ولم يكن هذا البحث -في الأقل بين هاتين الحضارتين- عن الهوية، قاصراً على التجربة التركية. فقد عاشت جميع البلدان عدا بلدان الحضارة وجميع الثقافات، عهد بحث ونقاش حول طبيعة هويتها.
كان “محمد فتح الله” يرصد التغير الثقافي عن قرب. لم يكن رجلاً محافظاً يكتفي فقط برصد التطورات والتغيرات الاجتماعية ويتركها لتيار الزمن. ولم يكتف –كرجل محافظ– بمشاعر عاطفية، والتحسر على التغيرات الاجتماعية والأخلاقية التي تجري أمام ناظريه. بل استعمل مخزونه الشخصي وتجاربه أمام هذه التغيرات ونسج علاقات فعالة معها. أي فضّل الاستعانة بالقيم التقليدية التي تملك ماضياً عريقاً وطويلاً، والمساهمة بها بشكل واعٍ في التغيرات الاجتماعية اليومية. أي وسع مثله الأخلاقية والشخصية والثقافية.
دخل “فتح الله كولن” محيط هذه الأفكار وهو في الخامسة عشر من عمره. فقد كان شاباً يافعاً نضج مبكراً. والحقيقة أنه لم يعش لا طفولته ولا شبابه، فبيئته المحافظة والمدرسة الدينية التي درس فيها جعلته شاباً ناضجاً في وقت مبكر. كان يحمل في قلبه تجربة روحية ومعنوية عميقة، وفي عقله نشاطاً وحماسة كبيرة.
ميراث الخطابة الشفوية
إن فهم حركة محمد فتح الله كولن وهدفها، مرتبط بفهم موضوع تقاليد المسامرة في المجالس والخطابة والحديث الشفوي في العالم الإسلامي، وإدراك طبيعة هذه التقاليد وهذه العادات. كانت المحادثة والخطابة من أهم وسائل نقل الثقافة منذ ظهور الإسلام. وكانت منظومة الفكر الإسلامي الموضوعة من قبل المعاهد الدينية تنقل عن طريق الخطابة والمواعظ والمسامرة في المجالس والجوامع (45-44-43) إلى الجماهير العريضة. وكانت الجوامع هي المراكز الطبيعية لهذه الوسائل. كانت هذه الجوامع مراكز إنتاج الثقافة الإسلامية على المستوى الجماهيري والشعبي. وظهر فن الخطابة والمسامرة بخطوطه الأصيلة في هذه الأماكن. كما كانت الجوامع أهم عنصر في الحضارة الإسلامية وفي ثقافة المدينة. لأنها كانت نقطة التقاء جماهير المدينة وجماهير السوق. أي كانت تقوم بدور مهم في تشكيل وعجن الثقافة الإسلامية.
إذن، فإن البيئة التي نشأ فيها محمد فتح الله كولن، هي هذه البيئة. كان قبل كل شيء خريج المدرسة الدينية. وكان يعيش حياة متداخلة مع الجامع ومع الجماهير الواسعة التي تؤمها. كان الانعاكس الاجتماعي للفكر الديني ولطراز الحياة والعقيدة، حول هذا المحور. وهو يقول بأنه في السنوات الأولى من دوامه في المدرسة الدينية، عندما صعد كرسي الوعظ ليلقي أول موعظة له، كان طوله أقصر من ارتفاعه الكرسي. عاش حياة يطبعها طابع الحماسة منذ صغره. وقد عكس هذه الحماسة على خطبه التي كان لها طابع خاص به. وعندما صعد المنبر للوعظ اكتشف التأثير الإيجابي للوعظ على الجماهير منذ عصور عدة. وقد نذر نفسه وهمته لاستعمال فن الخطابة كواسطة للإرشاد والتبليغ، ولإثارة عواطف الجماهير فيما يخدم المجتمع والدين والملّة. واتخذ من آية ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نبراساً له. لقد أظهر بقابليته الفذة في الخطابة، مدى فاعلية “الكلمة” وتأثيرها. حيث كانت هذه الفاعلية تاريخية وعاشت عصوراً عدة.
لعل الخطابة كانت أهم جوانبه انعكاساً إلى الخارج. فالعديد من الناس لا يعرفون عنه سوى أنه خطيب مفوه. وقد ظلت جوانبه الأخرى كالعلم والعرفان وقريحته الواسعة لسنوات طويلة، في ظل هذه القدرة الفذّة على الخطابة. بينما كان يملك معرفة واسعة في العلوم الإسلامية وفي العلوم الغربية المعاصرة. ولكن هذه القابليات بقيت في السنوات الأولى من نشاطه كجوانب غير معروفة. ثم بدأت مقالاته وأشعاره تظهر في مجلات مختلفة. واهتم لسنوات طويلة (إلى جانب العلوم الدينية) بالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأدب والفن. أي، اهتم بالعلوم الحديثة أيضاً. وكان يستعمل هذه العلوم بنسبة حاجة الجماهير للتثقيف والإرشاد. أي، استعمل هذه العلوم كواسطة تبليغ.
هناك الشيء الكثير الذي يمكن أن يُذكر حول قابلية الخطابة لدى فتح الله كولن. ولكن نستطيع أن نقول باختصار بأن “قوة الكلمة” التي همدت منذ زمن ونامت، قد بعثت من جديد واستيقظت بفضل أسلوبه الحماسي الجديد وطابع إخلاصه.
بدأت وظيفته الرسمية للمرة الأولى في عام 1959م، عندما فاز بالامتحان الذي رتبته “مديرية الشؤون الدينية”. ودامت هذه المرحلة ثلاثين عاماً قضاها إماماً واعظاً (46-45) ومدرساً للقرآن الكريم وإدارياً. فقد عمل واعظاً في محافظات “أدرنة”، و”كِيركْلَر أَلي”، و”إزمير”، و”أدرميت”، و”مانيصا”، و”جنق قلعة..” وفي غيرها. وفي هذه المرحلة من وظيفته الرسمية كواعظ، تشكلت تجربته الأولى وممارساته وحواره وعلاقاته مع الجماهير.
وبفضل قابليته الفذّة في فن الخطابة وإخلاصه وقدرته في تحريك المشاعر الدينية والملية لدى الجماهير، وبفضل هذه الخطب والمواعظ، تجددت آمال وحماسة الجماهير التي كانت قد همدت منذ زمن طويل. لقد وجد الآلاف بل عشرات الآلاف من الناس أنفسهم في جو هذه الخطب الدينية والملية، واكتسبوا الثقة بقيم حضارتهم.
بدأت النشاطات الأولى لـ”محمد فتح الله كولن”، كشخص واعظ متنقل يجوب المحافظات. لذا كان جانبه الخطابي واتصاله مع الجماهير ومواجهته لهم أهم سمة منعكسة على الخارج منه.daha iyi bir cümle olabilir. كان طعامه وشرابه وملبسه على علاقة بالموقف الاجتماعي والنفسي للجماهير التي يخاطبها. عاش وهو يهتم جداً بكل حركة تبدر منه، وبكل كلمة تخرج من فمه، ويتصرف بشعور شخص موضوع تحت المراقبة. لذا فهو يقظ على الدوام. ولا ينبع هذا من رغبته في الاحتفاظ بحسن ظن الجماهير المتدينة، إنما هو تصرف شخص يشعر برقابة الله تعالى على كل حركة من حركاته، وكل كلمة من كلماته. فهو شخص زاهد وعابد و”درويش” على النمط الحديث. فالشعور بالعبودية، هو السبب وراء جميع تفاصيل سلوكه وتصرفاته ومشاعره وأحاسيسه العميقة، ووراء وقاره وهدوئه. فكل حركة من حركاته، وكل طور من أطواره، وكل تصرف من تصرفاته.. معيّر تماماً ومنضبط.
بعد رياضة نفسية شاقة استغرقت أعواماً عدة، تطهرت عنده جميع حالات الانفعالات البشرية غير المنضبطة وتصفت. ومرت جميع مشاعره من مصفاة هذه التربيةcümle daha da iyi olabilir. فنراه وهو في ذروة الحماسة في خطبه وقوراً مسيطراً على نفسه، بينما نرى الكثير من الخطباء يفقدون السيطرة على أنفسهم في خضم شعورهم الحماسي وفي جو حماس الجماهير. وبعد أن تنحسر الحماسة تبقى هناك العبارات غير المناسبة التي تفوهوا بها، وتكون مصدراً لإثارة المشاكل لهم. بينما كان محمد فتح الله كولن، حين يرتقي المنبر ينشر جواً من الوقار والجدية فيما حوله، فلا يسمح لنفسه ولا للجماهير أن تبدر منه أو منها كلمة أو تصرف غير لائق. كان يشعر قبل خروجه أمام الجماهير بآلام تشبه آلام المخاض. وكان يعتني عناية خاصة ألا يخرج من فمه أي فكر أو كلام لم يأت أوان التصريح به. فإن لم نفهم رهافة حسّه بالكلمة، فلن نستطيع إدراك القدرة الفنية التي يتمتع بها لإيصال كلمته إلى الجماهير في خطبه ومسامراته، دون إثارة أية حساسيات اعتراضية يمكن أن تضعه في موضع المساءلة. إن حركة محمد فتح الله كولن شكلت منهجها وطريقتها المستقلة في نشاطها الديني والاجتماعي. والملامح الثقافية التي شكلتها هذه الجماعة ملامح أصيلة نابعة من نفسها مع كونها مرتبطة بالتراث.
وكلما زاد ارتباط فتح الله كولن بالجماهير وزاد امتزاجه بها، زادت علاقته بمشاكل الجماهير.(48-47-46) وهذه العلاقة الحميمة القريبة من الجماهير ومن مشاكلها الأساسية، دفعته إلى البحث عن حلول لها. في هذه الأثناء اطلع على جميع التيارات الفكرية والسياسية في البلد وعلى الحلول المطروحة، حيث أمعن فيها النظر لمعرفة درجة صلاحيتها وواقعيتها. فتأملها وفكّر فيها بعمق. ثم اتجه إلى مشاكل العالم الإسلامي ووجد الفرصة لتوجيه قريحته نحو عالم أوسع. ونتيجة لرحلته الفكرية هذه، وجد أن المشكلة في بلده وفي العالم الإسلامي، وربما في الحضارة الحالية كلها، هي مشكلة الإنسان وتعليمه وتربيته وتدريبه. وفي بداية السبعينات حاول تطبيق خطته في التعليم والتربية على الطلاب الشباب، ثم في المدارس التي أنشأها في معظم بلدان العالم. فانتقل من النظرية إلى التطبيق العملي.
وبينما استمر في عمله ومهنته واعظاً، بدأ من جهة أخرى القيام بترتيب دورات تعليمية ومخيمات صيفية للطلاب. وبدأ يؤكد في خطبه ووعظه أن بناء المدارس في هذا العهد، أفضل من بناء الجوامع،ifade yumuşatılabilir ليستنهض همم الناس إلى بناء المدارس. ولكن سرعان ما جاءته انتقادات من بعض الأوساط المحافظة. لأن هذه الأوساط كانت مهتمة بالمشاريع ذات الأمد القصير. بينما كانت مشاريع التربية والتعليم ذات أمد بعيد. كما لم تكن هذه المشاريع، من المشاريع التي تهتم بها هذه الأوساط بشكل مباشر. لذا فلم تكن على وعي بالآثار الاجتماعية العميقة لها على المدى البعيد. ونظرت أوساط محافظة أخرى إلى هذه المشاريع باستخفاف ولم تأخذها مأخذ الجد.
وقد حاول فتح الله كولن لسنوات عديدة في خطبه ومواعظه بشكل مباشر أو غير مباشر، إقناع وتنوير الأوساط المحافظة بفائدة مشاريع التربية والتعليم. وخطا خطوات فعلية في هذا المجال ليكون قدوة لهم. كما بذل جهداً كبيراً في إقناع الأوساط الحكومية الرسمية، بأنه لا يستهدف من هذه المشاريع سوى مصلحة الجماهير وخدمة الروح والهوية الملية، ولا يحمل أي هدف سياسي أو أيدولوجي. وقد كانت المؤسسة التي أنشأها لهذا الغرض مؤسسة مدنية أفرزها النشاط المدني. إذ لم يكن يوجد فيها أي تجمع أو أي معارضة سياسية. ولم تتوجّه هذه المؤسسة إلى أي هدف يتعارض مع أهداف الدولة القائمة. ولا إلى أي غاية تتصادم مع القيم الرسمية للدولة. لأن الجهود كلها كانت موجهة نحو تعليم وتربية الشباب والجماهير.
وقد بدا فتح الله كولن شخصاً من الأشخاص النادرين في التاريخ الإسلامي، الذي تستمع لخطبه ومواعظه كتلة كبيرة من الجماهير من مختلف الثقافات والأطياف. وفي التسعينات بدأت هذه المدارس (الابتدائية والثانوية) التي أنشأها في تركيا بالاشتراك في المسابقات العلمية العالمية، حيث أثبتت جدارتها في مدة قصيرة بالنتائج الجيدة (50-49-48) التي حصلت عليها، والنجاحات الرائعة التي سجلتها. كان هذا دليلاً على أن هذه المدارس أُرسيت على قواعد علمية رصينة. وبتعبير آخر كانت هنا إشارة إلى مدى نجاح مشروع التربية والتعليم الذي بدأه فتح الله كولن ووضع على عاتقه مهمة إنجازه.
أصبح فتح الله كولن بفعالياته هذه ونشاطاته حديث الساعة في تركيا، وبؤرة اهتمام كبار موظفي الدولة ورجال السياسة المحايدين، والأكاديميين والأوساط المثقفة ووسائل الإعلام. وأصبحت أعوام التسعينات، أعوام الانطلاق إلى العالم الخارجي من جهة، وأعوام إجراء الحوارات مع مختلف الفئات وبشكل واسع من جهة أخرى. أي بدأ عهد حوار لم يحدث مثيل له في التاريخ الحديث لتركيا. بينما كانت تركيا قبل الثمانينات مسرحاً لنزاع وصدام العديد من الحركات ومن التيارات الأيدولوجية. وقد قُتل الآلاف من الشباب في أثناء الصدامات التي جرت في هذه الحركات الشبابية. واهتزت تركيا من أعماقها بتأثير النزاعات الأيدولوجية التي عمّت أيضا العالم كله. ولكن فتح الله كولن، استطاع أن ينقذ محبيه والجماهير العريضة التي كان يخاطبها، من الانزلاق إلى هذه النزاعات والخصومات، ويبعدهم عنها. وأبدى في هذا الأمر عناية خاصة بصبر وتأنٍ.
في عام 1980م، حدث انقلاب عسكري شاع في أعقابه هدوء كبير لفّ البلد. لقد خسر البلد في الستينات والسبعينات ثلاثة أجيال، واستولى التعب واليأس على الناس. أما أعوام الثمانينات، فكانت أعوام قيام الحركات الفكرية والأيدولوجية بمراجعة نفسها ومحاسبتها. ولكن النزاعات انتهت في الشوارع والساحات فقط، لأن الرؤوس والأذهان كانت لا تزال مملوءة ومقسمة بالحواجز الأيدولوجية. في مثل هذا الوضع الاجتماعي، بدأ فتح الله كولن بإرساء ثقافة الحوار وقبول الآخر، وبثقافة إبداء المرونة والابتعاد عن التعصب. واستطاع أن يكون مقنعاً، لأنه كان معماري مشروع على النطاق العالمي، لذا أصبح محط الاهتمام وموضوع الساعة.
التجارب الأولى في طريق الحوار والتفاهم
قام محمد فتح الله كولن بعد ذلك بمحاولات وتجارب أولية لمشروعه الكبير لإرساء قواعد الحوار بين الحضارات. فقام بعقد اجتماعات بين ممثلي مختلف الأفكار، وبين ممثلي مختلف أنماط المجتمع وأديانه، ومع الذين دخلوا في صراعات فعلية فيما بينهم في الستينات وفي السبعينات. والذين استمرت خلافاتهم في الساحات الفكرية والاجتماعية، وانقسموا إلى معسكرات مختلفة.. وجد هؤلاء أنفسهم يجلسون لأوّل مرة حول منضدة واحدة مع مخالفيهم في الرأي والأيدولوجية. كانوا يرون مخالفيهم عن قرب للمرة الأولى ويتحدثون معهم. كان هؤلاء من الذين ربما شهر أحدهم السلاح في وجه الآخر في السابق، أو في الأقل قادوا (51-50) تيارات مختلفة ومتعارضة من الحركات الشبابية. جلسوا حول مائدة واحدة وجهاً لوجه يتناولون الطعام ويسأل أحدهم عن أحوال الآخر.
صحيح كان الحديث في هذه اللقاءات الأولى لا تتجاوز كلمات المجاملة، ولكن كان هناك من بين الحاضرين من أعجب بهذه الاجتماعات، وبدت عنده أمارات الرغبة في إرساء القواعد الفكرية والفلسفية والاجتماعية لهذه الاجتماعات. وبمرور الزمن نتجت عن هذه الرغبة اجتماعات مدينة “أبنت”([3])(Abant)، أو ما أطلق عليه اسم “منبر أَبَنْت للحوار”. لم تعد هذه الاجتماعات اجتماعات مجاملة، فقد شكل هنا كادر علمي جاء أعضاؤه من مختلف الجامعات ومن مختلف الاختصاصات ومن مختلف المدارس الفكرية. وانقلب الصراع هنا إلى صراع فكري وعلمي.
لقد جاء هذا الكادر العلمي الذي ينتمي كل منهم إلى مدرسة فكرية مختلفة إلى هذه الاجتماعات لتأسيس ساحة مشتركة من التفاهم والعيش معاً في تركيا دون صراع. كان هذا دون شك مشروعاً كبيراً لا شبيه له. كان فتح الله كولن وجماعته في أول الأمر هم الذين يديرون هذا المنبر، ولكن ما أن اتسع مجال ونطاق هذه الاجتماعات حتى انقلب هذا المنبر –نتيجة اشتراك عدد كبير من المفكرين والعلماء في ساحات الفكر والعلم والقانون والسياسة– إلى منبر مشترك وإلى برنامج عمل. ولا يشغل فتح الله كولن سوى الرئاسة الفخرية لجمعية “الصحفيين والكتّاب” التي تقوم بترتيب هذه الاجتماعات وتمويلها. أي أن اجتماعات الحوار هذه أخذت قالبها المؤسساتي على يد هؤلاء الأكاديميين وأصبحت تحت تصرفهم.
وقْف الصحفيين والكتّاب: نحو حوار بين الأديان والحضارات:
تأسس وقْف الصحفيين والكتّاب عام 1994م. وكان لافتتاحه صدى كبيراً في وسائل الإعلام. حيث تأسس في البداية لتفعيل وتنشيط جو من الحوار وحسن النية. وكان هذا هو رأسمال الوقف في البداية. ولكن سرعان ما أعقبت اللقاءات على موائد الطعام فعاليات اجتماعية وثقافية مختلفة. فقد امتلك الوقف مجلتين ودار نشرٍ لإرساء القواعد الفكرية لاجتماعات “أبنت”.
إلى جانب هذا، بدأ المشاركون في الولائم من مختلف الاتجاهات والإنتماءات بتأسيس صداقات جديدة. وظهر ولأول مرة أن للفروق والاتجاهات المختلفة مثل هذه الجاذبية وهذا السحر. لأنه سرعان ما أدرك جميع الأطراف كيف أن الفروق والاختلافات ليست سوى وجه من أوجه الغنى والثراء. فأصبح ثمة تلاؤم وانسجام تام بين معتنقي مختلف الأديان. كان هذا أول حوار حار بين هؤلاء (52-51) لأنهم لم يروا منذ سنوات عديدة، بل ربما منذ عدة عصور، أرضية مشتركة للحوار مثل هذه الأرضية. لذا فقد أيّدوا هذه الحوارات بحرارة. ولعلهم لم يتوقعوا في البداية أن ينشأ جو كمثل هذا الجو الحار، ولم يتوقعوا أيضاً تحول هذه الحوارات التي جرت على موائد الطعام إلى حوارات بين الأديان والحضارات.
لقد مهدت الحياة العصرية للإنسان سبلا وتسهيلات كثيرة، ولكنها في الوقت نفسه زادت من مشاكله، ولعل من أهم هذه المشاكل هي التحريضات السياسية والامبريالية التي تثير الخلافات بين الأديان والحضارات. وكانت العلاقات الدولية تتأثر سلبياً بهذه التحريضات. وأصبح السلام العالمي –الذي لم يتحقق أبداً على الرغم من كثرة الحديث حوله– في خطر مستمر. لذا بدا أن الحوار بين الحضارات والأديان هو الأمل الوحيد للإنسانية.
هذا هو باختصار كيفية توسع وتطور خطب ومواعظ فتح الله كولن الحماسية التي وجهها إلى الجماهير الشعبية. ولا شك أنه لولا أفقه الواسع، وحدسه القوي وأسلوبه اللين الداعي إلى التعايش معاً دون نزاع، لما حدثت هذه الموجة من الحماسة والأمل. ولا نستطيع طبعاً إهمال التأثير القوي للتدين الصحيح وللثقافة الدينية على كتل الجماهير.
وقد جرت نقاشات عديدة في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية حول الهوية الدينية لـ”فتح الله كولن”. لأنه لم يخطر على بال أحد قيام شخص محافظ ومتدين، بمثل هذه الفعاليات وبمثل هذا الانفتاح الاجتماعي. ومَن يدري، فلعلهم لم يهضموا بعد مثل هذه الهوية الدينية. ولكن الخطأ الرئيسي لهؤلاء يكمن في أنهم حسبوا أن فتح الله كولن واعظ كلاسيكي مثل غيره من الوعّاظ الاعتياديين. لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه –إلى جانب إلمامه بالعلوم الإسلامية الأساسية– كان ملماً بالفلسفة الغربية وبالعلوم الاجتماعية. ولا يعلمون قدرته على مزج الثقافات المختلفة في بوتقة واحدة، من أجل الوصول إلى حلول للمشاكل الاجتماعية للمجتمع المعاصر. والخلاصة أن فتح الله كولن أصبح -وبشكل تدريجي– بنشاطه الإسلامي الاجتماعي وبقريحته النفاذة، مادة للدراسة من قبل علماء الاجتماع والأكاديميين.
(53-52)
حركة محمد فتح الله كولن والإسلام
لنؤكد أوّلاً بوضوح، أن حركة محمد فتح الله كولن لا تملك بنية أيديولوجية، ولم تسع إلى تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية. فقد عارض محمد فتح الله كولن، تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية، أو تفسيره على هذا النحو. لذا كان من الخطأ النظر إلى حركة محمد فتح الله، كحركة دينية تتحرك ضمن أيديولوجية إسلامية كلاسيكية.
وكما هو معلوم فإن أهم عامل في نقل الدعوة الإسلامية الكلاسيكية إلى مستوى دولي هو عامل الاحتلال والاستعمار. ومعلوم كذلك أن حركة الاستعمار لم تكن موجهة نحو العالم الإسلامي فقط، بل نحو جميع بلدان العالم الثالث. وأنها قامت بتنظيم حركة “الاستشراق” التي هي حركة فكرية سياسية وأيدولوجية. قامت حركة الاستشراق هذه بِعَدِّ جميع الثقافات والحضارات خارج الحضارة الغربية، نوعاً من الوحشية والتخلّف. وهذه الثقافة السياسية التي تعوّدنا عليها منذ عصرين، كانت عملية تمييز سطحية بين الغرب و”الآخرين”.
وقد استند الاستشراق مدة عصرين إلى هذه الأيدولوجية في علاقته مع أقطار العالم. إن الاستشراق ليس سوى أيدولوجية سعت منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، إلى تسهيل التوسع السياسي والعسكري والاقتصادي للغرب، وتأمين التحول الثقافي الذي يستلزمه هذا التوسع. أي، إن “الاستشراق” كان يحمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته. وهكذا ولدت في العالم الإسلامي، الأيدولوجية الإسلامية الكلاسيكية ضد هذا الاستعمار والاستغلال. ولا شك أن الوضع العالمي الحالي مختلف عن الوضع والظروف السياسية التي ولدت الاستشراق وولدت الأيدولوجية الإسلامية الكلاسيكية.
لقد انفصل الوضع العالمي عن الأسس الأيدولوجية التي ارتبط بها الاستشراق الكلاسيكي، واتجه نحو وضع أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية، إلى قيم عالمية مشتركة. وهذا التطور في الوضع العالمي دفعت الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي إلى نوع من التغيير والتطوير. لا شك في بقاء بعض الحركات الإسلامية الهامشية في العالم الإسلامي التي تتحرك ضمن الأيدولوجية الإسلامية السياسية الكلاسيكية. إلا أن هذه الحركات لا تملك سوى قوة مادية وجماهيرية ضعيفة، كما تفتقر إلى التنظيم الأيدولوجي. وأفق هذه الحركات أفق ضيق. (؟؟؟؟؟؟؟ فيه نظر )
لذا فمن الخطأ الوقوع في خوف وفي خشية مما يجري حالياً في العالم الإسلامي، واعتباره نتيجة للفعالية السياسية للإسلام، وتهديداً موجهاً للعلاقات الدولية.(55-54-53) ولا سيما حركة فتح الله كولن. لأن الآلية الأساسية في هذه الحركة، هي ماهيتها الدينية والثقافية والاجتماعية البعيدة عن الصبغة السياسية والأيدولوجية. وقد بقى الشيخ فتح الله كولن طوال حياته، بعيداً عن الفعاليات السياسية وعن الأهداف السياسية. ولم يقدم الإسلام –في أي وقت من الأوقات– كأيدولوجية سياسية، بل رأى أن هذا الأسلوب من التبليغ والدعوة، سيلحق ضرراً بالدعوة الإسلامية. وكرّر شرح موقفه هذا مراراً وتكراراً سواء في خطبه للجماهير أو في مقالاته.([4])
إن من الخطأ النظر إلى حركة محمد فتح الله وكأنها حركة دينية صرفة. فإن لهذه الحركة سمة وماهية وغاية اجتماعية وثقافية. وقد تعود المحلّلون في الغرب على النظر إلى الحركات الدينية وكأنها حركات ردود فعل ضد الحداثة، يحاولون على الدوام تصنيفها في إطار نظريات الأزمات. وسنقوم بفحص وتدقيق هذه النظرة فيما بعد بشكل مفصل.
ولا يكفي قراءة أو استعمال المفاهيم الاجتماعية الحديثة للحركات حتى نفهم الشكل الصحيح لحركة فتح الله كولن. ويجب التأكيد أولاً على أن هذه الحركة ليست حركة رد فعل، وليس لها علاقة بثقافة الأحياء الشعبية الفقيرة أو ردود فعلها. وليس لها علاقة بالحياة القروية أو الريفية. لأن القائمين بحمل أعباء هذه الحركة هم أكثر أفراد المجتمع ثقافة وقابلية، وهم ينتسبون إلى أفضل طبقات المجتمع، وهم أبناء المدن.. تلقوا تعليماً عاليا،ً وعرفوا قيم العصر الحديث عن قرب. وهم كما لا يسعون لتشكيل دولة أيدولوجية، كذلك لا يقومون بنقد وردّ أي أيدولوجية للدولة ولا ينشطون لمعارضتها ومخالفتها. ولا يتصرفون حسب ردود الفعل تصرفاً راديكالياً، ولم يكن الفقر باعثهم في الحركة (؟؟؟). على النقيض من هذا لأن جميع تصرفاتهم وعلاقاتهم قائمة على أساس الحوار والتفاهم وقبول الآخر. وجميع تصرفاتهم وعلاقاتهم مع المجتمع ومع الأفراد الآخرين قائمة على أساس إيجابي. بدلاً من سلوك طريق القوة والعنف وطريق الهدم والانقلاب، سلكوا طريق تقديم البدائل دون أن يخلوا بالنظام القائم. فهذا في رأيهم أفضل وأكثر ثماراً. وأنت تجد في جميع علاقاتهم أنهم اتخذوا الفرد والمجتمع والإنسانية هدفاً وغاية لهم.
(56-55)
هل حركة “محمد فتح الله كولن” حركة صوفية وطريقة من الطرق الصوفية؟
مع وجود بعض أوجه الشبه بين الآليات الرئيسية لحركة فتح الله كولن، والطرق الصوفية الكلاسيكية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طراز التثقيف وفي طريقة تنظيم الحركة. لقد قام العالم الاجتماعي “ماكس ويبر” (Max Weber) بتحليل لجانب الزهد والتقشف في أديان آسيا في كتابه “البروتستانتية وأديان آسيا”. ومع أنه يمكن تحليل حركة فتح الله كولن من هذا الجانب بشكل جزئي، إلا أن حركة فتح الله كولن حركة منظمة ومجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم الفكرية والعملية التصوفية، مثل؛ التواضع.. التضحية.. الإخلاص.. ونذر النفس للدعوة.. والتوجه نحو الحق تعالى.. والعيش لإسعاد الآخرين.. وتقديم الخدمات دون مقابل.. والتوجه نحو الحياة الروحية والمعنوية والقلبية… ولكنها –على خلاف الطرق الصوفية– لا تجعل الإنسان يتقوقع على نفسه، بل يتوجه إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى المجتمع أيضاً. ومن هذه الزاوية فإن العمق الديني وشعور العبودية، يحملان أهدافاً اجتماعية أكثر شمولية وتكاملاً. ويطلق “ويبر” على هذا الأمر –حسب المصطلحات والمفاهيم التي طورها– تعبير “وضع العلاقات الدينية والاجتماعية على أساس عقلاني”. وحتى هذا التعبير لا يستطيع الإحاطة بديناميكية حركة فتح الله كولن الاجتماعية والثقافية والعقلية إحاطة تامة.
تتوجه الطرق الصوفية نحو العالم الداخلي الخاص والخفي للإنسان، وتحاول إضعاف علاقة سالكيها مع الشؤون الدنيوية ومع الحياة الاجتماعية ودفعهم إلى الحياة الروحية وتجاربها المختلفة، وتحمل المعاناة في هذه السبيل. ومع أن الطريقة الصوفية لا تنقطع تماماً عن الحياة الاجتماعية، إلا أنها تستمر في طريقها بقيود صارمة وتعليمات غير مرنة وغير منفتحة على العالم. أما حركة محمد فتح الله، فهي في خط مولانا “جلال الدين الرومي”، والشاعر المتصوف “يونس أَمْرَة”، والمتصوف “أحمد ياسَوي”. ولكنها تحمل محتوى اجتماعياً أوسع، وتكاد تكون صورة حديثة ومعاصرة لذلك الخط.
ونرى هنا أن “الشعور الديني” و”النشاط الاجتماعي” يسيران معاً في تلاؤم وبخط متوازٍ. فالتربية الدينية والتصوفية من ناحية، تزيد من العمق النفسي للإنسان ومن نضجه، ومن ناحية أخرى، تدفعه لاشتراك وتحقيق أهداف اجتماعية مشتركة. إن مفهوم “الخدمة” في حركة محمد فتح الله كولن يتوجه إلى روح نذر النفس في الإنسان لخدمة المجتمع. ومع أن هذا يتفق مع مفهوم تحمّل الألم والتقشف عند “ويبر” إلا أنه أكثر شمولاً وسعة وديمومة منه.
(57-56)
إن التدين الاعتيادي لا يستطيع حمل مثل هذه التضحية والصبر عليها، لأن حدود التدين الاعتيادي معلومة. فلكل من الصلاة والصوم والزكاة والحج..الخ، حدوده ومقداره ومقياسه المحدد. أما مفهوم “الخدمة” في حركة فتح الله كولن، فهو يعرض شمولاً أوسع وديمومة أكبر. وهو يستعين ليس بالقيم الدينية فقط بل بالقيم الملية والإنسانية والأخلاقية وبالعلاقات الاجتماعية كذلك. ويتبع طريقاً عقلياً ومعقولاً تجاه قيم الدولة والملّة في علاقاتها الاجتماعية. وعند ذكر “رجل الخدمة” تتبادر إلى الذهن صورة إنسان ناذرٍ نفسه للتضحية والإيثار وذي قلب واسع. وهذا الأمر يستوجب حباً كبيراً للدين وللأمة وللإنسانية. لذا فإن الذين انخرطوا في حركة محمد فتح الله كولن أشخاص مستعدون للتضحية عن حب وإيمان.([5])
حركة محمد فتح الله كولن والحوار وقبول الآخر
يُعد الحوار وقبول الآخر، أهم سمة من سمات حركة محمد فتح الله كولن وديناميكيتها. وهذان المفهومان اللذان تطورا بمقياس صغير في العالم، بدآ ينقلبان إلى سمة ثقافية على نطاق عالمي. إن العيش معاً دون نزاع أصبح من الأهداف ومن المشاكل التي تبحث الدول الحديثة عن وسائل تدعيمه ووضع فلسفته. ولم يكتسب الحوار وقبول الآخر في أي عهد من عهود التاريخ أهمية كأهميته الحالية، ولا كانت ثقافة الحوار ضرورية كضرورتها الآن. لأن جميع الامبراطوريات السابقة لم تكن مؤسسة على علاقات سياسية وقانونية مبنية على الحوار. بل كانت قائمة على أساس الصراع والحروب، وقد أسست الحضارات المختلفة جدراناً سميكة حولها، محافظة كل منها على هويتها السياسية والأيدولوجية والدينية. وأدّى هذا إلى صراعات لا بد منها فيما بينها وإلى حروب عديدة. وسادت “قوانين الحرب” في العلاقات الدولية طوال القرون الوسطى. ولم يقتصر هذا الأمر على العلاقات الدولية فحسب، بل ساد حتى في القوانين الداخلية للدول والامبراطوريات. إذ لم يكن يُسمح بأي اختلافات دينية أو عنصرية أو ثقافية. ولم يتم الاعتراف بحق هذه الاختلافات بالوجود. لذا تأسس نضال الإنسانية في ساحة الحضارة طوال القرون الوسطى على الصراع والشجار (58-57) والحروب. وقد تكون الدولة العثمانية الاستثناء الوحيد في هذا المجال. أما الآن فإن المفاهيم الجديدة التي أتت بها العولمة تسعى إلى وضع أسس الحوار والتفاهم وإرسائها بين الثقافات والحضارات المختلفة.
وهكذا فإن حركة فتح الله كولن تعدّ على المستوى الدولي، من أبرز محاولات البحث عن أرضية للحوار والتفاهم المشترك، وأبرز مثال لها. ويُسند محمد فتح الله هذه المحاولات بأدلّة دينية وفقهية وفلسفية. وما فعالياته في التعليم والتربية على المستوى الدولي، وتأسيسه المدارس العديدة في مختلف الدول، إلا لكي تكون هذه المدارس جسوراً بين الأديان والحضارات المختلفة.
وهو يرى أن على المسلمين ألا يقيموا هويتهم الثقافية والاجتماعية على أسس من الصراع والنزاع، فهذه الأسس أسس هدامة، ولا تتفق مع القيم الإنسانية والعالمية للإسلام. ولم تكن الحروب الطويلة الأمد في العهود السابقة، إلا نتيجة لمشكلة هيمنة منطق القوة على العلاقات الدولية. وقد كان من الممكن أن ينطبق هذا على جميع الامبراطوريات السابقة وعلى ظهور وانتشار جميع الأديان. ولكن لا تستطيع الإنسانية الآن تحمل تبعات هذا النزاع في الصراع على المستوى العالمي. علماً بأن منظومة القيم الإسلامية قائمة على “السلام، والحوار المتبادل وقبول الآخر”. وقد طبق الرسول r هذه القيم في دولته في المدينة المنورة. كان أهل المدينة ينتسبون إلى أديان وثقافات مختلفة. لقد تصرف الرسول r ضمن قيم تعدّ متفوقة –للمرة الأولى في التاريخ– على قيم حقوق الإنسان الدولية المعلنة. وترينا هذه الوثائق التاريخية، كيف تم الاعتراف بالخصائص الدينية والثقافية المختلفة، وحقوق كل جماعة ومسؤوليتها على أساس من الاعتراف المتبادل. وحسب هذه الوثائق والمعاهدات، فإن غير المسلمين أحرار في أديانهم وتفكيرهم وطرز معيشتهم وعباداتهم دون أن يتدخل أحد في هذه الأمور. بل يمكنهم العيش مع المسلمين كشركاء على أساس من الحرية الدينية والقانونية والثقافية، وضمن نظام يسمح بالتعددية. وقد قام علي بن أبي طالب t في الرسالة التي بعثها إلى مالك بن اشتر (واليه في مصر) بصياغة قانونية لهذا النظام.
وحسب نظرة علي t فإن الناس ينقسمون في البلدان التي يحكمها المسلمون إلى مجموعتين رئيسيتين؛ إحداهما هم المسلمون الذين يعدون إخواناً لنا في الدين، والأخرى هم غير المسلمين الذين يشبهوننا في الخلق ويساوونا على الصعيد الإنساني. وتملك كلتا المجموعتين حقوقاً يجب الحفاظ عليها. ولا نشاهد في التاريخ ثقافة يسّرت للغير مثل هذه القاعدة الإنسانية التي تسمو بها. والحقيقة أن هذا التعريف الصادر من علي t يستند في الحقيقة وبشكل غير مباشر (59-58) إلى الحديث النبوي الشريف (كلكم لآدم وآدم من تراب).
كانت علاقات المسلمين الأوائل بالأمم وبالثقافات الأخرى، قائمة تماماً على أسس إنسانية وأخلاقية. وبعد مرور ستة عصور على ظهور الإسلام، وقعت حادثة أظهرت مدى حساسية الإسلام في هذا الموضوع. ففي القرن الثالث عشر، استولى المغول على الشام وأسروا العديد من المسلمين، وكذلك من المسيحيين واليهود الذين كانوا يعيشون في حماية المسلمين. وقد ذهب العالم الإسلامي الشهير “تقي الدين بن تيمية” إلى “قتلو شاه” قائد المغول ليفاوضه في أمر الأسرى. لم يكن المغول يميلون إلى إطلاق سراح المسيحيين واليهود. ولكن ابن تيمية قال له في أسلوب صارم وقاطع: “إن لم تطلقوا سراح جميع الأسرى فلن تنتهي الحرب. المسيحيون واليهود في ذمتنا وتحت حمايتنا، لا نقبل أن يبقى منهم أسير واحد”. وعندما رأى القائد المغولي الموقف الذي لا يتزحزح للمسلمين، قَبِل بإطلاق سراح جميع الأسرى.([6])
هكذا كان موقف الإسلام من العلاقات القائمة بين الناس. وطوال العهود التي ارتبط المسلمون فيها بأسس الحوار وقبول الآخر، نشروا حمايتهم وضمنوا حرية غير المسلمين الذين عاشوا معهم، وحقّقوا حرية عقائدهم وثقافاتهم وطوروها ووسعوها. وقد ساعد هذا طوال عدة عصور على تطور مبدأ الجماعية في النواحي الثقافية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية. وتعد الدولة العثمانية مثالاً جيداً في هذا الأمر.
إن حركة محمد فتح الله كولن تحاول اليوم توسيع هذه “الجماعية” و”التعددية” المستندة إلى الحوار وقبول الآخر. ولا شك أن “الجماعية” في السابق كانت محددة بالأسس الدينية. إلا أن هناك اليوم حاجة إلى أسس ثقافية وسياسية كذلك. ومن الضروري اشتراك أشخاص منتسبين لحضارات مختلفة في هذه الجهود بشكل إيجابي وفعّال، لكي يمكن تحقيق ثقافة الحوار وقبول الآخر. وهناك قيم إنسانية وعالمية في ماضي كل أمة، وفي ميراثها الثقافي وطراز حياتها الثقافية، تدعو إلى التسامح تجاه طرز الحياة الثقافية المختلفة. ويجب إظهار هذه القيم لمنتسبيها وتعليمها لهم لكي يمكن تأسيس “جماعية” يمكن العيش في ظلها في الدنيا، لكي تجد حركة فتح الله كولن وجهودها أرضاً صالحة.
([2]) المقصود: مصطفى كمال أتاتورك. (المترجم)
([4]) M. F. Gülen, Yeşeren Düşünceler, s. 96; Ruhumuzun Heykelini Dikerken, s. 107, 128,139; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 11, 82, 86; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 179; Kendi Dünyamızıa Doğru, s. 38; Kırık Testi, s. 110; Sohbet-i Canan, s. 108, 120-126; Fasıldan Fasıla, 1/137-138, 2/232, 4/159; İsmail Ünal, M. F. Gülen’le Amerika’da Bir Ay, s. 96; Mehmet Gündem, M. F. Gülen’le 11 Gün, s. 235
([5]) M. F. Gülen, Ölçü veya Yoldaki Işıklar, s. 107-108; 192; Yeşeren Düşünceler, s. 110, 142; Işığın Göründüğü Ufuk, s. 35; Örnekleri Kendinden Bir Hareket, s. 117; Fasıldan Fasıla, 2/127; Sohbet-i Canan, s. 125
([6]) انظر إلى: د. يوسف القرضاوي “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي”، ص:10
Leave a Reply